محمود عبد الصمد زكريا - شاعر مصرى
(1)
ولا تندهشْ..
إذا قلتُ: إن الذي يعتريكَ
أنا.. لا هيَّ !
عيشتي اللاهيةْ.
جنةٌ عاليةْ.
والجحيمُ المقيمُ
الذي تتبدى لهم نارُهُ حاميةْ.
لم يكن لي سوى قطفقةٍ دانيةْ.
فلا تندهشْ
إذا قلتُ: إن التي تعتريكَ
وتشعلُ فيكَ دماءَكَ
ليستْ هيّْ
ربَّما شهوةٌ واريةْ.
أنتَ لستَ سوى آنيةْ.
وبعضُ الأواني مواقدُ
قد تتجمَّرُ فيها المشاعرُ
أو تتوارى بها فتنةٌ خابيةْ.
وأمَّا هيَّ
فهي – يا سيدي – من هيَّ
قطرةٌ من ندى
زهرةٌ ناديةْ.
(2 )
لا بأسَ ..
ليس أنا مَنْ مشى
فوق هذا الضباب الذي
راودته الفجيعةُ عن نفسِهِ
فانتشى..
وغشَّتهُ كلُ الأحابيلُ
حتى غشى..
ولمَّا قضى في صباحِ الرحيلِ
إلى ساحةٍ من فراغٍ بهيمٍ
رأى في ختامِ الخديعةِ
نورَ الصباحِ الذي لا غروبَ له
فوشى..
(3 )
طائرٌ..
آبَ إلى سِدرةٍ والِها..
ربَّما حامَ فوقَ ضبابٍ كثيفٍ
من الذكرياتِ
رأى فوق سطحِ المرايا
بقايا لعُشٍّ قديمٍ
بكى...
ولكنه ما اشتكى
حين حطَّ على سِدرةِ المُنتهى
والِها.!!
( 4 )
وحينما تفتحتْ نوافذُ السماء ِ
رتّلتْ حناجرُ الغيوب ِ
فاصلا ً من الدعاء ِ..
فاستجاب َ طائرُ العُنقْ.
وانسلّ من شرانق الإلزام ِ
وانعتقْ.
مودعا ًمحطة الرحيل ِ
صوبَ سِدرة اللقاءْ.
( 5 )
هذا هو البابُ يُفتحُ
كيما نمرُّ إلى ساحةٍ
من خَضَارٍ فسيحٍ..
هناكَ غناءٌ
قريبٌ من الفرحِ
تشدو بِهِ بحنينٍ مُقيمٍ
جوارٍ حِسانٍ
وبعضُ ملائكةٍ طيبين
سنخطو إذنْ
إلى مُدخلٍ واضحٍ
ونعبرُ أفقاً نديَّاً
من الخضرةِ المخمليةِ
ننشدُ لحناً صبوحاً
فيبرقُ وهجٌ
وتصحو نفوسٌ قضتْ نحبَها
وانطوتْ في المجاهل..
هذا هو البابُ يُفتحُ
كيما نمرّ؛ ونقرأ في اللوحِ أقدارَنا
ونبدأ رحلتنا للهدوءِ المُريحِ!
( 6 )
كأن الذي حاكَ خيطَ البدايةِ
يُدركُ أن المصائرَ
تعبقُ في طينةِ الخلقِ.
وهجاً تزلزلُ نفسي زلزالَها
ووهجاً تُطقطِقُ في النارِ أسرارَها..
يسيحُ السوادُ
ويطغى البياضُ
هو المحو يُنجزُ في النفسِ آياتِهِ
هو الطمسُ..
هل يكتسي كلُ ما كُنتُهُ بالرمادِ؟
ولا خطوةٌ للوراءْ ؟!
( 7 )
ربَّما لُعبةٌ للمرايا؛ ولللأقنعة؟
الجسومُ قناعٌ تُغَلَّفُ فيه النفوسُ..
صداها قناعٌ يُخبئُ نسيانَها..
والمرايا فراغٌ
ليسبرَ غورَ المنافي..
هنالك ضيفٌ وحيدٌ؛ يتيمٌ
تؤوب إليه جميعُ النفوسِ
وأنثى وحيدةْ.
تُدندنُ لحنَ العناصرِ
ثم تلِمُّ بقايا حريقِ الخطيئةِ.
هذا هو البابُ يُفتحُ
حتى يعودَ اليتيمُ الوحيدُ؛ وأنثاهُ
من رحلةٍ للمنافي
إلى دوحةٍ من خَضَارٍ فسيحْ.
( 8 )
وليس أنا – ربَّما –
منْ خبرتُ المجاهلَ / أهوالَها
أمن خارجِ الوقتِ جئتُ؟
أم أني نجوتُ؛ وكانوا معي
يحملونَ سياطَ الهلاكِ
بهم رهبةٌ
ويا ربَّما رِجفةٌ
لماذا تمرّ أمامي المشاهدُ
فوقَ سطوحِ المرايا:
سَهارى بحاناتِ وهمٍ سُكارى
زهورٌ تشقُ صخوراً
وباءٌ يداهمُ بيدًا
وبيدٌ تداهمُ بحرا
لماذا تُصلي الجماجمُ
كلُ الجماجمِ في برزخٍ واحدٍ ؟
( 9 )
أكان يبوصلُ أيامَهُ
حين مرَّ عليه ضبابٌ كثيفٌ
وبردٌ.. وثلجٌ..
وكان الصغارُ يطلون
بحثاً عن الدفء
عن نظرةٍ من حنانِ الأبوةِ
كم كان يصبرُ صبراً جميلاً
ليحرسَ أطفالَهُ
وكم كان..
صار..
ولكنهُ.!!
( 10 )
غريبٌ يعودُ إلى بيتِهِ
بعد هجرٍ طويلٍ
لماذا توجسَ من فقدِ أهلٍ لهُ
تعثَّرَ في ذكرياتٍ ثِقالٍ
تردد في طرقِ بابٍ أليفٍ
وراحَ يشمُ المكانَ
ويحدسُ
حين يُحدِّقُ في زرقةٍ للسماءِ
هنا كان مسقطُ رأسي
هنا كنتُ نفسي؛ ويأسي
غريبٌ تكوكبَ حولَ البقايا
ولاذَ إلى عُزلةٍ
في الأعالي!