الأربعاء 29 مايو 2024

داعش فى قلب أوربا

29-3-2017 | 12:47

بقلم –سفير د. رضا شحاتة

دلائل كثيرة ومتعاقبة يوماً بعد يوم، من نكسات عسكرية، النكسة تلى النكسة لما يسمونه تنظيم «الدولة الإسلامية» فى العراق، وتراجع المساحة الجغرافية التى ظلت تركع فيها المسماة بدولة «الخلافة» فى العراق، ومصادر إيراداتها المنهوبة التى تتقلص وتنكمش مع ازدياد النكسات ومقتل القيادات العسكرية، ونضوب معين المقاتلين المجندين، دلائل ومؤشرات على أن النهاية تقترب، فهل هى كذلك فعلاً، هل نهاية التنظيم الداعشى قد باتت وشيكة، وإذا كانت كذلك، فهل لها تخطيط أو استراتيجية ما بعد السقوط وما بعد التراجع وإلى أين وكيف؟، أم أن العالم خاصة أوربا ونحن معها أمام تحديات أكبر وأخطر؟

ـ الحقيقة ربما تقول غير ذلك، فعلى الرغم من تكبد التنظيم خسائر ضخمة فى ساحات القتال، لم تزَل شبكته العالمية تواصل العمل وبشكل أنشط وأكثر فاعلية على المستويين الفعلى المادى والافتراضى، الأمر الذى يفرض على المحللين استقراء كيفية انتشار الخطر الإرهابى واتجاهات القادة ما بعد التراجع من المسارح الحالية فى العراق وسوريا.

وبداية ثمة عدة عناصر يجب أن تؤخذ فى الاعتبار فى استقراء المسارح الإرهابية القادمة أولها أن الانسحاب الاستراتيجى من المعاقل الحالية للتنظيم الموصل فى العراق، والرقة فى سوريا يتجه نحو محورين جديدين، المحور الشمالى والمحور الجنوبى الذى يتكون فى البداية من الأماكن غير المأهولة سكانياً لتخطيط وتنفيذ عدد من الهجمات الإرهابية.

التوقعات المطروحة تشير إلى أن هذا التخطيط سوف يتجه إلى توسيع التنظيم للخطوط الأمامية الإرهابية وتوسيع نطاق المقاتلين الداعشيين العائدين إلى بلادهم، ثم تصعيد الصراعات الطائفية والدينية، ويضاف إلى ذلك مع تراجع نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية مؤقتاً عود نسبى وإن كان ملموساً لنفوذ تنظيم القاعدة بأيديولوجيتها وعملياتها المعروفة.

وكذلك فإنه بالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية، فقدْ فَقدَ مساحات واسعة من الأراضى (فى العراق) بما فى ذلك قواعد عراقية فى الرمادى وفى تكريت وفى الموصل وفى (تدمر) فى سوريا، وتقدر مساحة الأراضى المفقودة بنسبة ٦٠٪ فى العراق، و٣٠٪ فى سوريا، بمعنى أن التنظيم فى حقيقة الأمر من المنظور العملياتى والعسكرى يخوض معركة خاسرة غربى الموصل التى تتعرض حالياً لهجوم مكثف من قوات التحالف الدولى والقوات الأمريكية.

تشير كل الشواهد إلى أن التنظيم يستعد للمعركة الهجومية القادمة الوشيكة ضد التنظيم فى عاصمته الواقعية فى مدينة الرقة السورية، وقد أبرزت تحليلات سابقة أن تنظيم (داعش) دخل فى مرحلة التحول من النطاق المحلى إلى (النطاق العالمى) أى ما اصطلحنا على أن نسميه (عولمة داعش) وأرجح فى المرحلة القادمة أن يتحول كذلك إلى المناطق غير المأهولة المحاطة بالصحارى أو الجبال أو ذات الطبيعة الجبلية (وهو ما يشير إلى استراتيجية التحول جنوباً باتجاه مصر والصحراء الغربية،»ليبيا» وباتجاه (الأردن) فى المراحل الأولية وذلك لتجتنب المواجهات المباشرة مع أى قوات نظامية (وقد تكون مدعومة بقوى خارجية) وثم الاتجاه إلى المحور الشمالى ـ (أى إلى أوربا) .

ويسعى التنظيم حالياً إلى إعادة التمركز فى معاقل ومناطق حصينة صغيرة استعداداً للقيام بأنشطة إرهابية وخلق حالة من الاضطراب الواسع فى الشرق الأوسط كله، وقد بدأت جماعات سورية جهادية مثل جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) وحركة أحرار الشام بالمبادرة إلى تحريك قواعدها فى محافظة (ادلب) إلى معاقل محصنة صغيرة فى منطقة (الباب) ودير الزور أو إلى «وادى بردى» قريباً من دمشق.

على أن مثل هذا الانسحاب الاستراتيجى ليس بالظاهرة الجديدة للتنظيم إذ حدث لتنظيم القاعدة فى العراق (فما كان يسمى عندئذ بتنظيم مجلس المجاهدين للدولة الإسلامية فى أعتاب الغزو الأمريكى عام ٢٠٠٣ وعندئذ بدأ تنظيم الجهاديين حملته الإرهابية فى المعاقل السنية فى الفالوجة والرمادى، ثم انتقل منها ليهاجم إلى نقاط التفتيش وقوات الأمن والمدنيين، (فى ديالا وباجى وسنجار، وتاجى والحسنية والحديثة، فى أعقاب الغارات التى شنتها الحكومة على قواعد التنظيم.

استراتيجية التنظيم كانت قد اتجهت منذ عام ٢٠١٦ (بقيادة محمد العدنانى الذى قتل فيما بعد) بإنشاء الفروع المحلية وشن الهجمات فى كثير من مدن العالم وذلك بهدف استكمال إنشاء ولايات تنظيم الدولة الإسلامية على مستوى العالم كله، وفى سبيل ذلك يقوم (التنظيم) بعملية تنسيق الهجمات الإرهابية من خلال دعوة المقاتلين الجهاديين لتشديد حملة الإرهاب اللامتناظر وعلى تنشيط وتفعيل (خطوط أمامية) جديدة فى الشرق الأوسط، وفى إطار هذا التوجه، اتبع التنظيم أسلوب أو تكتيك التشتيت عن حقيقة أهداف التنظيم بشن هجوم قاتل فى قلعة الكرك فى الأردن حيث لقى عشرة أشخاص مصرعهم.

هذا التحول يكشف عن تحديد الاتجاهات والمحاور الهجومية الجهادية فى خطوط قتال جديدة خاصة فى الدول المجاورة (الأردن ومصر) بداية من عام ٢٠١٧ بالاضافة إلى نقل المحاور إلى عواصم أوربية كما حدث فى باريس عام ٢٠١٥ وبروكسل فى مارس ٢٠١٦ وقد نفذت هذه العمليات خلايا إرهابية مدربة فى معسكرات التنظيم واشتركت فى عمليات قتالية فى الشرق الأوسط.

ومن الظواهر المميزة لاستراتيجية التنظيم بعد التراجع الأرضى تصعيد الصراعات بين المذاهب، وبين الأديان فى العراق وفى سوريا وفى اليمن والأردن ومصر والسعودية والمنطقة الشرقية وذلك بالتوازى مع استهداف الطوائف الدينية الأخرى مثل المسيحية وأقباط مصر والهجوم على الكنيسة البطرسية فى مصر فى ديسمبر ٢٠١٦ حيث أعلن التنظيم عن مسئوليته الهجوم ليلة الاحتفال بأعياد الكريسماس فى برلين، ومقتل اثنى عشر فرداً وإصابة أكثر من ٥٦ آخرين).

على أن أخطر نتائج تراجع المساحة القتالية والإرهابية لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فى العراق وسوريا هى الصعود الجديد لتنظيم القاعدة بقدراتها وقواعدها المنتشرة فى الشرق الأوسط حيث يبحث (المقاتلون الجهاديون) للتنظيم عن دروب ومحاور جديدة لضرب المصالح الغربية، ويعتمد «تنظيم القاعدة» فى هذا الاتجاه على روايات ودعائيات الحرب ضد الإسلام وتيار معاداة المسلمين واضطهاد الجاليات الإسلامية فى أوربا وأمريكا وتعميق مظاهر الاغتراب والتمييز ضد المسلمين.

وللقاعدة فى المدن الأوربية وجودها الراسخ وكذلك فى دول المغرب ودول الساحل الإفريقى وفى اليمن وفى الصومال، كما أن انهيار تنظيم الدولة الإسلامية يمثل دافعاً وحافزاً قوياً لإعادة ترتيب استراتيجية القاعدة، ومضاعفة جهود التجنيد وتوسيع نطاق (جيوبها) وتكثيف أنشطتها الإرهابية بهدف استعادة مكانتها بوضعها الحركة الجهادية الأقوى على مستوى العالم كله، وخاصة المدن الأوربية الكبرى كذلك فإن الجيل الأصغر من الجهاديين المقاتلين سوف يتصاعد وجودهم على نحو ما تمثل فى الترحيب بظهور (الفتى حمزة) ابن أسامة بن لادن الذى بشر بأن كل الجهاديين هم (أسامة بن لادن) وأعلن الثأر لمصرع أبيه، فالتقديرات حول الاتجاهات القادمة لنوعية وتمركز الضربات الإرهابية القاتلة الجديدة لعناصر تنظيم (الدولة الإسلامية) تدور حول الأهداف الغربية أو المواطنين الغربيين بهدف استثارة موجات العنف والكراهية وسياسات التمييز العنصرى ضد المسلمين والمهاجرين من الجيلين الثانى والثالث فى العواصم الأوربية، وتحقيق أوسع انتشار ممكن للقلاقل الأمنية والشقاق والتنافر الاجتماعى داخل المجتمعات الغربية.

ولا شك أن العناصر القتالية المدربة والتى تسمى بالجهادية فى ذلك التنظيم تبحث الآن بكل وسيلة عن مخارج جديدة وطرق جديدة لاستمرار ضرب المصالح الغربية بعد هزائمها فى أهم معقلها فى دول ومدن الشرق الأوسط والعراق وسوريا ومصر وليبيا وهى كلها خسائر فادحة دفعت بالعناصر الجهادية إلى إعادة النظر فى استراتيجياتها وأساليب عملياتها مع استغلال الظروف السياسية والاجتماعية الناضجة لتنفيذ الضربات الإرهابية.

استراتيجية التحول إلى الجهاد العالمى، أوربا والإسلام الراديكالى:

لعل أحدث حشد (للعناصر الجهادية) القتالية منذ عام ٢٠١٢ على الصعيد الأوربى وتنشيط العمليات الإرهابية كان مرتبطاً ومتزامناً صعوداً وسكوناً، وكراً وفراً بسير العمليات وعنف القتال الدائر فى ساحات القتال، ما بين العراق وسوريا، بين القوات المخصصة لتصفية البؤر والقواعد الإرهابية وبين تلك العناصر الجهادية المطاردة.

وعلى الرغم أن الشواهد كلها تكاد تجمع على أن الانسحاب والتراجع لم يزل مستمراً بين تلك العناصر، لكن الضربات فى المراكز الأوربية، تكاد أيضاً أن تبلغ مستويات الذروة غير المسبوقة فى عواصم كبرى، باريس، بروكسل، وبرلين ثم فى لندن (فى الثانى والعشرين من مارس ٢٠١٧).

ونقول بداية قبل المضى فى تحليل واستقراء أبعاد ومقدمات ونتائج الضربة الإرهابية المفاجئة فى قلب العاصمة البريطانية لندن وبجوار رمز تاريخى من رموز الديمقراطية والحضارة الغربية، قبل هذا كله ولكى نتفهم عمق ومدى هذا الحشد الإرهابى الجهادى فى عواصم أوربا الغربية لابد من الرجوع إلى الخريطة الحقيقية لانتشار المقاتلين الأجانب أى تلك العناصر الأوربية (انجليزية، فرنسية، بلجيكية وألمانية وغيرها)، التى انضمت لصفوف تنظيم الدولة الإسلامية ومارست القتال الفعلى واكتسب الخبرات الميدانية فى معاركها ـ والثابت من خلال التجارب الفردية لتلك العناصر (المقاتلين الأجانب) أنها وقعت فى براثن (التطرف) إلى حد الانتماء لعقيدة تنظيم الدولة الإسلامية وأيديولوجيتها (وهجرة) أوطانهم الأصلية لخوض معارك دامية تستهدف هدم نظم وهياكل ومؤسسات الدول العربية والإسلامية فى الشرق الأوسط، تحت مزاعم الدفاع عن الإسلام وإقامة دولة الخلافة المزعومة وفى نفس الوقت تكثيف وتنشيط القدرات العملياتية لتلك العناصر تهيئة واستعداداً ليوم العودة من جديد إلى ديارهم فى العواصم الأوربية، حيث المعارك وشيكة ضد قادة (وشعوب) وسياسات الغرب الكافر.

ولعل أكثر الدول الأوربية تأثيرا بالموجات الإرهابية المتتالية فى الأشهر الأخيرة هى تلك الدول ذات الجاليات الإسلامية الكبرى مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وتليها فى الترتيب من حيث تأثير سكانها بالظاهرة الإرهابية، وبالعناصر (القتالية الجهادية ) وبظاهرة المقاتلين والأجانب، دول مثل النمسا وبلجيكا والدنمارك وهولندا والسويد ولعل ما يجمع بين كل تلك الدول، سواء منها من كان يضم مجتمعات إسلامية قديمة (مثل اسبانيا وإيطاليا) ومجتمعات إسلامية تنتمى للجيل الثانى أو الثالث (من المهاجرين)، إنها جميعاً تضم فى تركيبها السكانى أحفاد المهاجرين المسلمين من أوطان إسلامية من إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا منذ عقود طويلة مضت، وهذا يعنى بكل وضوح أن المجتمعات الإسلامية فى أوربا اليوم تعانى أزمة فى (الهوية) أصابت وبشكل عميق العناصر الشابة بصفة خاصة وهو ما يفسر الحشد الهائل لكل عناصر التطرف وأشكال العنف المختلفة والفشل لسياسات الاندماج الحضارى للمهاجرين المسلمين، كما هو الحال فى ألمانيا (أحداث برلين فى رأس السنة نهاية ٢٠١٦) ولسياسات (الاستيعاب) الحضارى فى فرنسا (كما حدث فى مأساة استخدام الشاحنة فى مدينة (نيس) لقتل العشرات فى نفس التوقيت تقريباً.

وقد أجمع خبراء السياسات الاجتماعية والمحللون النفسيون أن تلك العناصر الإرهابية المنتمية للمجتمعات الإسلامية (التى تمثل الأقليات بالطبع قد فقدت تدريجياً العلاقة أو الاحساس (بالانتماء) للوطن الجديد (أوربا)، ثم فقدان أى ارتباط وجدانى أو عملى بأوطانهم الأصلية (البلاد العربية أو الإسلامية)، الأمر الذى عمق (أزمة فى الهوية) أى فقدان التوازن الحضارى وربما المعاناة من أمراض (الاغتراب) والإقصاء، الأمر الذى شكل أقوى الدوافع لممارسة العنف ضد المجتمعات الأوربية والبحث عن مفهوم جديد للوطن حتى أصبح الوطن الموعود لتلك العناصر الإرهابية من المجتمعات الإسلامية، أصبح هذا (الوطن) ببساطة هو (الإسلام الراديكالى) أو أيديولوجية تنظيم الدولة الإسلامية ، كما تفسر الإسلام الأصولى المتطرف العنيف.

هذه الأزمة فى الهوية تشكل أخطر التحديات الأمنية فى المجتمعات الأوربية التى تضم الجاليات الإسلامية التى تبحث عن (هوية) (وطن) لها خارج الدول الأوربية، ووجدت فى داعش وطناً لها، وهذا يعنى إخفاق المؤسسات الأوربية والجمعيات الدينية الأوربية بكل أشكالها فى إقناع أجيال الشباب من العناصر الجهادية الأوربية الإرهابية بأن هويتهم الدينية (الإسلام) لا تتصادم ولا تتعارض مع هويتهم كمواطنين فى المجتمعات والدول الأوربية.

وإذا كانت سياسة «التعددية الثقافية» التى تطبقها الحكومة البريطانية منذ عقود طويلة قد أخفقت إخفاقاً مدوياً كما تمثل فى الحادث الإرهابى فى ٢٢ مارس أمام البرلمان البريطانى وسط العاصمة لندن. وإذا كانت السياسات «الاستيعابية» للمجتمعات والمهاجرين المسلمين كما تطبقها فرنسا منذ أجيال بعيدة على المهاجرين لفرنسا من مستعمراتها الإفريقية والعربية تتحمل قدراً كبيراً من المسئولية فى تحول الأجيال الجديدة من الشباب المسلمين الذين ولدوا وتربوا وتعلموا على أراضيها ورغم ذلك لم يتشبعوا بالقيم الأوربية أو بالنموذج الحضارى الأوربى، وكان تأثير التلقين والاغواء الإرهابى والتكفيرى أقوى عشرات المرات من منظومة القيم والثقافة الأوربية، فثمة عوامل أخرى لا يمكن إغفالها دفعت جماعات الشباب المسلمين التى اتجهت نحو التطرف واعتناق الفكر التكفيرى الإرهابى العنيف وسط المجتمعات الاوربية، هذه العوامل تمثلت فى ثقافة الانفصال والانغلاق (والميل للانعزال) التى ظلت تغذيها وتغرسها وتحققها اتجاهات (الجماعات السلفية) التى انتشرت داخل المساجد والمراكز الثقافية وأماكن العبادة والمدارس الإسلامية فى المدن والعواصم الأوربية، فضلاً عن المعتقلات والسجون التى كانت مثل بيئة مهيأة لتخريج أشد العناصر استعداداً للعنف والإرهاب.

ولعل التثقيف المشوه التحريفى لمفهوم العلاقة بالإسلام الحنيف الوسطى المعتدل بالديمقراطية الغربية كان هو المدخل فى أوساط الجماعات السلفية فى أوربا للترويج سنوات طويلة، والتى تقول إن الإسلام والديمقراطية على طرفى نقيض، وأن المسلمين فى المجتمعات غير الإسلامية يجب أن يحافظوا على هويتهم الإسلامية بعدم الاندماج، بل ورفض ومقاومة ومعاداة (المجتمعات العلمانية) وهذا كله مثل التحدى الحضارى والسياسى على المدى القريب والبعيد لتماسك المجتمعات والدول الغربية لما تتمتع به التنظيمات والجماعات السلفية من قوة تأثير وربما لما تتلقاه من دعم مادى ومعنوى من مصادر سلفية جهادية من خارج أوربا ومن داخلها أيضاً.

بريطانيا وجذور التطرف والإسلام الراديكالى:

ومن أخطر التساؤلات المطروحة على الصعيد الداخلى فى بريطانيا نفسها، وعلى الصعيد الأوربى كذلك، وخاصة فى إطار أجهزتها الأمنية والجنائية كيف تكون تلك الأجهزة على علم مسبق ومفصل بالسجل والخلفية السلوكية للإرهابى (خالد مسعود)، الذى خطط ودبر ونفذ فى وضح النهار تلك الجريمة بل وكانت فى الموقف الذى يتيح لها تنفيذ إجراءات وقائية استباقية لحماية أمن المواطنين وأمن المجتمع، ورغم ذلك تتخلى تلك الأجهزة عن مسئولياتها التى تحددها القوانين، تلك هى التساؤلات التى لم تستطع رئيسة الوزراء البريطانية (تريزا ماى) فى حديثها الاضطرارى أمام مجلس العموم البريطانى فى الثالث والعشرين من مارس أن تجد لها إجابات أو تبريرات ، بل وربما دون مبالغة فهى قد أدانت الحكومة كلها بطريقة غير مباشرة بأن الموطن الإرهابى هو من مواليد بريطانيا وأنه شخصية معروفة للأجهزة الاستخباراتية التى تركته يتحرك بحرية كاملة، بزعم «أن الديمقراطية والقيم التى تنبثق عنها هى التى تسود وتحكم»، التعامل مع المواطنين المحاطين بالشبهات.

فالقضية الآن تتحول من قضية مواطن بريطانى، تعلم وتربى على أرض بريطانيا إلى قضية حدود الديمقراطية وحدود القيم التى تسمح باعتناق الفكر المتطرف والتحول إلى عقيدة العنف والإرهاب مدفوعة بالأيديولوجية الإسلامية كما قالت رئيسة الوزراء (تريزا ماى) وهو ما يثير بالتالى علاقة بريطانية الدولة والمجتمع، والقوانين والى أى مدى أتاحت وتتيح لبريطانيا استشراء أيديولوجية التطرف العنيف فى المجتمع البريطانى (والى أى مدى سوف تظل ما تسميه رئيسة الوزراء البريطانية الديمقراطية والقيم، تسمح بأنشطة ارهابية تقتل وتذبح الأبرياء من بريطانيين وغير بريطانيين حتى إن كان أعضاء البرلمان البريطانى قد تجنبوا الظهور بمظهر الانقسام والضعف أمام جريمة (الإرهاب) التى أغمضت الأجهزة الأمنية عيونها وآذانها عنه سنوات كاملة حيث انتهى الأمر بعد ذلك لتجاهل لأخطار(التطرف الإسلامى العنيف) (الذى سبق أن سجله تفصيلاً تقرير خطير نهاية ٢٠١٥ عن الخطر الذى تشكله جماعات الإخوان المسلمين (تقرير برادفورد) فى ديسمبر ٢٠١٥ الذى كان قدم للبرلمان الانجليزى بتوجيهات من رئيس الوزراء البريطانى السابق( ديفيد كميرون)

من الواضح أن خريطة (داعش) موزعة على العواصم الأوربية الكبرى فى يوليو الماضى، تركت داعش فى مدينة (نيس) الفرنسية فى يوم الباستيل فى يوليو ٢٠١٦ وانتقلت خلايا داعش إلى (برلين) فى أعياد رأس السنة وفى ربيع ٢٠١٧ كانت وجهة داعش ضرب أعرق برلمانات العالم أو كما يسمونه أبو البرلمانات فى العالم كله فى لندن أى أنها تحركت فى برلين، ومن قبل فى (نيس) والواضح من تحليل تطور تلك الأحداث الإرهابية أن الأسلحة المستخدمة تحولت من الرصاص إلى السلاح الأبيض، ومن القنابل إلى السيارات المفخخة والى الشاحنات الضخمة القاتلة والى الأسواق المفتوحة والرموز السيادية والروحية، (الكنائس) فى برلين والبرلمانات (بريطانيا) والدلالة فى ذلك كله واضحة لكل المحللين والخبراء ألا وهى أن ارهابياً واحداً فقط منتمياً لخلايا وعناصر داعش لديه القدرة والتخطيط لأن يشن الهجوم على (قصر ويستمنستر) فى البرلمان البريطانى ومن قبل على احدى دور الصحف الفرنسية كما حدث فى صحيفة تشارلى ابدو) فى باريس وعلى أحد المتاحف فى (باردو) فى تونس وكذلك فى قلب العواصم والمدن الأوربية والعربية فى السنوات القليلة السابقة.

توقعات الخبراء المتخصصين فى رصد واستقراء عواقب مثل هذا التطور فى استراتيجية داعش وتكتيكاتها على الصعيد الأوربى خاصة تشير إلى أن تراخياً وخللاً أمنياً شديد الخطورة يصل إلى حد التقصير فى المسئولية برغم توافر المعلومات اليقينية عن خطط للإرهابيين فى أوربا (حذر وزير الأمن الوطنى البريطانى فى بداية العام (يناير٢٠١٧) من أن تنظيم الدولة الإسلامية يخطط لاستخدام أسلحة كيميائية واستهداف أكبر عدد من الخسائر (حديث فى صحيفة صنداى تايمز) فى ذلك التاريخ مؤكداً أن ثمة شكوكا قوية بأن داعش تقوم بتصنيع أسلحة كيماوية فى أماكن تمركزها فى العراق وسوريا خلال عامى ٢٠١٤ ، ٢٠١٥) وهو ما كشفت عنه الأجهزة الأمريكية خلال عمليات القصف لمواقع داعش فى مارس الجارى ومن خلال اعترافات أحد عناصر داعش المسئولين عن برامج التصنيع للأسلحة الكيماوية (سليمان دواود العفارى).

ويؤكد وزير الأمن الوطنى البريطانى فى حديثه لصحيفة الصنداى تايمز أن الخطر لم يزل حقيقياً وداهماً فى العواصم الأوربية كلها.

وفى نهاية عام ٢٠١٦ كشفت المصادر الاستخباراتية الأمريكية عن إحدى الوثائق الخطيرة التى كانت قد اعدتها (داعش) للانتقال من المرحلة المحلية إلى المرحلة العالمية، والجهاد العالمى بإعداد خطة من سبع نقاط لغزو عواصم العالم، أوربا وأمريكا وآسيا وغيرها فى شكل ما تسميه المواجهة بين الكفر والإيمان حتى عام ٢٠٢٠ وقد عثرت تلك المصادر على الخريطة التى تمتد من اسبانيا إلى الصين وشمال إفريقيا.

ولما كانت (عقيدة) الموت والعدم الإبادة هى التى تحكم استراتيجية داعش (٢٠٢٠) فى إطار ما تسميه (المواجهة الشاملة) وهى كذلك تسمى «الخطة الكبرى» للسيطرة على العالم الغربى والتى سجلها بالتحليل والوصف الصحفى البريطانى (اندرو هوسكين) وتهدف إلى استعادة الأندلس (أسبانيا) واستعادة القوقاز روسيا واستعادة خراسان إيران واستعادة ارض الكنانة (مصر) وأرض الجحاز (السعودية)، وبالطبع اقتحام حدود أوربا الغربية كلها (بفرض ما تسميه حكم الشريعة الإسلامية) التى تطبقها عناصر داعش التى تنقل اليوم مسارحها من أرض الشام والعراق إلى أوربا الغربية لتكون مقراً وعاصمة لدولة الخلافة الموعودة (من أسبانيا غرباً حتى الصين شرقا)

وتحدد (الخطة الكبرى) لداعش ستين دولة تقف موقف العداء من الإسلام ـ كما تزعم وتدرج (من بينها الولات المتحدة وروسيا) وإذا كان البعض يستبعد مثل هذه الاحتمالات ولا يرجح احتمالاً واحداً منها كما تروج وثائق داعش، فالخطوات الأولى لداعش كانت فى البداية مستبعدة رغم أنها مطروحة فى أى تقديرات لكنها حدثت وتحققت يالفعل (بدءاً من ظهور أبو مصعب الزرقاوى عام ١٩٩٦) وبرنامجه لتحقيق النصر ويروى الكاتب الانجليزى (اندرو هوسكين) أن العالم كله تصور أنه قد تمكن من القضاء على قادة داعش وقتل عناصرهم وتصفية مواقعهم، لكن داعش كما يقول هوسكينز مثل الخلايا السرطانية تنمو من جديد وتنتشر وهى اليوم تهاجم عواصم أوربا، مثلما هاجمت عواصم عربية وشرق أوسطية سنوات طويلة، وها هى اليوم تكشف الستار عن خطة ٢٠٢٠ وتدشن عمليات الاقتحام للحصون الغربية فى استراتيجيتها الجديدة.

خلايا التنظيم، الأنشطة والأهداف الأوربية:

أما عن الخلايا السرطانية الداعشية فى أوربا وعلى امتداد دولها وعواصمها فلعل أوثق المصادر الرسمية التى ترصدها وتجمع المعلومات الأمنية الكاملة عنها وعن خلاياها وخططها وعناصر هو تنظيم «اليوروبول» ـ أى جهاز الشرطة الجنائية الأوربية والذى يؤكد رئيسه القائد الهولندى «روب واينرايت» فى تصريح له لصحيفة ألمانية فى فبراير ٢٠١٦ أن عناصر داعش قد انتشرت فى دول أوربا وأن عددها قد بلغ (٥٠٠٠) عنصر مدرب من العناصر التكفيرية التى استكملت استعدادها القتالية.

وفى دراسة موثقة خطيرة أخرى للمركز الدولى لدراسة ظاهرة التطرف فى «كنجز كولدج» بجامعة لندن، يقول «سكوتايجلوند» فى يوليو ٢٠١٦ نقلاً عن مؤتمر حول (داعش فى أوربا) عقد فى الفترة من ٢٨ ـ ٢٩ يوليو ٢٠١٦ أن التنظيم قد تحول من «استراتيجية الخلافة» التى كان يدعو لها فى سوريا والعراق إلى استراتيجية (الإرهاب العابر للدول) أو الإرهاب الدولى على الصعيد الأوربى (وقد أكد هذه المعلومات قائد الإدارة العامة للأمن الداخلى فى فرنسا أمام إحدى اللجان البرلمانية محذراً من سقوط فرنسا فى هاوية الحرب الأهلية وأن هذا المصير ينتظر أوربا كلها وأن تتحول هذه الحرب إلى مواجهة بين المسلمين والغرب وأن هذا هو ما تسعى إليه داعش من خلال (الجهاد العالمى).

أحداث لندن مارس ٢٠١٧ ومن قبلها أحداث باريس ٢٠١٥، وبروكسل ٢٠١٦ وبرلين ٢٠١٦ والكشف عن خرائط داعش ووثائقها، واستقراء منشوراتها (أعماق، ودابق) ووسائل الاتصال الاجتماعى، وفيديوهاتها وتطوير عملياتها من «حروب لا متناظرة» خسرتها فى مسارح العراق وسوريا وسيناء إلى مسارح تفجير الرموز الدينية والسيادية من الكنائس والمساجد والمقار الرسمية للحكومة وأجهزة الأمن واستغلال العمليات الفردية (الذئاب الشاردة) وأنواع مختلفة للأسلحة (السكاكين ــ الشاحنات) جميعها مؤشرات ودلائل على أن أوربا وعواصمها ومن قبلها المشرق العربى وشمال إفريقيا، والمدن الأمريكية تشير إلى أن (داعش) يكاد يكون قد تحول إلى عدو مجهول الملامح، متغير المواقع لا يحده مكان أو زمان، غير محدد الخلفيات لأجهزة الأمن الأوربية، وذلك هو التحدى الحقيقى، أو ربما المأزق الذى يواجه قادة أوربا وقوى التحالف العالمى فى مواجهة خلايا الإرهاب المراوغ المناور الذى لا يكاد يحتضر حتى يسترد أنفاسه من خلال عقيدة الموت والعدم وأيديولوجية الحرب حتى النهاية، فهل تنتظر أوربا، وهل ينتظر العالم، وهل ننتظر نحن حتى يصل داعش لحرب النهاية؟، ونصل معه إلى تلك الحافة؟.