للفنان أحمد فؤاد حسن
«.... وكنت أبكي فتسكن نفسي وتطيب خاطري وتسعي تضحكني فأغفو في الفراش ويسرقني النوم من واقعي المر ولا أكاد أصحو حتي أجدها عند الفراش باكية... مطأطأة الرأس من وطأة الحزن»...
كل المصائب تبدأ كبارا ثم تصغر أما المصيبة التي دقت باب بيتنا فإنها بدأت صغيرة ثم كبرت حتي سدت منافذ الحياة وأوصدت طاقات الأمل!
كنت تلميذا في مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية حين أحسست بألم في ضرسي ومن منا لم يحس هذا الألم وهو صغير ولم أكن قد تجاوزت الثامنة ... ولما عدت إلي البيت شكوت لأمي فلبست ثيابها وأخذتني إلي طبيب لأخلع الضرس واستريح وخلعت الضرس وما عدت إلي البيت إلا والدم ينزف من فمي بلا توقف وجرت إلي الطبيب فقال لها إن هذا أمر طبيعي ولم يقف النزيف بل استمر حتي أغمي علي وحملتني إلي طبيب ألماني كانت له عيادة في عمارات الخديو وكان اخصائيا في الأنف والأذن والحنجرة وما أن فحصني حتي رفع إليها عينين أكثر ما فيهما يأس وأنهي إليها أنها دفتيريا سببت جلطة لحمية سدت المسالك الهوائية ففقدت القدرة علي التنفس وأغمي عليه ولابد من عملية عاجلة قبل ثلاث ساعات والعملية شديدة الخطورة فلابد من كونسلتو يمكن تجاهله بإقرار من والدتي بمسئوليتها عن موتي والأجر أجر الطبيب مائة جنيه وقلب الأم يقتحم كل المخاطر وقعت اقرارا بمسئوليتها وهي تبكي وباعت حليها وماكينة خياطة وبعض أثاث البيت ودفعت المائة جنيه وأجريت العملية!!
وفقت بعد ساعات من غيبوبة المخدر فوجدت في رقبتي شيئا غريبا وحاولت أن اتكلم فاستعصي علي الكلام تاهت الحروف قبل أن تبلغ حلقي وأشرت بيدي وسألت أمي بعيني حديد هذا أم صلب غرستموه في رقبتي وأين صوتي وقوتي أين؟
وجاء الطبيب يقول:
هذه أنبوبة تنفس منها ستظل في زورك ستة أشهر حتى تلتئم جراحك فإذا أردت أن تتكلم فسد هذه الأنبوبة وتكلم ستجد مشقة في أول الأمر ثم تعتاده فيهون
وبكيت ... حتي البكاء لم يعد له صوت مسموع مالم اضع علي الأنبوبة اصبعي!
وانقطعت عن المدرسة حتي يلتئم الجرح وتنتزع الأنبوبة ومضت الأيام لتحمل لي خبرا اشد ايلاما علي نفسي من كل شيء لقد أجريت العملية علي عجل دون كونسلتو ولهذا حدثت فيها اخطاء والأخطاء تحتم أن تظل الأنبوبة في الرقبة إلي الأبد..
دخلت سجنا قضبانه هذه الأنبوبة ولا هواء فيه إلا عن طريقها فهي كل علاقتي بالحياة وقررت أن أوطن نفسي علي تحمل الألام وخوض العذاب عدت إلي المدرسة وتحملت من سخرية زملائي فوق ما أطيق كنت كلما تكلمت وضعت أصبعي علي الأنبوبة لاسدها فيفعلون مثلي يتكلمون وهم يضعون أصابعهم علي أنابيب وهمية وأبكي لأمي وتتضاعف آلامها وتعقدت نفسيتي من المدرسة كرهتها فلما أصبح صباح لم أذهب، ولم تقل لي أمي أذهب فقد كانت تعلم مقدار ما بي من ألم وعذاب...
جلست في البيت وعكفت علي الكتب أقرأ وسمعت الراديو فتعلقت أذني بالموسيقي ورحت أدير مؤشر الراديو أبحث عن الموسيقي في كل محطات العالم أحببتها كانت صديقة وحدتي وقلت لأمي ذات يوم أنني سأذهب إلي معهد الموسيقي!
وكنت حصلت علي الابتدائية من منازلنا والتحقت بمعهد الموسيقي فإن الموسيقي هي طاقة الأمل التي تفتحت لي أما أمي فقد سعدت بالفكرة أكثر السعادة فإنها وجدت لي أخيرا مصارفا عن العذاب الذي أنغمست فيه حياتي والحقيقة أنني تتبعتنى أعين الفضوليين بحثا عن سر الأنبوبة التي في رقبتي ولكن الأيام مضت والفوا رؤيتها وقلت وجيعتي من أعينهم الفضولية غير أنني كنت أبحث دائما عن مخرج لي من هذا السجن وكانت أمي تأخذني إلي الطبيب لكي يجرب من جديد وقد أجري لي اثنتي عشرة عملية محاولا إصلاح الخطأ أجراها لي خلال ثلاث سنوات ولكنه لم يستطع اصلاح الخطأ وكنت في كل عملية اعلق النفس بالمني وارسم للغد صورة مشرقة ثم تجئ النتيجة فتقطع حبال المني التي اتعلق بها وتطمس الصورة المشرقة بمداد قاتم!
ولكني لم افقد الأمل يوما في حال أحسن وفي أن أفك قيودي وانطلق من الأنبوبة اللعينة وكنت قد بدأت أعول علي نفسي فيما أنفق فقد كنت أؤلف المقطوعات الموسيقية وأكون مع زملائي في المعهد فرقة كانت من بعد نواة «الفرقة الماسية» فنذهب إلي الأفراح ونحيي الليالي الملاح ونكسب من ذلك فإن المعاش الذي كانت تتقاضاه أمي كان يذوب في تكاليف الحياة والعمليات المتتابعة!
اقتصدت من عرق الجبين وذهبت إلي الطبيب أقول له إنني أريد عملية جديدة ولكنه رفض وقال لي إنه فعل المستحيل معي حتي أن جدار الرقبة قد تهتك والمزيد من العمليات يضع علي ألماً جديدا وخرجت من عنده أمشي علي شوك من أفكار وتوقفت عيناي علي لافتة في أول شارع شريف .. الدكتور محمد فطين أنف وأذن وحنجرة لماذا لا أجرب حظي مع طبيب جديد لماذا أعيش أسير معلومات طبيبي الأول ودخلت!
وفحص الرجل رقبتي في عناية وقال لي إن العملية ممكنة وبينما الطبيب يعطي تعليماته جلست لاكتب خطابا لأمي «أنت تعلمين يا أماه كم كانت الحياة شاقة بالنسبة لي وهذه الأنبوبة اللعينة في رقبتي لقد تعقدت نفسيتي وسيطر علي أنني دون كل الناس لهذا اجريت هذه العملية ولم أقل لك أنني أعلم أن صدرك لم يعد يقوي علي تحمل المزيد وأعلم أن جيبك خال لقد سددت كل أجرها للطبيب فإذا كان هذا الخطاب بين يديك فضميني في القبر إلي جوار أبي ومعذرة يا أمي أتمني لك الصحة وأتمني أن يعوضك الله عن بطولتك وحبك وعني..
وبكيت والطبيب أهتز وطمأنني واعطيته الرسالة لكي يسلمها إلي أمي إذا لاقدر الله توفيت ...
وضحك وهو يطمئنني!
وأجري العملية .. بيده ساحره هذا الطبيب العظيم فإنني بعد ثلاث ساعات أفقت وأحسست أن ذاك الجسم الغريب المزروع في رقبتي قد انخلع وأنفي الذي لم استعمله من عشر سنين قد بدأ يستقبل الهواء وصوتي يخرج واهنا من المخدر ولكنه يخرج دون أن أضع علي أنبوبة اصبعي وتمثلت لي عشرات الصور .. تلاميذ المدرسة والفضوليين في المعهد والمارة في الطريق وعذاب الأنبوبة وفرحة أمي إذ تعلم وتذكرت الخطاب .. فرجوت الطبيب أن يعطيني إياه.. ومزقته!
وحملوني حملا إلي البيت!
وبكت أمي تأثرا.. اختلطت ضحكتها بدموعها فقد كانت سعادتها الكبري أنني تحررت من الأنبوبة.
ومضت الحياة وأمي .. هذه العظيمة معى ..
فهل أقدر علي رد الجميل لها وهل في الدنيا بطلات أمهات أو أمهات بطلات مثل هذه العظيمة ... أمي
الكواكب 451- 22 مارس 1960