قال الدكتور محيي الدين عفيفي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية إن تاريخ الفقه الإسلامي شهد مراحل نمو وازدهار كان فيها فقهًا اجتهاديًّا واقعيًّا
حيًّا يقوم على الاستنباط للأحكام من أصولها (القرآن والسنة) وصياغتها بما يعالج مجريات
الواقع ونوازله، وذلك حينما كان الفقهاء يتفاعلون مع الواقع في مختلف مجالاته فشعر
الناس بمرونة الشريعة وبمعالم اليُسر التي ترفع عنهم الحرج، ولكن ظهرت في تاريخ التشريع
الإسلامي عوامل كثيرة أثرَّت على العقل الفقهي، وسلبته في بعض مراحل تاريخه القدرة
على تقديم نظام تشريعي يستجيب للمتغيرات، ويعالج الواقع.
أضاف "عفيفي" خلال كلمته التي ألقاها اليوم بعنوان
"الجمود والتراكمات التاريخية" في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي والمنعقد
بمكة المكرمة تحت عنوان: "الوحدة الإسلامية.. مخاطر التصنيف والإلقاء" أن
الانقساماتِ السياسيةَ في العالم الإسلامي، والأحداث التي هزّت أركانه أثّرت تأثيرًا
كبيرًا في الحركة العلمية، فانتشر التقليدُ، مما كان له الأثر الكبير في جمود الفقه،
وقلة المجتهدين وندرتهم، بالإضافة إلى عملية التقيد بالمذاهب الفقهية والتعصب لها،
فعاشت الأمة أزمة فكرية شديدة، كانت سببًا في حالة الجمود التي ظهرت بشكل واضح.
أوضح الأمين العام أن المتأمل في تاريخ الفقه الإسلامي يقف
على عدد من العوامل السياسية والاجتماعية والعلمية التي أحاطت بالفقه، فتضخم على أثرها
فقه العبادات والمعاملات على حساب فقه السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، كما تغيّرت
بفعل تلك العوامل تركيبة المنظومة الفقهية، فأصبح التقليد قاعدة، والاجتهاد استثناء،
الأمر الذي ترك آثارًا سلبية على العقل الفقهي على مستوى المنهج والإنتاج.
وتابع قائلًا: إن الفقهاء في كل العصور مطالبون بالاجتهاد
دون توقف، ولكننا تركنا الاجتهاد ولجأنا إلى التقليد في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى
الاجتهاد من أي وقت مضى، فالاجتهاد في عصرنا الحاضر هو الفريضة الغائبة، وممارسة الاجتهاد
أصبح فرض عين على كل من لديه المؤهلات لذلك، ليس على مستوى الفكر الديني فحسب، بل على
مستوى الفكر بصفة عامة، وعلى مستوى تطوير حياتنا، وتعمير دنيانا، وإسعاد أجيالنا في
الحاضر والمستقبل.
وأشار الأمين العام إلى أننا بحاجة إلى تجريد النصوص الشرعية
من قيود الزمان والمكان والأشخاص، لأن النصوص الشرعية متناهية، والوقائع والأحداث والنوازل
غير متناهية، مما يتطلب إعمال العقول والاجتهاد من أهله في تكييف الوقائع بحرية مطلقة
ضمن حدود القرآن والسنة والفهم الواسع لهما وبمدى ما تتسع له حرية الاجتهاد من معانٍ.
وقال إن الأمر الذي لا شك فيه هو أن الفقهاء السابقين ـ الذين
أثروا الحياة الفقهية منذ قرون طويلة ـ لو قُدِّر لهم أن يبعثوا من جديد، ويروا ما
طرأ على الحياة والأحياء في أزماننا من تطورات غير مسبوقة لتغيرت بالقطع نظراتهم للأمور،
ولكانت لهم وجهات نظر متجددة، لافتًا إلى أنه لم يدَّع مؤسسو المذاهب الفقهية أبدًا
أن ما يقولونه هو الحق المطلق، فقد قيل للإمام أبي حنيفة: إن هذا الذي تفتي به هو الحق
لا مراء فيه، فردّ قائلًا: «لا أدري، لعله الباطل الذي لا مراء فيه».
وبيّن الأمين العام أن الاجتهاد في الإسلام مبدأ مستمر على
مدى الأزمان، وإذا كان رسولنا قد فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، فليس من حق أحد كائنًا
من كان أن يغلق هذا الباب، فإغلاقه يُعدّ إغلاقًا لرحمة اللَّه، وإغلاقًا للعقول ومصادرة
على حقها في الفهم والتفكير.