حياته مليئة بالأحداث والمفارقات
الجادة والطريفة، ورغم غيابه عن دنيانا من 44 عاماً بالتمام والكمال، فمازال
الموسيقار فريد الأطرش موجوداً بما تركه من أعمال فنية تسعد الملايين حتى الآن،
وكأنما وضع لنفسه لحن الخلود ليظل باقياً رغم تعاقب الأجيال التي لم تعش أيامه أو
تعاصره، وفي ذكراه نسرد كما تعودنا الجديد والنادر عن حياة النجوم، واليوم نسبق
الذكرى التي تحل غداً ونطرح ما رواه بنفسه لمجلة الكواكب في 6 يناير 1960.
روى فريد الأطرش ذكرياته عن احتفالاته
برأس السنة، وكان منها هذا الحدث الطريف الذي واجهه عام 1950 ليلة رأس السنة، فقد
قرر أن يقضي تلك الليلة مع الأصدقاء في منزله، وقد دعاهم جميعاً وقرروا مع الدقائق
الأولى من العام الجديد أن يذهبوا في رحلة إلى الفيوم، وبالفعل كان فريد قد أعد كل
ما يلزم لتلك الرحلة، وقالوا سننطلق بعد إطفاء الأنوار وإضائتها للعام الجديد،
وبينما هم في أوج المرح والضجيج اقترب عبده السفرجي من فريد وهمس في أذنه بأن إحدى
السيدات تطلب مقابلته، وأنها تبكي وتصر على مقابلته مهما كانت الظروف.
طلب فريد من السفرجي أن يدخلها إلى
الصالون، وبعد خمس دقائق ذهب إليها ليجدها سيدة تقارب الخمسين من عمرها وتغرق
في ملابس سوداء، وتبدو عليها أمارات الحزن والإجهاد والفقر، وسألها عن حاجتها فقصت
عليه بين دموعها كيف يبدو ابنها في المستشفى ولا يوجد على لسانه غير اسم فريد،
ويريد أن يراك بسرعة، فتعجب فريد من إلحاح ابنها لرؤيته وسألها عن السر فقالت هي
نفسها لا تعرف، وراح يواسيها ببعض الكلمات ووعدها بالذهاب معها، وطلب من السفرجي
أن يخبر المدعوين بأنه سيتغيب قليلاً وسيعود قبل إطفاء النور.
خرج فريد مع السيدة الغريبة وانهالت
عليه الدعوات الصالحات منها حتى وصلا إلى المستشفى بحي شعبي، وفي المستشفى قادته
السيدة مع نظرات التعجب في عيون المرضى والممرضات إلى أن دخل غرفة ابنها، وكان
يستغرق في نوم عميق، وأيقظته أمه ولما التفت الشاب إليها وجد فريد أمامه فابتسم
وحاول أن ينهض من رقدته لكنه لم يتمكن، ومد يده فتناولها فريد بين يديه وبدأ الشاب
يتكلم، وأخبر فريد بأنه عاش عمره يحبه ويحب أغانيه وكانت أمنيته أن يراه، لكن فقره
حال دون تحقيق أمنيته، وهاهو اليوم على فراش الموت قد تحققت أمنيته، واستطاع أن
يراه فقد كانت أخر أمنياته قبل أن يرحل وحققها الله له.
تأثر فريد الأطرش بكلمات ذلك الشاب،
وجلس بجواره وطلب منه ألا يتكلم حتى لا يجهد نفسه، وأسرع بعد دقائق يطلب من مدير
المستشفى السماح بنقل الشاب إلى مستشفى خاص، وبالفعل قام فريد بنقل الشاب إلى
مستشفى آخر وهناك بعد الكشف عليه من الأطباء، قرروا أنه يحتاج عملية جراحية كي
يتمكن من الشفاء، وطلب منهم فريد أن يسرعوا بإجراء الجراحة وظل بالخارج حتى انتهى
الأطباء من عملهم وطمأنوه على نجاح العملية، فتنهد فريد وحمد الله على أنه كان
سبباً لإنقاذ ذلك الشاب.
نظر فريد إلى ساعته فوجدها تقترب من
الخامسة صباحاً، وهكذا قضى فريد ليلة رأس السنة في المستشفى في الوقت الذي كان
فيه أصدقاؤه يفتشون عنه، وما أسعد قلب فريد بعد ذلك أن الشاب قد شفي تماماً وأصبح
يزور فريد في بيته مع أمه بين الحين والآخر، وأكد فريد أن تلك الليلة كانت من
أسعد ليالي حياته.