حوار: محمد عبد العال - شيماء أبو النصر
منزل تصدعت جدرانه لفراق الابن الأكبر، ووجوه ارتسمت عليها ملاح الحزن، وعيون لا تفارقها الدموع، كلمات مختلطة يغلبها البكاء جاءت من قلب أب أوجعه ألم الفراق ونفس صابرة راضية بقضاء الله الذى اختار لابنه مرتبة الشهداء، إلا أن آلام فراق فلذة الكبد أشد على النفس من فراق الروح للجسد ولمَ لا والشهيد محمد عبده كان روح والدته التى بكى لكلماتها الرئيس، لكنه الواجب والوطن الذى يضحى من أجله بالدماء، وتهون فى سبيله الحياة، والدان أنزل الله عليهما السكينة والرضا بما قدره لهما ثقة منهما فى عدل المانح، وقناعة بأن لله ما أعطى وله ما أخذ.
الشهيد محمد أحمد عبده أحد أبطال معركة كمين الرفاعى بالشيخ زويد الذى اقتنصته رصاصات الغدر والخيانة، فى ذكرى عيد الأم تحيى «حواء » صمود والدا الشهيد وتلتقيهما في حوار يرويان فيه تفاصيل الساعات الأخيرة فى حياته.
نود الاقتراب أكثر من حياة الشهيد وكيف نشأ ؟
"بحب اتكلم عن الشهيد محمد كتير، هو أول أبنائى ربنا عوضنى به بعد فترة من الزواج كان ملاكاً".. بتلك الكلمات بدأت الأم حديثها وهى تسرد زكرياتها عن نجلها الشهيد، كان طفلا موهوبا شديد الذكاء كثير الحركة، حتى أنه كان يصعب على الطبيب تشخيص حالته الصحية بسبب تحركه ونشاطه، عاش فى منطقة جناكليس بالإسكندرية، محبوب ممن حوله من صغره حتى شبابه فهو الشاب الفاعل المساعد لكل صغير وكبير في منطقته المحافظ على صلواته.
واستطرد والد الشهيد: أكرمنا الله بمحمد بعد"شوقة" وكانت فرحتنا لا توصف بولادته ومن بعده رزقنا الله بمنة الله ومازن، وكانت رعايتنا وحبنا له وخوفنا عليه بلا حدود حتى أن والدته قدمت استقالتها من العمل للتفرغ لتربيته ورعايته، محمد كان روحنا وعقلنا، وكنت أحرص على الخروج معه كثيرا للنادى لتمرين الكاراتيه منذ كان عمره خمس سنوات.
التقت الوالدة أطراف الحديث والدموع تسيل على وجنتيها قائلة: محمد.. بدأ رحلته الدراسية بمدرسة على مبارك الابتدائية بالاسكندرية، حفظ القرأن الكريم وحصل على العديد من الجوائز عنه، ومارس رياضة الكاراتيه فى الرابعة من عمره، حصل على الحزام الأسود فى عمر 9 سنوات وكان محبوبا بين أقرانه فى المدرسة والنادى ويحظى بالثناء والإشادة من المعلمين والمدربين بسبب الاجتهاد فى التمارين بجانب تفوقه الدراسي.
لماذا اختار محمد الالتحاق بالكلية الحربية؟
يقول الوالد: دائما كنت بكلم محمد عن أبطال بلدنا مثل الفريق سعد الدين الشاذلى والشهيد إبراهيم الرفاعى، فقد كنت حريصا على تنشئته على حب البلد والتمتع بروح الوطنية، خاصة عندما أتم المرحلة الإعدادية، والحقيقة أنه كان شغوفا بمعرفة تاريخ هؤلاء الأبطال، وانتصاراتنا، والحمد لله كان متفوقاً جدا فى دراسته وذكياً، لذلك التحق بمدارس المتفوقين فى الإعدادية والثانوية، وعندما حصل على مجموع 94% فى الثانوية العامة رياضة كان بإمكانه اللإلتحاق بكلية الهندسة لكنه اختار الكلية الحربية وقال لى: "يا بابا هقدم فيها ويا رب أنجح فى الاختبارات، لو محصلش خلاص هقدم هندسة بس أبقى حاولت"، وبالفعل تم قبوله بها، فلم أحاول أبدا أن أفرض عليه شيئاً فقد كنا أصدقاء.
"احنا ماكناش واخدين بالنا إن ربنا منحه تلك الصفات لاختياره للشهادة".. كلمات عبرت بها أمل مغربى عن رحلة الشهيد وتابعت: منذ أن كان طفلاً صغيراً كان يرغب فى الالتحاق بكلية عسكرية ليحقق حلم أبيه الذى يود أن يره ضابطا فى الجيش وكان ذلك سبب من أسباب ممارسته للعبة الكاراتيه وتفوقه فيه، الحمد لله محمد كان من المتفوقين فى الكلية ولم تحدث منه أي شكوى طوال سنوات الدراسة بل على العكس تم اختياره صف ضابط وهو ما زال طالبا فى الكلية لتفوقه وأدبه الشديد فى التعامل مع الجميع.
وماذا عن علاقته بأصحابه والمحيطين به؟
منذ طفولته وهو يحسن اختيار أصدقائه، فقد كان مثالا للأخلاق العالية والتربية والمسئولية، وكل أصدقاؤه من المتفوقين دراسيا وأخلاقيا، وكانوا ينتظرون أجازاته للجلوس والخروج معه رغم اختلاف كلياتهم، وقد فوجئت بتبرعهم بمبلغ كبير جمعوا من بعضهم صدقة جارية على روحه لمستشفى 75357 تقديرا منهم لصديق العمر.
وتابعت الأم: محمد كان يتصف دائما بالشجاعة العالية حسبما يقول عنه زملائه والطيبة الشديدة فلم يكن يأتى أجازة إلى الإسكندرية إلا وكان راتبه ناقصاً، كان دائم المساعدة لعساكره أثناء نزولهم الأجازة بمنحهم بعضاً من راتبه، بخلاف توزيعه لحلاوة المولد النبوى كل عام، وأذكر له موقفاً مع أحد الجنود الذي توفت والدته فى غير ميعاد أجازته فقام بإنزاله أجازة على مسئوليته الشخصية ليحضر جنازتها.
هل شعرتما بالخوف لعمل الشهيد بشمال سيناء خاصة مع تكرار الهجمات الإرهابية الغادرة ضد جنودنا البواسل؟
فى الحقيقة لم أكن أعرف، فمحمد كان يقدر خوفنا الشديد عليه، لذلك أخفى عنا عمله فى شمال سيناء وكان يقول لنا إنه يعمل فى الإسماعيلية، وعلمت بعدها أنه هو الذى قدم طلباً للخدمة فى سيناء وعندما جاءت الموافقة لم يخبرنا بها، وقبل استشهاده لم يأت معنا المطار لارتباطه بعملية ولكنه لم يكن يقول أية تفاصيل حتى لا نشعر بالخوف والقلق عليه.
وتقول الأم: محمد كلمنى فى نفس يوم استشهاده وهو يحضر لنزول الأجازة يطمنى إنه نازل وكان فى كل لقاء يؤكد لى رغبته فى الشهادة، وعندما أتحدث عن شهداء سيناء وحزنى عليهم يقول لي لازم نقف أمام هؤلاء الإرهابين:"لو ماكناش احنا هنقف قدمهم مين هيدافع عن سيناء احنا لو سيبناهم هنلقيهم تحت بيوتنا".
هل كان الشهيد مرتبطا أو على وشك الزواج؟
لم يكن محمد مرتبطا، كان تركيزه فى عمله فقط، فكل اهتمامه كان بالتفوق والتميز في جنابات الحياة العسكرية، وكنا نمهد لزواجه أنا وابيه أحيانا، وبالفعل كنا على وشك البحث عن عروس للخطبة لكن عمل ابنى جعله يتفانى فى حب وطنه ولا يفكر فى أى شيء آخر.
الشهادة منزلة عالية لا يعطيها الله إلا لعباده المخلصين.. هل تشعران بالفخر لنيل ابنكما مرتبة الشهادة؟
يغالب الأب دموعه، الحمد لله فقد ربيت أولادى تربية جيدة والفضل لله ومن بعده زوجتى، وكنت حريصا جدا على ألا أطعمهم إلا بالحلال، فمن المواقف الصعبة التى مرت علينا أثناء عملى كمدير عام بإحدى شركات قطاع الأعمال وكان هناك توقيع إتفاقية مع إحدى الجهات الأوروبية المانحة وعرفت أن الموضوع فيه فساد وتربح خصوصا مع إلحاح رئيس مجلس الإدارة ووكيل الوزارة وقتها، وكلمت زوجتى فى التليفون أستشيرها وقلت لها أمامى ثلاثة اختيارات، الأول أوافق على الصفقة وهجيب لك ملايين، والتانى أرفض ولن يتركونى، والثالث أقدم استقالة وأخسر كل مستحقاتى المادية، وكان ردها"اكتب استقالتك فورا وإن شاء الله ما أكلنا أوعى تدخل بيتنا فلوس حرام" وبالفعل استقلت ثم عملت بعدها محاسباً فى شركة خاصة.
كيف استقبلتما خبر استشهاد محمد؟
"محمد ما بيغبش عن عيني ولا يوم من وقت استشهاده، هو عايش معايا وحاسة بيه وكل يوم بحلم بيه وأنا عارفة إنه موجود فى الجنة فى مكانة أحسن مننا كلنا زى ما وعد ربنا سبحانه وتعالى"هكذا تحدثت الأم وتابعت: علمت باستشهاد محمد عن طريق زملائه على موقع التواصل الاجتماعى"فيس بوك"، روايات زملائه تشيد بشجاعته وأنه تقدم فى الصفوف الأولى رغم كونه فى كتيبة الإمداد وبعد المسافة بين نقطة تمركزه والكمائن المصابة مع تحضيره لحقيبة سفره لحلول موعد أجازته وارتدائه للزى الملكى وسرعان ما التحق بالمدرعة التابعة له حتى أن أحد القادة قال له:"انت بتحارب وانت لابس ملكى وكان رده مفيش وقت يا فندم زملائى بيموتوا"، واستطردت "استشهد محمد ولم يقل كلمة ااه".
لم تتمالك الأم نفسها من البكاء ليكمل الوالد الحديث قائلا: لم أكن أعلم بعمله فى شمال سيناء، ويومها كنت فى عملى وكنا تحديدا 14 رمضان حتى وجدت خبر مقتل تكفيريين واستشهاد عدد من أبطالنا فى عملية شمال سيناء ولم أشك فى وجود ابنى ضمن الشهداء لأننى أعلم أنه فى الإسماعيلية، وبمجرد عودتى للبيت وجدت أحد زملائه يخبرنى بما حدث وأن ابنى لقى الشهادة بعد أن أصاب الكثير من الإرهابيين وأن كل طلقة أخرجها من سلاحه أصابت هدفها فى مقتل، فقدت الوعى من وقع الخبر لكنها إرادة الله الذى اختار له أفضل مرتبة وهى الشهادة فى سبيل الله والوطن، وهو حى يرزق بإذنه تعالى، عريس فى الجنة، ومن وقتها والدموع لا تفارقنا ننام بها ونصحو عليها، لكنها ليست دموع حزن ويعلم الله إنها دموع الفراق، حتى أننا تركنا شقتنا التى نسكن بها وانتقلنا إلى شقة أخرى فى نفس الشارع، فذكرياتنا مع محمد فى كل ركن، هنا كان يلعب بألعابه، وهنا يجلس، وهنا يذاكر، كلامه وضحكه يملأ كل جزء فى بيتنا القديم، والحمد لله على كل حال.
بماذا شعرت لحظة بكاء الرئيس عبد الفتاح السيسي، وبماذا همس لك؟
الرئيس السيسي رجلا صادق المشاعر من يوم انتخابى له أنا وزوجى وأبنائى، وشعرت بذلك بقلبى وليس بعقلى وهو يعرف معنى مشاعر الأباء، فقد شعرت ذلك أثناء حديثه لى فى الندوة التثقيفية للقوات المسلحلة، بكاؤه جاء بعد روايتى في الفيلم التسجيلي عن تفاصيل استشهاد محمد، خاصة حين سمع عن إقباله أثناء المعركة وجموحه وإصراره على أن يكون ضمن الصفوف الأولى، الرئيس قال لى بكل ود وعزة يحملها ابن من أبناء القوات المسلحة"والله العظيم، ابنك شهيد حق، وهو عند الله، أنا بهنيك مش باعزيك".