بقلم – د. أسامة عبد التواب
كان اندلاع الثورة الجزائرية فى الأول من نوفمبر ١٩٥٤ قد مثَّل خطوة حاسمة فى سبيل اهتزاز أركان الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، ومثَّل انطلاقة قوية فى حركة التحرر الوطنى العربى والإفريقى والعالمي. والحقيقة أن الثورة الجزائرية لم تعتمد فقط على الكفاح المسلح تجاه السلطات الاستعمارية الفرنسية الغاشمة وإنما اعتمدت أيضًا على العمل الدبلوماسى التفاوضى مع الحكومات الفرنسية المتعاقبة، والمؤكد أن المعركة الدبلوماسية التى استندت إلى الضغوط الدولية التى مورست من قِبَل القوى الثورية العالمية كانت لها الكلمة النهائية فى طريق حصول الجزائر على استقلالها فى عام ١٩٦٢، ورغم ذلك فقد كان الكفاح المسلح عنصرًا ضاغطًا على صانع القرار الفرنسى لتقديم التنازلات أثناء المفاوضات حتى منح الاستقلال فى نهاية المطاف حتى إنه كان المطلب الأساسى داخل المفاوضات هو وقف جبهة التحرير الجزائرية لإطلاق النار. وهنا نرصد مسار المفاوضات النهائية بين القادة الجزائريين وحكومة الجمهورية الفرنسية الخامسة بقيادة شارل ديجول، وتأثير الضغوط الدولية على مسار المفاوضات حتى حصول الجزائر على استقلالها.
لم تبدأ المفاوضات بشكل مباشر بين الطرفين فور وصول ديجول لرئاسة وزراء فرنسا فى يونيه ١٩٥٨ بل بدأت قبل ذلك عند وصول حكومة جى موليه للحكم فى فرنسا من فبراير ١٩٥٦؛ حيث جاء للحكم ومعه مشروع سياسى للتفاوض مع الجزائريين لكن بشرط ألا يكون هناك أى انفصال عن فرنسا، وكانت خطته تتمثل فى محاولة إنشاء مجلس تشريعى محلى فى الجزائر يقوم بإصدار قوانين لا تنطبق على الأوربيين وإنشاء نظام سياسى يتمتع بالاستقلال الذاتى فقط، وكان يحبذ فكرة عقد مفاوضات بشكل المائدة المستديرة يمثل فيها الشعب الجزائرى كافة الحركات السياسية بالإضافة لجبهة التحرير الجزائرية الأمر الذى رفضته الجبهة جملة وتفصيلًا واعتبرت أنها فقط هى الممثلة لكافة أطياف الشعب الجزائري، وأخيرًا أراد جى موليه أن يحافظ على حكومته فأراد أن يكسب أصوات الأحزاب اليمينية الفرنسية فاتجه مرة أخرى لاستعمال القوة العسكرية للقضاء على الثورة الجزائرية. وزاد من تعقيد الموقف ما قامت به السلطات الفرنسية فى أكتوبر عام ١٩٥٦؛ فمما لاشك فيه أن فرنسا لم ترِد أن تشتت جهودها بالتصدى للحركات الوطنية فى تونس والمغرب عن تركيزها فى مواجهة الثورة الجزائرية، ولذلك منحت الاستقلال لكلتا الدولتين، وفى هذا التوقيت برزت فكرة اتحاد مغاربى بين المغرب وتونس لمساندة الثورة الجزائرية أو احتوائها، وبالفعل سافر وفد من قادة جبهة التحرير الجزائرية إلى المغرب للاجتماع مع الملك محمد الخامس، وكان مقررًا بعد ذلك أن يغادر إلى تونس فى ٢٢ أكتوبر ١٩٥٦، ولكن قامت المخابرات الفرنسية باختطاف الطائرة التى كانت تقل الوفد الجزائرى ونقلتهم إلى باريس، مما اعتبر تصعيدًا فرنسيًا خطيرًا استلزم وقف المفاوضات من الجانب الجزائري، واستمر الوضع كذلك حتى جاءت حكومة ديجول للحكم فى فرنسا فى يونيه ١٩٥٨.
كان السبب الرئيس لسقوط الجمهورية الفرنسية الرابعة هو فشل الأحزاب الفرنسية فى إيجاد حل للأزمة الجزائرية وعدم المقدرة على مواجهة الأوربيين الرافضين لتفاوض الحكومة الفرنسية مع جبهة التحرير الجزائرية، وأيضًا الانهيار الاقتصادى بسبب الحرب فى الجزائر، وأيضًا قوة الضغط العالمى على فرنسا، وعند قيام الجمهورية الفرنسية الخامسة فى يونيه ١٩٥٨ كانت قد زادت وتبلورت الضغوط الدولية على السياسات الفرنسية فى الجزائر، ففى الوقت الذى قادت فيه الحكومة المصرية وباقى دول عدم الانحياز موقفًا دوليًا قويًا وموحدًا فى كافة المحافل والمؤتمرات الدولية، برزت أيضًا الدول الأوربية المستقلة والتى عقدت مؤتمرها الأول فى أكرا فى ١٥ أبريل ١٩٥٨؛ حيث استطاعت الجمهورية العربية المتحدة وغانا إدراج القضية الجزائرية ضمن قضايا المؤتمر، وأتيحت لممثلى جبهة التحرير الجزائرية فرصة لعرض قضيتهم باعتبارها ثورة إفريقية بجانب كونها ثورة عربية، وكان هذا خطًا ذكيًا فى استراتيجية الثورة الجزائرية استفادت منه الجزائر التى حصلت على تأييد الأفارقة، كما أفاد ذلك كثيرًا فى تدعيم الصلة بين العرب وبقية الأفارقة، وكان نتيجة ذلك أن اعترف المؤتمر بجبهة التحرير الجزائرية باعتبارها الممثل الشرعى للجزائر، وقد أسفر ذلك عن أن تضمنت قرارات المؤتمر بندًا منفصلًا لمساندة الثورة الجزائرية تضمن الاعتراف بحق شعب الجزائر فى الاستقلال وتقرير المصير، وسحب فرنسا قواتها لوقف الأعمال العدائية، وضرورة بدء المفاوضات بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير الوطنى الجزائرية، كما تضمن القرار إرسال البعثات الدبلوماسية لجمع المزيد من الأصوات لتأييد القرار الخاص بالجزائر فى الأمم المتحدة، وكان نتيجة هذا التحرك أن أشار قرار الأمم المتحدة الخاص بالجزائر فى هذه الدورة ١٩٥٨ لأول مرة إلى وجود الحرب الجزائرية، ولم تنظر لما يحدث فى الجزائر باعتباره من شئون فرنسا الداخلية كما كان الوضع قبل ذلك.
شعر ديجول منذ البداية بأن الذين جاءوا به للحكم هم أصحاب النفوذ السياسى والعسكرى فى الجزائر، والذين كانوا منذ البداية ضد التفاوض مع جبهة التحرير الجزائرية، وكانوا رافضين للتنازل عن جميع المكتسبات التى حصلوا عليها فى العهد الاستعماري، وبذلك وجد رئيس الوزراء الفرنسى نفسه فى موقف حرج، فكان عليه لكى يتفاوض مع جبهة التحرير الجزائرية أن يخلق النفوذ والتأييد الشعبى لسياساته الجديدة وتقوية مؤسسات الدولة الفرنسية حتى تصبح حكومة باريس هى التى تتحكم فى الأمور وأن تكون قادرة على مواجهة قادة الجيش وزعماء الجالية الأوربية الذين تعودوا على التمرد على أية حكومة فرنسية والإطاحة بها إن رفضت الخضوع لمطالبهم. ولذلك قام ديجول بتنظيم استفتاء شعبى على سياسته الجديدة تجاه العسكريين الفرنسيين واحترام حق جميع الشعوب فى تقرير مصيرهم وحل المنظمات اليمينية الفرنسية وإيجاد حل تفاوضى للقضية الجزائرية، وقد وافق الشعب الفرنسى بنسبة ٧٦٪، وفى ٨ يناير ١٩٥٩ خطب ديجول للشعب الفرنسى بمناسبة توليه رئاسة الجمهورية الفرنسية الخامسة وأوضح أن الجزائر فى حاجة إلى تهدئة وإعطائها شخصيتها الخاصة بها على أن تبقى متعاونة مع فرنسا، وفى ٢٥ مارس ١٩٥٩ أعلن عن فكرة ( الجزائر الجزائرية)، وقد تبلور موقف ديجول من القضية الجزائرية فى خطابه للشعب الفرنسى ١٦ سبتمبر ١٩٥٩ عندما أكد بأنه حان الوقت لإعطاء الفرصة للجزائريين لكى يعبروا عن مستقبلهم ويقرروا مصيرهم بأنفسهم.
أمام هذه السياسة تحرك القادة العسكريون الفرنسيون بالتعاون مع مراكز القوى الممثلين فى زعماء الجاليات الأوربية، وقد قاموا بعدة محاولات للتمرد على ديجول فى الجزائر وفرنسا، وكانت تهدف إلى الضغط على رئيس الدولة أو الإطاحة به إن أمكن، لكن ديجول لم يستسلم لهذه الحركات وخرج منتصرًا من هذه المواجهة فى يناير ١٩٦٠، لأن الرأى العام الفرنسى لم يؤيد المتمردين فى الجزائر، واستجاب الجنود لنداء ديجول وأعادوا الأمن لنصابه، وقام ديجول بتقليم أظافر القادة العسكريين فى الجزائر واستبدلهم بغيرهم، وقام بنزع سلطاتهم المدنية ومنحها للشرطة داخل الجزائر، ومن هنا بدأ ديجول التحرك بحرية تجاه قادة الثورة الجزائرية لمحاولة الوصول معهم لحل لوقف إطلاق النار والتوصل لتسوية سلمية للقضية الجزائرية.
على الجانب الآخر قامت جبهة التحرير الجزائرية فى ١٩ سبتمبر ١٩٥٨ بتأسيس حكومة وطنية مؤقتة، وقد تم تأسيسها فى القاهرة، ثم اتجهت إلى تونس ثم طرابلس، وكان لها مكاتب داخل الجزائر نفسها، وقد كان مسئولو الخارجية والإعلام فى هذه الحكومة هم من بيدهم ملف المفاوضات مع الجانب الفرنسي. وفى مايو ١٩٦٠ بدأت المفاوضات بين الجانبين، والحقيقة أن هذه المفاوضات كانت شاقة وتخللها الكثير من فترات التوتر بين الجانب الفرنسى والجانب الجزائري، فمثلما كانت الظروف الداخلية لفرنسا قد مثلت حجر عثرة أمام الجانب الفرنسى للتفاوض مع جبهة التحرير الجزائرية كانت الظروف الداخلية للأحزاب والحركات السياسية الجزائرية قد ساهمت فى محاولات تفريغ الحركة الوطنية من مضمونها الثورى والتحرري، وقد لعب ديجول فى بداية المفاوضات على شق الصف الجزائرى والتفاوض مع حركات أخرى غير الحكومة الوطنية المعبرة عن جبهة التحرير الجزائرية، ولكن فى النهاية فشلت الحكومة الفرنسية فى أهدافها الاستعمارية، وأصبح واضحًا للفرنسيين أنه لا مناص من التفاوض مع الحكومة الوطنية الجزائرية، وكانت جبهة التحرير الجزائرية قد عملت كثيرًا على تغيير قادة الحكومة الوطنية تبعًا لضغوط داخلية أو تدخل أطراف إقليمية مؤثرة فى الجبهة. وفى البداية تعثرت المفاوضات بين الجانبين لأن الفرنسيين أرادوا وقف إطلاق النار قبل أية تسوية سياسية، وأيضًا ظهرت رغبة الجانب الفرنسى فى التفاوض مع كافة الأطراف فى الجزائر من خلال المائدة المستديرة، ولكن أكد المفاوضون الجزائريون أن جبهة التحرير الجزائرية هى المعبر الوحيد عن الشعب الجزائري.
أيضًا كانت هناك قضية أخرى مثلت حجر عثرة فى تقدم المفاوضات بين الجانبين الفرنسى والجزائرى وهى قضية الصحراء الجزائرية؛ حيث كانت فرنسا تعتزم التمسك بالصحراء لأهميتها الاقتصادية والاستراتيجية، نظرًا للمنشآت النفطية الهائلة والتى كانت تستغلها فرنسا، حتى إن ديجول قد أكد أن فرنسا ستتخذ كافة الإجراءات اللازمة مهما كان الأمر لاستغلال ونقل وشحن النفط الصحراوى الذى هو ثمار فرنسا ويهم كل القوى الغربية، وكانت هذه النقطة هى السبب الرئيس فى مد أجل المفاوضات حتى النصف الأول من عام ١٩٦٢. كما أرادت فرنسا استغلال الصحراء استراتيجيًا بالقيام بالتجارب الذرية فيها، وقد واجهت فرنسا العديد من الانتقادات الدولية وخاصة القوى الإفريقية والتى كانت فى خطر مباشر من هذه التجارب، وقامت دول مثل الجمهورية العربية المتحدة وغانا وغينيا ومالى بتنسيق الخطوات فيما بينهم من أجل الضغط على فرنسا إقليميًا ودوليًا، ولكن فرنسا لم تأبه بهذه الاعتراضات وقامت بثلاث تجارب فى عامى ١٩٥٩ و ١٩٦٠.
فى هذا الوقت بدأت الجمهورية العربية المتحدة وغيرها من القوى الثورية فى إفريقيا وآسيا حشد الجهود لدعم حكومة الجزائر المؤقتة دوليًا سواء بشكل فردى أو فى المحافل الدولية، وأمام هذا الضغط قامت فرنسا بمنح الاستقلال الاسمى للدول الفرنسية فى غرب ووسط إفريقيا فى منتصف عام ١٩٦٠ حتى تضمن تأييدًا قويًا فى الأمم المتحدة أمام القوى الثورية المؤيدة لاستقلال الجزائر، وبالفعل أفشلت فرنسا جهود القوى المؤيدة للشعب الجزائري، وبالتالى قامت مجموعة الدار البيضاء بدعوة حكومة الجزائر المؤقتة فى اجتماعها التأسيسى فى المغرب فى يناير ١٩٦١، كما انسحبت هذه الدول من مؤتمر منروفيا احتجاجًا على عدم دعوة حكومة الجزائر المؤقتة، كما نجحت مصر وغانا فى دعم الحكومة المؤقتة فى مؤتمر بلجراد لعدم الانحياز فى سبتمبر ١٩٦١، وكان تمثيلها فى المؤتمر قد مثل دفعة قوية للتسوية النهائية بين الجانبين الفرنسى والجزائري.
ومنذ منتصف عام ١٩٦١ قامت الحكومة السويسرية بالتوسط بين الجانبين بغية تسريع المفاوضات وتقريب وجهات النظر، وكانت القضايا الخلافية هى نوع الحكم الذاتي، وموقف الصحراء، وموعد وقف إطلاق النار، وموقف الجالية الأوربية فى الجزائر، وموقف جبهة التحرير الجزائرية. وقد تعقدت المفاوضات أكثر من مرة، وانتقلت من الناحية الرسمية للناحية السرية عدة مرات، وكانت هناك مطالب بتفاوض المسئولين الجزائريين مع الوفد الجزائرى المحتجز فى باريس. وبعد جميع هذه الأحداث العاصفة توصل الطرفان لاتفاق إيفيان فى ١٨ مارس ١٩٦٢، وتم وقف إطلاق النار فى اليوم التالى مباشرة، وفى ٢٠ مارس أفرجت فرنسا عن الزعماء الخمسة المحتجزين لديها، وكانت الاتفاقية قد تضمنت العديد من البنود، إطلاق سراح المساجين السياسيين خلال عشرين يومًا من وقف إطلاق النار، وانسحاب الجيش الفرنسى من الجزائر بعد إجراء الاستفتاء الخاص بتقرير المصير، وأيضًا لجنة الإشراف على الاستفتاء الخاص بحق تقرير المصير، وتم حسم مصير الأوربيين فى الجزائر باحتفاظهم بجنسياتهم لمدة ثلاث سنوات ثم الاختيار بين الجنسيتين الفرنسية والجزائرية، يحتفظ الأوربيون بأملاكهم وإذا حدث تأميم لها فيحصل أصحابها على التعويضات المناسبة، وتسمح الجزائر لفرنسا باستخدام قاعدة المرسى الكبير لمدة خمسة عشر عامًا قابلة للتجديد بعد اتفاق الجانبين، وأن يجرى الاستفتاء فى كافة ولايات القطر الجزائرى وعددهم خمس وثلاثون ولاية.
وفى النهاية جرى الاستفتاء الخاص بتقرير المصير فى ٣ يوليو ١٩٦٢ حيث اختار الشعب الجزائرى الاستقلال التام دون الارتباط بأى شكل من أشكال التعاون مع فرنسا، وبهذه النتيجة الإيجابية انتصرت إرادة الشعب الجزائرى وذلك باسترجاع السيادة الوطنية على كافة أراضيه واسترداد حرية أبنائه المسلوبة واستعادة كرامة مواطنيه وإنهاء عهد الاحتلال الأوربى الذى دام لمائة واثنين وثلاثين عامًا.