الخميس 20 يونيو 2024

صــــرخة أفريقيــــة

22-3-2017 | 12:43

بقلم –  أ.د/ السيد فليفل

على الرغم من كل الزخم الذى تحقق فى مسيرة الاتحاد الأفريقى منذ كان فكرة فى عهد نكروما، ومن قبله دعاة الوحدة الأفريقية، إلى الرفاق عبد الناصر ونيريرى وهيلا سيلاسى وسيكوتوري، إلى أن حولها العقيد الراحل معمر القذافى إلى مؤسسة فاعلة وإلى الآن، فإن هذه المسيرة تستدعى منا وقفة للتأمل نأخذ فيها أنفاسنا، ونتنسم هواء القارة العليل فى محاولة لتبين مواطئ الأقدام ومراجعة ما جرى من المسيرة ومدى نجاحه، والأهم إدراك المعوقات التى تعتمل فى هذه المسيرة فى الوقت الراهن.

من الممكن أن نحدد عددًا من العقبات التى تعترض هذه المسيرة على النحو التالي:

أولا- تحديات بنيوية

أن المسيرة افتقدت قيادة كبيرة مثل العقيد القذافى الذى كان يرعى مفوضية الاتحاد الأفريقى، ويجنبها الاعتماد على المانحين الدوليين، على اعتبار أنه يرى أن هذا الأسلوب هو الضامن لاستقلالية القرار الأفريقي.

أن القارة الأفريقية شهدت ما جرى من التخلص من القذافى بأسلوب فج ساقط وكذوب ومدعِ دون أن يتحرك القادة الأفارقة ولو بأسلوب الاعتراض أو الاستهجان تاركين ذلك للشعوب الأفريقية وحدها. وقد جردوها من القرار الذى احتكروه لأنفسهم.

أن مسيرة الاتحاد الأفريقى فى مجال الأمن والسلم الأفريقيين وقعت فى خطأ الاعتماد على المجتمع الدولى، والذى لم يكن منصفًا فى دعم القدرات الأفريقية، بقدر ما كانت القوى الكبرى حريصة على انتهاز هذه المنازعات الأفريقية لدعم وجودها، إلى الحد الذى ركبت فيه مجلس الأمن والسلم الأفريقى، ووجهته كما جرى فى الحالة فى كل من دارفور وجنوب السودان. ولاشك أن ذلك أفقد المجلس جزءًا كبيرًا من استقلاليته من ناحية، بل إن بعض القوى الأفريقية عملت على انتهاز الفرصة للتواطؤ مع القوى الكبرى كى تنال نصيبًا من النفوذ الإقليمي.

أن بعض هذه القوى الأفريقية لم يكن هدفها فقط النفوذ الإقليمى، بل كانت أيضًا تهدف إلى إضعاف قوى أفريقية أخرى والاستحواذ على مكانتها والتبرع بخدمة قوى التدخل الأجنبى، ما دام ذلك يحقق لها أن تسبق قوى إقليمية أخرى بعينها.

إن المجتمع الدولى وضع بذرة للخلاف بين القوى الإقليمية الأفريقية بادعاء أنه بصدد عملية مقرطة الأمم المتحدة، أى جعلها أكثر ديمقراطية وفتح الباب لتمثيل القوى الإقليمية حول العالم بما فى ذلك فى أفريقيا، وهو الأمر الذى أدى إلى أن تنشغل القوى الإقليمية الأفريقية بأن تشغب القوى الأفريقية الإقليمية إحداها على الأخرى، وتطرح نفسها باعتبارها الأولى بمقعد مفترض فى مجلس الأمن واستمر انتظارهم له ربع قرن أو يزيد.

إن الاتحاد الأفريقي، وعلى الرغم من أنه وضع تصورًا لتنمية أفريقية شاملة (٢٠٢٠-٢٠٦٣)، بل إنه وضع تصورات فرعية فى إطار هذه الخطة الطموح، إلا أنه آخر الأمر لم يقدم نموذجًا فعالًا على إنفاذ ما يريد وجعله قضية الشعوب الأفريقية، بل تركت الحكومات لتتسلل من برامج التنمية المطروحة دون أن تكون القمم الأفريقية أداة فاعلة فى المراجعة، بل انشغلت القمم فى القضايا السياسية الآنية وفى الخلافات الوقتية، دون النظر إلى الأبعاد الاستراتيجية والمستقبلية، ودون أن تعين مسئولًا عن إنفاذ مسيرة المستقبل التى اتفقت عليها دول القارة، فلا توجد خطة تنمية بغير مدير للتنمية.

أنه على الرغم من أن عودة مصر إلى مسيرة العمل الأفريقى على يد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وعلى الرغم من أنه بادر إلى عقد العديد من اللقاءات والاجتماعات التى هدفت إلى تجميع التكتلات الاقتصادية من ناحية، وطرح أفكار حول دعم البنية الأساسية وبصفة خاصة قطاع النقل بكافة أشكاله النهرى والبحرى والبرى والجوي، كذلك وعلى الرغم من الجهود التى بذلها من أجل التصدى للإرهاب عبر عقد لقاء مهم لمسئولى الأمن والدفاع فى تجمع الساحل والصحراء، فإن القارة الأفريقية لم تزل تتعامل مع هذه الملتقيات بشكل مؤقت، ولم تنجح حتى الساعة فى التقاط الخيط الذى طرحه الرئيس المصرى لبناء نظام أمنى أفريقى ذاتى قادر على الصمود والاعتماد على الذات.

على جانب آخر فإن بعض الدول الأفريقية لم تكتف بأن تثير العقبات أمام مسيرة الاتحاد، أو أن تتصرف بأنانية، بل زادت على ذلك بإثارة المشكلات فى دول جوارها محتضنة جماعات إرهابية أو داعمة لها، أو التدخل بزعم مقاومتها، دون أن تكون صادقة فى زعمها هذا. ولا تزال مشكلة الدعم المتبادل لقوى المعارضة واحدة من مشكلات القارة عبر الحدود. ومع ذلك قد يلتقى الرؤساء فى القمم ويتبادلون القبلات ثم ينصرفون دون مصارحة.

والأسوأ من هذا كله هو ذلك الاعتماد على القوى الخارجية الذى وصل إلى حد تكليفها بأعباء وواجبات قوى الأمن الداخلى أو الجيوش الوطنية، الأمر الذى أعطى للقارة صورة سلبية، وأظهر دولها على نحو من الهشاشة التى لا تستقيم معها سيادة ولا تستقيم معها عزة أو كرامة.

الشيء الصادم بعد ذلك أن تعلن الولايات المتحدة عن تأسيس قوة للتدخل فى الشئون الأفريقية، وأن تجتمع القمم الأفريقية دون أن تعلن رفضها لهذا الإجراء الأحادي، والأشد من ذلك صدمة أن دخلت عشرات الدول اتفاقات لتسهيل وصول القوات الأمريكية حال تدخلها وتوفير قواعد لوجيستية لإقامتها وتحركاتها ليس فقط داخل الدولة الأفريقية المعلومة، ولكن أيضا داخل عدة دول مجاورة.

والطامة الكبرى أن بعض الدول صارت ركائز إقليمية للحركة الأمريكية فى هذا الاتجاه؛ حتى إنها وقعت مع الولايات المتحدة اتفاقات إضافية تنص على عدم خضوع الجنود الأمريكان؛ إذا ما اقترفوا أية جريمة على أراضى هذه الدول لأية محاكمة عسكرية أو تحقيق، وألا تتدخل هذه الدول لعرض قضيتها على المحكمة الجنائية الدولية. فيما يمكن اعتباره تملصًا أمريكيًا من المحكمة الجنائية الدولية التى وظفتها واشنطن لمحاسبة عدد من الرؤساء الأفارقة وغير الأفارقة.

ثانيًا- تحديات عنصرية:

على الرغم من أن أفريقيا تمارس الاستقلال منذ ما قبل الستينيات من القرن الماضى، وتحظى بعضوية المنظمات والهيئات الدولية ولديها منظمتها الإقليمية الكبرى وهى الاتحاد الأفريقى، إلا أن كل ذلك بات داخلًا فى تحدٍ كبير ذى طبيعة أيديولوجية. فأفريقيا التى احتفلت مع مانديلا برئاسة أفريقية لأكبر الدول العنصرية فى القارة باتت أمام تحد عنصرى كبير يوشك أن يعصف باستقلالها، وبصفة خاصة بالتغير الكبير الذى جرى فى جنوب أفريقيا. ولا يرجع ذلك فقط إلى الأسباب التى ذكرناها من قبل والتى تضعف الموقف الأفريقى فى مواجهة العالم، ولكن يرجع ذلك إلى مجموعة أخرى من الأسباب على النحو التالي:

تصاعد النعرات العنصرية فى دول الناتو ولاسيما الدول الكبرى فيه، يستوى فى ذلك قوى الناتو فى شرق الأطلنطى أم قوى الناتو فى غرب الأطلنطي. ولقد ظهرت جماعات النازيين الجدد وأشباههم فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين ظهورا بينا واضحا لا لبس فيه ولا خفاء، ولم تعد أجهزة الشرطة تلاحق النازيين المتطرفين ولا تعتدى عليهم ولا تخضعهم للملاحقة الأمنية ولا تقدمهم لأجهزة العدالة، إنما صارت تتعامل معهم ظاهرة طبيعية جديدة فى المجتمع.

توالى أفول الأنظمة الليبرالية والاشتراكية فى أوروبا، وبات المنافسون اليمينيون الذين يعانون رهاب الأجانب ورهاب الإسلام ويعانون كراهية كل ما ليس أوروبيًا يطلون برؤوسهم فى أية انتخابات فى الدول الأوروبية، وبصفة خاصة فى الدول الغربية التى هى أساس حلف الأطلنطى القديم والمؤمنة بالمذاهب الكاثوليكية والإنجيلية حتى صارت تعد الأوفر حظا فى الانتخابات القادمة فى دولة مثل فرنسا، لم تعرف يمينًا حاكما غير اليمين الديجولى الذى سبق له أن وافق على منح الاستقلال للدول الأفريقية؛ فإذا باليمين الجديد يرى الدول الأفريقية غير جديرة بهذا الاستقلال، ويرى أنها أولى بالتبعية لفرنسا وأن المنظمة الفرانكفونية ليست منظمة متساوية الأطراف بل إن فرنسا قائد كبير لمجموعة من الأتباع أو الأفصال الإقليميين السود.

بات اليمين الأوروبى يرى أن تدخله فى أفريقيا لإنقاذها من الإرهاب الإسلامى، أو أن تدخله فى سوريا أو العراق لمقاومة الدواعش هو أمر خاطئ، فإنه ينبغى أن تترك هذه البلاد لهذه الأطراف ينهك بعضها بعضًا، ويقتل بعضها بعضًا ريثما تتوفر الفرصة للدخول إليها وتنمية ثرواتها وأخذها لأوروبا، ما دامت أوروبا صارت قبلة لمهاجريها، كى تنفق عليهم من أموالهم لا أن تتحمل أعباءهم.

وأما ترامب فإنه شأن آخر، لقد عاد بالولايات المتحدة من موقف القوة الأولى فى العالم إلى القبول بأنها الأولى بين أقرانها، ومن ثم فإن لها مصالح وطنية لابد أن تؤديها ولا يعنيها قيادة العالم إلا بقدر الحفاظ على هذه المصالح، وأنها فى هذا الصدد دولة أوروبية أصلًا جاء إليها الملونون سواء فى عصر الرقيق أو فى الوقت الراهن (العناصر الأسبانيولية من المكسيك)؛ كى يحلوا محل العمالة الأمريكية فى الأعمال متدنية الكفاءة بعدما بدأت الصناعة الأمريكية تتجه إلى الأوساط العليا من التكنولوجيا (هايتك Hi-Tech) ولما كانت الولايات المتحدة قد قررت التخلى عن الصناعات التقليدية فى تكرير البترول واستخراج الغاز والملابس والغزل والنسيج وغيرها من الصناعات الملوثة للبيئة ونقلتها حول العالم، فلماذا يأتى هؤلاء إلى الولايات المتحدة؛ فليعودوا إلى أوطانهم لتبقى الولايات المتحدة قاعدة بيضاء أوروبية لا شية فيها.

على ذلك فإن الولايات المتحدة- كأية دولة وطنية فى العالم- من حقها أن تبنى أسوارًا حاجزة دون تقدم هذه العناصر غير الأمريكية (غير البيضاء) إلى أراضيها، ومن ثم فقد اقتبس ترامب من الصهاينة سور الفصل العنصرى الذى أرادوا به أن يحجزوا الفلسطينيين عن الدولة العبرية وهو سور حاوله الشيوعيون فى برلين وسقط، فكأنما يجرب فيما جرت تجربته ويستحيل أن يستمر.

لم تقف أفريقيا لتتأمل: أين هذا الذى يجرى من استقلالنا؟ وأين هذا الذى يجرى من حديث العالم عن العولمة ووحدة العالم والقرية الكونية ورسالة القيادة الأمريكية حول الديمقراطية وحول حرية الأسواق؟ وأين هذا من النافتا واتفاقية حرية التجارة بين دول أمريكا الشمالية؟ وأين هذا من كل ما قيل عن منظمة التجارة العالمية؟ والسوق العالمى الواحد والتجارة الإلكترونية والعالم المنساب والديمقراطية فى المنظمة الدولية وفى الأنظمة السياسية. تبدو أفريقيا وغيرها من دول العالم الثالث قد استيقظت على وهم كبير يدور حول المصالح الأنانية وحول المركزية الأوروبية، وبتنا نسمع عن عودة الاستعمار وعن عدم قابلية الأفارقة للتطور والتغير والتقدم وعدم صلاحيتهم لاستيعاب التقدم التكنولوجى والثورة الإلكترونية.

وقفة لابد منها

هل آن لأفريقيا أن تدرك هذه الحقائق؟ وهل يجب عليها أن تعقد مؤتمرًا لدراسة ما يجرى فى العالم من متغيرات؟ وهل يقتضى الأمر منها ومن كل دولها أن تتشاور مع أقطاب العالم غير الأوروبيين لصناعة عالم آخر أو عالم ثانٍ، أو بمعنى أصح عالم أول مكرر متعاضد متعاون متماسك رافض للهيمنة الغربية ورافض للمركزية الأوروبية ورافض لسياسات الاستتباع والإلحاق، مؤمن بحق الإنسان من حيث هو إنسان، وبالأفارقة من حيث هم أفارقة، والآسيويين من حيث هم آسيويين، أن يكونوا أنفسهم وألا يفرض أحد عليهم نفسه، وأن يتأبوا عن النسخ المقولبة وعلى الطبعات الغربية للكيانات البشرية وعلى التنميط وصياغة العقول والأفكار والوجدانات بحيث تكون هينة لينة تابعة غير مستقلة.

هل أفريقيا فى هذا الموقف بحاجة إلى قمة استثنائية؟ وهل هذه القمة -فيما لو عقدت- قادرة على صياغة مستقبل جديد للقارة والعالم؟ بمعنى آخر أن على أفريقيا أن تتجاوز مسيرة المنتديات السابقة: المنتدى الهندى الأفريقي، الصينى الأفريقي، والمنتدى التركى الأفريقي، والإيرانى الأفريقي، والأمريكى الأفريقي، أن على أفريقيا أن تدرك ما تملك وأن تعتز بذاتها وهى أقدم قارات العالم حضارة، وهى أغنى قارات العالم فى ثرواتها ومواردها وهى أكثر القارات بكورة، وأنها تستطيع – إذا أدركت ما لديها- أن تتعامل باستخدام روح العصر لزيادة قوتها، وأنها تملك من أبنائها ما إن سحبتهم من الرؤوس المفكرة فى المراكز الدولية لاغتنت هى بهم وأفقرت هذه المراكز.

إن أفريقيا ليست خلوة اليدين، إنها تملك الكثير، وإنها لو نظرت إلى عشرات السنين الماضية لأدركت أن الآباء المؤسسين لاستقلالها ووحدتها لم يكونوا يملكون عُشر ما يملكه قادة أفريقيا الآن، فلا كان فيها غاز ولا بترول، ولا كان فيها يورانيوم ولا حديد، ولا كان فيها شيء مما نعرف الآن مما ينهبه المتدفقون على القارة من دول، ويحصلون عليه تقريبًا بالنذر اليسير من الدولارات.

إن هذه دعوة للدول الأفريقية كى تسدد التزاماتها للاتحاد الأفريقي، وأن تبنى مجلس الأمن والسلم الأفريقى بجهودها وأموالها وعرق أبنائها، هذه صرخة للاستقلال، ولرفض التبعية، ولرفض سياسات التوظيف الخارجي، ولرفض الخونة الذين ينقلون تراث أفريقيا إلى الخارج، ولرفض نقل الثروات غير المصنعة دون إضافة ميزة نسبية إليها، كما قرر البرلمان الأفريقي، هذه دعوة للأفارقة أن يثوبوا إلى مصلحتهم، وأن ينهضوا لحمل مسئولياتهم وهى أيضا دعوة إلى الرؤساء الأفارقة، سواء جئتم بإرادتكم العسكرية أو بإرادتنا الشعبية، فإن عليكم أن تقودوا شعوبكم لا أن تنقادوا وراء الغرب.

ثم إن لمصر رسالة لابد أن تؤدى وواجب لابد وأن تضطلع به، وهى أن تتقدم الصفوف، فإن القارة بحاجة إليها وإلى رئيسها. لقد أثبت الرئيس عبد الفتاح السيسى فى العامين الماضيين أنه شكل تحولًا حقيقيًا فى الأداء الأفريقي، فهلمّ سيادة الرئيس إلى الموقع الذى كان فيه جمال عبد الناصر.