بقدر ما يتجلى الريف المصري في معرض فني ثقافي بقلب القاهرة يتضمن أعمال خمسة فنانين من مصر واسبانيا وكولومبيا ويلقي بأضواء ساطعة على العلاقة الفريدة بين الفلاح المصري ونهر النيل فإنه جدير بفتح ملف "الريف في الثقافات حول العالم".
والمعرض الحالي "بمركز الصورة المعاصرة" الذي يستمر حتى الخامس عشر من شهر ديسمبر القادم بعنوان "مغمر-عن الأنهار وتدفقها المنقطع" يركز بفعالياته التي تتضمن ورشة عمل ولقاءات ثقافية وبعض الأفلام السينمائية على الفلاحين والحياة الريفية فيما أوضح منظم المعرض أحمد رفعت أن هذا العنوان مشتق من طريقة قديمة للري استخدمها الفلاحون المصريون وهي طريقة "الري بالغمر".
وبقدر ما يظهر المعرض بأعماله الفنية البصرية بهذا المركز الثقافي في شارع طلعت حرب بقلب القاهرة علاقة نهر النيل بأوجه الحياة اليومية للمصريين - كما أشارت منسقة المعرض الفنانة النمساوية اندريا تال - فإنه يكشف عن جوانب دالة على الحياة في الريف.
ومن ثم فمن الطبيعي أن تستضيف فعاليات المعرض خبراء في الفلاحة والمياه جنبا إلى جنب مع مؤرخين وسينمائيين وفنانين مثل الفنانة الإسبانية اسونثيون مولينوس جوردو التي اتجهت لفن "الخيامية" لتقديم عملها الفني "الزراعة الشبح" الذي يجسد صورا لفلاحين بسطاء والطرق التقليدية لري أراضيهم وأخرى لاستثمارات زراعية كبيرة تستخدم أحدث طرق الري .
وواقع الحال أن هذه الفنانة الإسبانية حولت صور الحاسوب الرقمية الى قطعة نسيج في تطوير مثير لفن الخيامية وتصوير مشاهد الفلاحة في الريف المصري وكأنها توميء ضمنا "للقاء المنشود بين الأصالة والمعاصرة".
ولئن تضمن هذا المعرض بعض الكتب حول النيل والزراعة والريف المصري جنبا الى جنب مع أعمال فنية وأفلام سينمائية قصيرة فلا يمكن تناسي تمثال "الفلاحة المصرية" للفنان الرائد محمود مختار الذي قضى عام 1934 ، وهو أيضا صاحب تمثال "الفلاحة المرحة" فيما يعد مثالا للمبدع المولع بحياة الريف والقرية المصرية ، وعبر بفنه عن روح الريف المصري الطيب بكل عاداته وتقاليده.
وواقع الحال أن الريف أو "الأرض الخضراء والمبهجة" مصدر الهامات لا تنضب لأعمال ثقافية في الغرب والشرق تتجلى في كتب جديدة مثل "الفلاح الأمريكي في القرن الثامن عشر: تاريخ اجتماعي وثقافي" ، وهو بقلم ريتشارد بوشمان ، و"هذه الأرض المباركة :عام من الحياة في مزرعة عائلة أمريكية" بقلم تيد جينوايز و"العمل المثمر:البيئة والاقتصاد والممارسات في مزرعة عائلية" بقلم مايك ماديسون.
اما "الطامح لجائزة نوبل" إسماعيل قدري الذي ولد عام 1936 فى مدينة جيركاستير جنوب البانيا ودرس الأدب فى جامعتى تيرانا وموسكو واضطر لنشر اغلب اعماله فى الخارج قبل لجوئه الى المنفى الباريسى عام 1990 فتنطوي ابداعات اسماعيل قدرى على توظيف مدهش للقرية والتاريخ والأسطورة واللغة الشاعرة كما يتبدى فى روايته "سقوط المدينة الحجرية".
ففي هذه الرواية لا أحد يعرف ما إذا كانت الفتيات فى القرى يتعرضن للخطف ويتم اقتيادهن الى مدينة جيركاستير-كما يقال-ام انهن جئن للمدينة الحجرية بغواية الانحراف فى انسياق ارادى وانصياع "لنداهة المدينة".
والكاتب والروائي الفرنسي الكبير جول رينار الذي قضى عام 1910 أبدع في الكتابة عن الريف بقدر ما ألهمه الريف بعض أروع اعماله التي تتجلى في مفكراته الريفية وهي المفكرات التي رأى الكاتب الصحفي اللبناني سمير عطاالله انها "الأكثر سحرا في جميع اللغات" ويبدو مفتونا بما كتبه رينار بتأثير الطبيعة الريفية الخلابة مثل :"لو كنت طائرا لما قبلت النوم الا في الغيوم..ثمة قشعريرة من الرياح تمر فوق القرى..تشبه السنونوات حواجب منتشرة في الهواء".
ولئن ذهب سمير عطاالله الى ان جول رينار كان "اعظم كتاب فرنسا" فهو بدوره صاحب كتابات خلابة عن الريف والقرية اللبنانية "حيث الهواء الذي ينقل النسيم الى الناس ويمر بالألحان على ناي الرعاة..وحيدون مثل الشجر".
وينعي سمير عطاالله بعض الصور الريفية القديمة التي نال منها الزمن في قريته اللبنانية.. مشيرا إلى مفارقات مثل ان المنطقة التي يوجد بها منزل عائلته تحمل اسم "الكروم" مع أنه لم يبق من الكروم "سوى لافتة معدنية زرقاء لاسم لم يعد له مسمى وعريشة متروكة مثل الحروف المهملة" ، فيما يستدعي أيام الشباب عندما كان يتمشى مع صديق كل مساء "على طريق القرية وتبتسم الصبايا من بعيد بما يكفي لكتابة قصيدة".
والرومانسية كلها تتجلى في ابداعات الروائي والقاص المصري الراحل محمد عبد الحليم عبدالله عندما يكتب صاحب "شجرة اللبلاب" و"غصن الزيتون" و"بعد الغروب" عن الريف والقرية المصرية التي شكلت بدورها مصدر الهام "لأمير القصة القصيرة العربية" والكاتب المسرحي والروائي الدكتور يوسف ادريس ابن قرية البيروم بمحافظة الشرقية وصاحب "النداهة" و"الحرام" و"العيب" .
وتتجلى هموم الريف والبسطاء في قرى مصر المحروسة في قلب الاهتمامات الإبداعية لصاحب "شكاوى الفلاح الفصيح" الأديب والبرلماني المصري يوسف القعيد و قصصه القصيرة ومن بينها "الفلاحون يصعدون الى السماء" فيما عرفت بعض اعماله الابداعية طريقها للشاشة الصغيرة او الكبيرة مثل "قطار الصعيد" و"بلد المحبوب" و"وجع البعاد" و"عزبة المنيسي" .