بقلم – أحمد بان
ربما أصبح من المعلوم تاريخيا بالضرورة أن جماعة الإخوان لم يعرف عنها عبر تاريخها، أنها انخرطت بشكل جاد فى إجراء أى مراجعة لمسارها أو أفكارها أو مشروعها، إلا فيما ندر، وربما كانت آلية عقد مؤتمر عام للجماعة تقليدا جيدا، لكنه توقف قبل نهاية عام ١٩٤٥ وحتى اليوم، ولم يحاول أحد من أعضاء الجماعة أو قياداتها أو رموزها الانخراط فى مراجعة جادة. تتضمن الأفكار والمقولات الرئيسية أو المسار الذى سلكته أو الأهداف التى وضعتها لنفسها،أو محاسبة قيادات الجماعة أصابت أم أخطأت، فهل يعرف فقه الجماعة فضيلة المراجعة؟ أم لايعرف سوى المناورة بها وبغيرها فى سبيل تأبيد الوجود، وتأكيد الحضور فى المشهد بكل وسيلة حتى لو كان عبر التلويح بالمراجعة والاعتراف بالخطأ والاعتذارعنه.
هل تبدو مراجعة الجماعة الأخيرة أو بالأحرى جبهة محمد كمال أو جناح العنف أو جناح الشباب، أو سمه ما شئت لونا من ألوان المراجعة الحقيقية، أم هى مناورة جديدة تستهدف فتح ثغرة فى جدار الشارع أو القوى السياسية، أو محاولة كسب قطاعات جديدة ترمم بها شرعيتها المنهارة.
ربما إجابة هذا السؤال تعود بنا إلى تاريخ الجماعة وتحديدا تاريخ مؤسسها حسن البنا، الأكثر تعبيرا عن أفكارها ومنهجها وسلوكها، والذى وصفه عمر التلمسانى بأنه الملهم الموهوب، وشايعته أقلام قيادات الجماعة بأوصاف مماثلة، أضفت على الرجل هالة من القداسة والتبجيل وخلعت عليه أوصافا براقة، من قبيل أنه رجل الشورى المؤمن بالديمقراطية والحوار المنفتح على غيره، فهل كان حسن البنا المؤسس كذلك بالفعل؟ أم أن الأمر ينطوى على خداع واضح، يجيب عن هذا السؤال كاتب ومفكر مرموق، يعرف بأنه من المتعاطفين مع الجماعة والمحسوبين على مدرستها الفكرية هو المستشار طارق البشرى، الذى كتب نقدا علميا محايدا لشخص حسن البنا يرسم صورة الرجل الحقيقية، كما أنه يساعدنا فى فهم تحولات القيادة داخل الجماعة ومدى قبولها لفكرة المراجعة أو الاستدراك من الآخر.
احتفظ حسن البنا لنفسه بالحق فى التفكير والتدبير واثقا فى قدراته وحده، لذلك لم يكن غريبا أن يعلن تحوله منفردا من الدعوة للسياسى فى العام ١٩٣٨، معتقدا أن إبرام معاهدة ١٩٣٦ قد هزت شعبية حزب الوفد وحانت لحظة الانقضاض عليه ووراثة دوره، ولأن هذا القرار اتخذه البنا بمفرده دون أن يستشير فيه أحدا من قيادات الجماعة، وأهمهم أحمد السكرى وكيل الجماعة. فقد اعترض الرجل وظل البنا يصنع خطته لعزله حتى فصله فى العام ١٩٤٧ بعدما استطاع تطويقه جيدا وحشره فى الزاوية.
يكشف حسن البنا عن ميوله الاستبدادية فى مذكرات «الدعوة والداعية،» يقول «كان خرج على الجماعة وهى لاتزال بالإسماعيلية بعض الأعضاء وطبعوا نشرات (اتهمها المرشد بأنه مغرضة)، ذكروا بها أن حرية الرأى مفقودة فى الجماعة وأنها تسير على غير نظام الشورى. وأن مجلس إدارة الجماعة وجمعيتها العمومية لا تخالف للمرشد أمرا وتطيعه طاعة عمياء. وعندما اجتمع المؤتمر الثالث للإخوان بالقاهرة أوضح مستويات العمل بالنسبة للأعضاء وفصل التنظيم الإدارى للجماعة، ووضح للعضو مراتب تبدأ بالأخ المساعد ثم الأخ المنتسب ثم الأخ العامل ثم المجاهد، ثم حدد هيئات الجماعة بأنها المرشد العام ومكتب الإرشاد العام ومجلس الشورى الذى يتكون من نواب المناطق ونواب الأقسام ونواب الفروع ومجالس الشورى المركزية ومؤتمر المناطق ومندوبى المكاتب وفرق الرحلات وفرق الأخوات، وبعد أن أورد المؤتمر هذا التحديد أورد فى قرارته عبارة « وقد ترك المجتمعون لفضيلة المرشد العام تحديد مهمة كل هيئة من هذه الهيئات، ووضع البيان الذى يوضح ذلك التحديد» ،يعقب البشرى على تلك الفقرة بقوله «وأن مؤتمرا يرسم للجماعة كيانها التنظيمى ويعتبر السلطة العليا فيها لتمثيله كافة أعضائها، ويترك للمرشد أن يحدد اختصاصات كل من أجهزة العمل داخلها وطريقة تشكيله، إنما يمنح المرشد كل سلطته ويمنحه الهيمنة الكاملة على أجهزة التنظيم ومستوياته المختلفة، وليس المهم تحديد أسماء الأجهزة المختلفة إنما المهم تحديد وظائفها وطريقة تشكيلها. وترك هذا الأمر للمرشد يعنى أن يصبح هو مانح السلطة والموجد الفعلى لأى جهاز فى الجماعة، فتتجسد سلطات المؤتمر فيه» والمهم فى هذه الملاحظة ولازال الكلام للبشرى هو توضيح أسلوب العمل فى الجماعة وعلاقة زعيمها بأعضائها من خلال الأجهزة المختلفة، وقد حرص المؤتمر على أن يقوم برسم الكيان الشكلى للتنظيم بغير وظائف ولا تشكيل، وأفاد ذلك المرشد بأن أضفى على تصرفاته الشخصية صفة الأعمال الجماعية الصادرة عن هيئة المؤتمر. وبأن جسد فى إرادته إرادة هذه السلطة التنظيمية العليا ليصدر فى تنظيم الجماعة عن إرادته المنفردة باسم المؤتمر، وليصبح نشاط أى من أجهزة الجماعة بعد ذلك ممكن الصدور عن مشيئته هو فى قالب نظم ومستويات، وهذا يزيد المشيئة الفردية تسلطا بقدر ما يجعلها أكثر استتارا وراء الأبنية التنظيمية، ويمكن أن يتصور كيف يستفاد من هذا الوضع فى فرض الهيمنة الشخصية وليس فى مقدور جهاز ما أن يعارض أو يجابه منشئه القادر على تغيير وظائفه وتغيير القائمين عليه واستبدالهم، ويمكن أن يتصور ما يتأتى بذلك من القدرة على ربط الكافة أجهزة وأفرادا بالمرشد وإذكاء روح المنافسة بينهم، ليصبح هو الملاذ الوحيد لهم فيزيد تعلقهم به وتزيد قدرته على تنفيذ ما يريد من خلالهم وعلى مسئوليتهم هم، ويلاحظ على حوادث المعارضة التى واجهت المرشد أحيانا أنه كان متحكما دائما فى أجهزة التنظيم متمثلة فى الوظائف والعاملين، مختفيا عند الضروة وراء هذه الأبنية فعالا من خلال الآخرين، حريصا بعد ذلك على ألا يسيطر من دونه أى من أجهزة الجماعة على عملها أو أن ينكشف له أوجه نشاطها كلها، كما ظهرت المنافسات القائمة بين من هم من دونه.
هذا نص كاشف وبالغ العبقرية فى رسم معلم مجهول من شخصية حسن البنا وميوله الاستبدادية و طريقته الماكرة فى إدارة الجماعة والاختباء خلف حوائط التنظيم التى رسم هو خرائطها
ثم يكشف البشرى فى فقرة أخرى طريقة البنا فى التعامل مع المعارضين يقول « ويظهر من مطالعة كتابه مذكرات الدعوة والداعية، أن طريقة المرشد فى هذه الصراعات تتحصل فى تفتيت القوى المعارضة، وتوريط المعارضين فى الأخطاء وإظهار نفسه بمظهر البرىء المخدوع المعتدى عليه، والعفو المتسامح مع المعتدين عليه ويبدو أنه كان يستميل العواطف بهذا المظهر، فقد كان حريصا فى مذكراته أن يرسم هذه الصورة لنفسه عند حديثه عن أى واقعة خلاف حدثت معه، وعندما لاتكون ثمة معارضة وتلتقط بذورها تباعا وعندما لايكون ثمة أنداد وترتفع الهامة على سائر القرناء، ويصير الباقون أتباعا وعندما تتجسد الدعوة فى شخص يصير رمزا لها ويمارس أعماله من خلال الآخرين، فترتد إليه فضائلهم ولا يبدو منه إلا الوجه الناصع والساعد القادر، ويتحمل الآخرون ما يثير النقد ويكشف الوهن عندئذ يبدو الزعيم لا ككل الناس جمعا للفضائل وبراءة من العيوب وامتلاء بالحكمة والكفاية والاقتدار، وعندما يمسك وحده بأطراف التنظيم فلا يصل خيطا بين فردين ولا جهازين إلا عن طريقه يصبح وحده الملم بالعمل العليم بأسراره الموجود بذاته فيه دائما، ويبدو قرين المعرفة يفوق البشر ويظهر إدراكه قرين الإلهام، وعندما تكون الدعوة سلفية تدعو لنفسها باسم الدين يبدو الزعيم إماما تحيطه فى أعين المؤمنين به سمات القداسة، ولم يكن المرشد العام ممن يدعى لنفسه أمرا من هذا يسهل التشكك فيه ويثير النفور، إنما كان الأمر يتم عرضا بالإيماء البعيد.
تتوالى الإشارات الدالة على استبداد الرجل ودكتاتوريته المقنعة والمختبئة خلف المكر والمهارة التنظيمية، ومنها قوله عن نفسه فى ذات المصدرعن نظرته لنفسه ونظرته للأتباع باعتباره محور الدعوة جماعة وأعضاء وهو لايطمئن لأمر إلا أن يبنيه بنفسه، أو يشارك الإخوان فيه كتب يقول « إن فرعى جمعية الإخوان بالمحمودية وشبراخيت سوف لاينفعان كثيرا لأنهما أنشئا بغير أسلوبى، ولا ينفع فى بناء الدعوة إلا ما بنيت بنفسى وبجهود الإخوان الحقيقين الذين يرون لى معهم شركة فى التهذيب والتعليم وهم قليل، ويرى الصورة المثلى للأخ عضو الجماعة ألا يكون صاحب فكر مستقل عنه ولا ينظر إليه نظرة الأنداد والزملاء مهما كان مؤمنا بالدعوة من الناحية الموضوعية، كتب يقول « والأخ الشيخ .. له أساليبه الخالصة به وهو ينظر إلى كأخ وزميل فلا يصغى لآرائى إلا قليل، ومن هذه الناحية يكون توحيد الفكرة ضربا من التعسر فالاعتماد عليه مخاطرة كذلك « يقول البشرى ومع هذا الحرص على أن يكون هو مصدر كل شىء حاكما بالفشل على ما يبنى بغير أسلوبه، رافضا الاعتماد على من كانت له أساليبه الخاصة وعلى من نظر إليه نظرة الأنداد كان المرشد يفقد الثقة فى قدرة الآخرين على القيام بعمله أو مشاركته فيه، كان يرى أن الكل ضعاف ويشكو من أنه يجد نفسه بين ضعف الأمين وخيانة القوى، وتعنى هذه النظرة أن الأمين عنده هو الضعيف وأن القوى مصدر للخطر وخبث مستتر وهى نظرة يبدو أنها تلازم التسلط الشخصى.
شهادة البشرى عن حسن البنا ربما من أفضل الشهادات التى كتبت عن شخصه، حيث تعرى جانبا هاما من شخصيته وتفسر ربما كيف مضت الجماعة فى طريقها إلى حكم مصر بقائد مسيطر هو المرشد أو من ورائه، وجنود وأتباع يسمعون ويطيعون وعلى رأسهم الجندى المطيع محمد مرسى مندوب الجماعة فى قصر الرئاسة لعام.
إن أى مراجعة جادة ستكشف الكثير عن تلك الجماعة التى بالرغم من كثرة ما كتب عنها إلا أن غموضها مقصود وتاريخها حافل بالأسرار.
لن تراجع الجماعة نفسها لأنها مضت فى طريقها وهى تنفذ بدقة ما أراده حسن البنا وما علمه لرجالها، الذين توارثوا هذا المنهج السرى الذى يجعل الجماعة جسدا ضخما مليئا بالمؤسسات والكوادر، التى تشارك فى خطط أشغال مستمرة لكن السلطة تبقى بيد المرشد الذى حصنته اللوائح المكتوبة والفقه الشفهى المتداول عبر عقود.
لذلك لم يكن غريبا أن يحاضر مدرب لعدد من المرشحين لدخول البرلمان قائلا لهم، كل رمز منكم هو بالونة من الهواء مربوطة بخيط يمسك بهالمرشد ويحركه كيف يشاء.
المراجعة ستهدم هذا البيت بيد أصحابه، لذا يخشاها جميعهم حتى وإن ادعى البعض انخراطا جزئيا فيها.