الأربعاء 26 يونيو 2024

التعليم مجانى فى كل الدول الرأسمالية

22-3-2017 | 13:22

بقلم: إيمان رسلان

منذ أول زيارة لى لخارج مصر وتحديدًا إلى ألمانيا وفرنسا فى منتصف الثمانينيات وكنت طالبة بالجامعة تعرفت هناك على أن التعليم لديهم مجانى وللجميع وكان هذا مقبولا لى، لأنه فى هذا الوقت لم تكن المدارس الخاصة وكانت تاريخيًا موجودة فى مصر، ولكنها ليست منتشرة مثل هذه الأيام ولها الأولوية فى الالتحاق عند أبناء الطبقة الوسطى.

وعندما عملت بالصحافة بعد ذلك وتخصصت فى التعليم وسافرت واطلعت عن قرب من النظم التعليمية فى العالم وأغلبه رأسمالى.

شدنى السؤال لماذا الدول الرأسمالية ومنها الأوربية تحديدًا إلا فى استثناءات لا تؤثر على الصورة الكلية توفر التعليم المجانى لأبنائها وبجودة مرتفعة حتى المرحلة الجامعية، وأن الجميع سواسية أمام ورقة الامتحان والقواعد واحدة لا يفرق ابن الخفير عن ابن الوزير؟

ولماذا وهى الدول التى يدفع فيها مواطنو الدولة الضرائب ومقابلها السلع والخدمات وتتبنى اقتصاد السوق الرأسمالى وعلى رأسه قضية العرض والطلب تتيح التعليم الجيد لجميع المواطنين ومجانًا؟

بالبحث والقراءة والفهم وإجراء الحوارات مع مسئولى بعض هذه الدول التى زرتها.

فهمت أنهم أدركوا منذ سنوات طويلة أن التعليم تحديدًا ومعه الصحة هو أحد حقوق الإنسان، وأن التكوين البيولوجى أى ولادة الإنسان تحت أى شكل أو مظلة اجتماعية لا يعنى أن ذلك دليل على أن هناك فارقا فى التكوين العقلى والفهم وإنما الفارق ينشأ من خلال البيئة وغيرها ولهذا يتبنى الجميع مبدأ التعليم كالماء والهواء، التى أطلقها د.طه حسين المفكر الحقيقى، وطبعًا ليس كما قال أحد الوزراء وتحديدًا وزير الصحة أنه، وبالتأكيد الرئيس عبدالناصر وهو ابن عصره وكان منحازا إلى حد كبير إلى قيمة المساواة الإنسانية والحق فى التعليم لذلك كما قلنا مد ظلال المجانية إلى التعليم الجامعى عام ١٩٦٢ والتى كانت مقصورة على مرحلة التعليم الابتدائى فى أيام نجيب الهلالى باشا ثم د.طه حسين، الذى أصدر قرارًا بعد توليه الوزارة لتمتد المجانية إلى التعليم الثانوى.

ولنعد إلى الدول الرأسمالية الكبرى التى تحتل المراكز الأولى فى قوة اقتصادها فمثلا دولة مثل ألمانيا التعليم بها مجانى حتى بعد التعليم الجامعى وعلى الرغم أن ألمانيا ضربت وتكاد تكون دمرت تمامًا فى الحرب العالمية الثانية وهى دولة مواردها الطبيعية محدودة أيضا لذلك اعتمدت فى إعادة نهضتها على التعليم الجيد للجميع وأسهمت الرأسمالية الألمانية وهى أيضا رأسمالية الطبقة المتوسطة والمشروعات الصغيرة والعائلية على إعادة البناء من خلال دعم التعليم.

لأنهم أدركوا أن توسيع قاعدة نشر التعليم للجميع يعنى نشر قاعدة العلم والابتكار أى أن توسيع القاعدة سوف يساعد على زيادة عدد العلماء، وهذا انعكس ومن قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية على المجتمع الألمانى واهتمامه بالتعليم فأكبر الإنجازات العالمية فى مختلف التخصصات العلمية، بل والنظريات فى الفلسفة كانت نتاج المجتمع الألمانى، لذلك ساعدت المجانية للجميع وبالجودة العالمية على سرعة نهضة ألمانيا واحتلالها المراكز الأولى عالميًا فى الاقتصاد والقوة العظمى الأولى أوربيًا متفوقة على إنجلترا، وهذا سوف أتحدث عنه لاحقًا.

أما فرنسا التى خرجت أيضا من الحرب العالمية الثانية شبه منهارة اقتصاديا، فالتعليم فيها مجانى وبجودة عالية للجميع.

فى إحدى زياراتى لفرنسا حضرت مناسبة وقابلت فيها أحد أشهر الأسماء العالمية فى بيوت الأزياء والموضة فى فرنسا يقف كولى أمر فى حفل تخرج ابنه فى أشهر الجامعات الفرنسية والمصنفة عالميًا وهذه الشخصية المشهورة عالميًا تمتلك الكثير من الأموال، وكان يمكن لهذه الطبقة أن تفتح المدارس الخاصة وترسل أولادها إليها، ولكن لا، الجميع التحق بمدارس وجامعات الدولة طبقا للقانون لأنهم وجدوا أن فى إتاحة التعليم للجميع وتطبيق مبادئ الثورة الفرنسية فى المساواة، التى أحدثت تغييرًا فى العالم كله هو المزيد، كما قلت، من توسيع الإنتاج وتطويره ومن ثم زيادة الأرباح الرأسمالية لهم وللدولة، ولا ننسى أن فرنسا هى التى أرست قواعد العقد الاجتماعى الجديد فى العالم الحديث.

فى فنلندا، التى تحتل قمة العالم الآن فى أفضل النظم التعليمية والأولى عالميا فى مسابقات واختبارات التمييز للطلاب، التعليم بها مجانى أيضا وحتى انتهاء الجامعة.

وفى مؤتمر تعليمى حضرته منذ سنوات سمعت أحد المسئولين من فنلندا يتحدث عن تجربة فنلندا فى التعليم، واستغرب جدا هذا المسئول من حجم المصروفات، التى يدفعها الطالب المصرى ومن تعدد نظم التعليم وأشكاله فى مصر، وأن التعليم الجيد لدينا فى مصر لمن يدفع وقال كما فهمت أن إصلاح التعليم فى مصر لن يتم إلا بإصلاح هذا الخلل الجوهرى وإشراف الدولة على التعليم، وأن ابن الخفير يمتحن نفس امتحان ابن المسئول.

فنلندا استطاعت من خلال شركة “موتورلا” لأجهزة المحمول أن تحصل وتكسب أموالًا طائلة وهذا مجرد مثال واحد على أهمية نشر العلم والمعرفة أو تحديدًا اقتصاد المعرفة.

وهذا أيضًا ما يطبق فى إيطاليا وأغلب دول أوربا الغربية، وبالتأكيد كان مطبقا فى الاتحاد السوفيتى السابق وروسيا حاليا وفى كل دول أوربا الشرقية أى أن المجانية ليست بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار - وهذه الدول بها تعليم خاص، ولكنه قليل للغاية وتحت إشراف تام من الدولة.

أما إنجلترا أو الإمبراطورية، التى لا تغيب عنها الشمس لقرون طويلة، فالتعليم هناك كان نظامه مختلفا وكانت المدارس فى البداية تتيحه مجانًا لبعض فئات المجتمع، وحتى سنوات من الدراسة محددة، أما بعد ذلك فهو مقابل مصروفات، واستمر هذا الأمر لعقود طويلة، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية ونتيجة لتضحيات الشعب الكبيرة هناك وفى محاولة لعودة إنجلترا إلى مكانتها كدولة عظمى تم توفير التعليم المجانى الجيد للجميع وبجودة عالية، ولكن تم الإبقاء أيضا على التعليم الخاص، للطبقات الغنية ولكن كان هناك وحدة إلى حد كبير فى نظم الامتحانات، ولكن فى عهد الحكومة الأخيرة لديفيد كاميرون، التى خرجت على يديها إنجلترا من الاتحاد الأوربى ، مازالت المظاهرات فى إنجلترا والاحتجاجات الطلابية قوية حتى الآن ضد القرارات الأخيرة لرفع مصروفات التعليم الجامعى بدرجة كبيرة، الذى يحد من إمكانية التحاق الكثيرين به وما زالت الأزمة مستمرة .

وعن النظام أو التركيبة والعرف الإنجليزى أخذته عنها الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها الوريث الشرعى للإمبراطورية، أى التعليم المجانى متاح للجميع فى المرحلة قبل الجامعة بجانب التعليم بمصروفات، ولكن الجودة هناك تتحكم فيها الولايات وهى مستقلة تعليميًا لأن النظام الأمريكى نفسه مختلف والسلطات مطلقة للولايات، التى الإشراف والتمويل للعملية التعليمية، ولكن مازال هناك فروق كبيرة فى جودة التعليم طبقا لمحل السكن والمناطق الفقيرة والمهمشين ومن ذوى الأصول الإفريقية واللاتينية والتعليم الجامعى هناك متاح وبنسب كبيرة، ولكن عن طريق المنح والقروض للطلاب وفى زيارة لى للولايات المتحدة فى التسعينيات وكنت أتدرب فى إحدى الصحف الأمريكية قمت بعمل تحقيق صحفى عن التعليم، وجدت لديهم هناك ضعفا، ولن أقول ضحالة فى المعلومات مثلا عن “مصر” ويعرفون بالكاد الأهرامات والجمال وكان هذا لطلاب على مشارف المرحلة الثانوية لأن تعليمهم فى الولايات المتحدة الأمريكية “شديد المحلية” ويعتمد على الأنشطة والحوار داخل الفصول أى الفردية إلى حد كبير وهذا ما جعل أمريكا تستشعر الخطر الكبير وتشكل لجنة قومية أخرجت كتابًا اسمه "أمة فى خطر "عن أحوال التعليم الأمريكى وتطويره.

ولكن بالنسبة للتعليم الجامعى هناك ومراكز الأبحاث فهو قضية مختلفة تماما لأن أمريكا تستوعب وتستقدم المهاجرين فزادت نسبة البحث العلمى فيها عن طريق توفير المنح، وعمومًا البحث العلمى هناك أكثر من ٩٥٪ منه تموله الدولة عن طريق الاتحاد العام وخطة للبحث العلمى.

وكل دول العالم المجانية بها متاحة وبجودة عالية للجميع وكل نتائج الدراسات حول التعليم تؤكد أن لا علاقة بين جودة التعليم والمجانية. وأن هذا هراء بل كل الدول تطبق المجانية.

أما فى مصر وإلى حد كبير عالمنا العربى - فقد كانت هناك مجانية فى التعليم الحديث بدأت منذ عهد محمد على، ولكن عندما وقعت مصر ألغوا سياسات محمد على وإسماعيل تحت تأثير الاحتلال الإنجليزى مبكرًا وفى بدايات النهضة الحديثة أيام محمد على “الذى أتاح المجانية للجميع” ولكن الإنجليز طبقوا فلسفتهم وكما قالها اللورد كرومر الحاكم الإنجليزى لمصر لا نحتاج إلا للتعليم الابتدائى والكتاتيب فى مصر ليخرج موظفين، وكان له موقف من إنشاء الجامعة المصرية عام ١٩٠٨ ولكن المصريين بتاريخهم الطويل وكأقدم دولة فى التاريخ إنشاء للمدارس الأهلية والخاصة وهناك المدارس الأجنبية للجاليات الأجنبية والأغنياء فى مصر بجانب التعليم الأزهرى الدينى للفقراء ولذلك تعددت نظم التعليم فى مصر ولكنها ظلت حتى عام ١٩٤٤ التعليم بها بمصروفات حتى جلاء الإنجليز وقيام الحكم الوطنى بعد ثورة يوليو تتيح المجانية للجميع بل انتشرت كثيرًا مدارس الدولة منذ أيام حكم الوفد على يد نجيب الهلالى ثم قرار د.طه حسين عام ١٩٥٠ ثم قرار مجانية التعليم العالى الذى أصدره عبدالناصر ١٩٦٢ ولكن ظلت هناك تعددية تعليمية، ولكنها كانت محدودة للغاية حتى حكم السادات والانفتاح الاقتصادى ثم حكم مبارك وحتى الآن وصعود اليمين الجديد الذى وجد التعليم سلعة وخدمة يجب أن يدفع مقابلا لها. كما قال وزير التعليم الجديد.

ومما أدى بمصر إلى تدنى كل مؤشراتها فى التعليم والإنتاجية والاقتصاد لأننا عملنا على تقليص الفرص وعدم توفير التعليم الجيد للأغلبية بل التعليم الردىء الرخيص فمن الطبيعى أن ينهار الإنتاج والاقتصاد ونصبح دولة مستوردة لكل شىء . لأن الرأسمالية لدينا ليست منتجة.

على عكس الدول الرأسمالية المنتجة ونكرر الرأسمالية وليست الاشتراكية التى أتاحت المجانية وبجودة عالية فاحتلت المراكز الأولى عالميا فى الاقتصاد والنمو والبحث العلمى وحقوق الإنسان والصحة والتعليم والابتكار.

أن التعليم المجانى الجيد ليس رفاهية للنمو وللدولة أو لنمو الطبقة المتوسطة التى هى العمود الأساسى لنهوض الأمم.