الأربعاء 29 مايو 2024

لقاء البهجة والتوتر

29-3-2017 | 13:23

طلعت رضوان - كاتب مصري

  قال له رئيس التحرير "أهلا بك فى بلدنا وفى مجلتنا. اعتبر نفسك قد استلمت العمل. ولكن عليك الذهاب لمقابلة المسئول المصرى عن النشر فى صحفنا ومجلاتنا، وتحصل على موافقته للعمل فى مجلتنا".

   مشى الكاتب المسرحى فى شوارع مدينة لا يعرفها ولا تعرفه. فى يده ورقة بها عنوان المسؤول المصرى عن النشر فى وطن ليس وطنه. دخل السكرتير مكتب رئيسه وأعلنه بالزائر القادم من مصر. فتح له السكرتير باب مكتب رئيسه وانصرف. الجالس وراء مكتبه يتحدث فى التليفون. تسمّر الكاتب المسرحى فى مكانه. الصوت الذى يسمعه والوجه الذى يراه، أعاداه إلى سنوات المعتقل. ها هو صوت العرسة ووجه الفأر أمامه. مشى عدة أمتار حتى وصل إلى أقرب كرسى وجلس.

   أنهى رئيس المكتب مكالمته. نظر فى جواز السفر ثم نظر فى وجه الضيف. غادر مكتبه وهو يصيح "بالأحضان" بعد الأحضان والقبل التى فرضها رئيس المكتب قال "تصور أنّ اسمك الرباعى أربكنى، وجعلنى أستبعد أنْ تكون أنت زميل المعتقل".

    رنّ جرس التليفون فجرى إليه. دوّن الكاتب المسرحى فى رأسه "علينا أنْ نفكّر فى الافتراض المعكوس" كيف كان سيتصرّف لولا واقعة اسمى الرباعى؟ هل كان سيستقبلنى، أم ينكر وجوده؟ هل هو اسمى الرباعى فقط الذى التبس عليه، أم هى الخمر التى غشتنى رائحتها وهو يُقبّلنى؟ أف. لماذا ينقبض صدرى؟ ولماذا التوتر منذ رأيتُ وجه الفأر؟

   انتبه على صوت العرسة. سمعه يقول "حاضر يا أفندم.. حاضر يا أفندم" طوال المكالمة لم يفتح عليه قاموسه الأمنى إلا بهذه الكلمات. قالت له مخيلته الساخرة "يبدو أنها المفردات الوحيدة فى ذلك القاموس. يُرتلها المؤمنون بها من أدناهم إلى أعلاهم" سحبته ذاكرته إلى سنوات المعتقل. تذكّر أنّ وصف وجه الفأر وصوت العرسة، كان بإجماع كل المعتقلين. أصغى إلى نفسه وهى تعود به إلى تلك المحطة من حياته "أطلقنا هذا الوصف عليه قبل أنْ نكتشف أنه مدسوس علينا. وقبل أنْ نتأكّد من أنه ينقل أخبارنا إلى مندوب المباحث بالمعتقل" ابتسم ونفسه تذكّره بـ "الوجبة المعتبرة" التى قدّمناها له. وهى خليط من الضرب على القفا إلى كسر سنتيه البارزتين واللتين أكسبتاه وصف الفأر بجدارة، كادت الابتسامة تتحول إلى ضحكة متفجرة وهو يتذكّر الفنان التشكيلى الساخر الذى كان أول من أطلق عليه وصف الفأر. فبعد ثلاثة أيام من وصول الفأر إلى المعتقل، قال الفنان التشكيلى لنا "موش عارف يا جماعة، ليه كل ما أبص فى وش الجدع دا، أشوف وش فار؟" يومها ضحكنا لعدة ساعات. فى يوم (الوجبة المعتبرة) انفعل أحد الزملاء وأحدث به بعض الجروح. تولى زملاؤنا الأطباء علاجه. كان علاجه ورباط الشاش على وجهه هديتنا إليه، قبل أنْ تنقله إدارة المباحث إلى معتقل آخر" ابتسم وتبخّر توتره.

   أخذ نفسا عميقا وأيقن أنه كلما توغّل فى ذكريات المعتقل، انتعشت روحه. ورغم طاقته الإبداعية فى السخرية من كل شيء حتى من نفسه، وأنّ لا شيء يثير دهشته، اندهش من طول المكالمة، ومن الكلمات التى لا تتغير "حاضر يا أفندم.. حاضر يا أفندم" تنهّد عندما وضع رئيس المكتب سماعة التليفون. ثم رفع السماعة من جديد وطلب فنجاني قهوة. أشعل سيجارة وفتح ملفا وقال "دقايق وأتفرغ لك" تظاهر بقراءة بعض الأوراق، فى حين أنه كان ينصت إلى صوت أعماقه "أية رياح عاصفة. وأى تيار ماء نتن قذفه إلى شاطئ أمنى وأحلامى؟ ماذا يريد منى هذا المأفون؟ هذا المغرور الذى يعتبر نفسه أرستوفان وموليير عصره؟ مسرحياتى تلقى القبول أكثر من مسرحياته العبثية. ماذا سيقول عنى فى سهراته الداعرة مع أصدقائه؟ نعم أنا أخدم نظام الحكم. ولكن من أجل خدمة الشعب. ماذا فعلوا هم؟ يتصوّرون أنّ الماركسية ملكٌ لهم وحدهم. أنا فهمى للماركسية أنضج من فهمهم. ما الذى جاء به إلى قلعتى وإلى حصنى الآمن؟ هل جاء يطلب وظيفة فى مجلة ما فى هذا البلد الكريم؟ أم جاء ليقول لى ها أنا أضبطك متلبسا وأنت تمارس الرقابة على المبدعين؟ مثلما كنت تمارس التجسس على المعتقلين؟ فى المعتقل قلتم إنّ لى وجه فأر، وها أنت تجلس أمامى وتبتسم بوجه خنزير. ولسان حالك يقول حسنة يا سيدى كأى متسول، مثل من سبقوك من المصريين. عندما اشتدّ الحصار عليكم هربتم إلى هذا البلد المضياف. ماذا أفعل مع هذا الخنزير الذى شارك فى ضربى فى المعتقل؟ هل أوافق على تعيينه فى إحدى المجلات؟ فيكون تحت رحمتى، أم آمر بطرده؟

   كانا يشربان القهوة فى صمت. ومانعُ الحوار استمرار رئيس المكتب فى التظاهر بقراءة بعض الأوراق. وكان يُشعل سيجارة من عقب أختها، وهو يفكر أى قرار يتخذ؟ بينما الكاتب المسرحى قرّر أن يطول المشهد، ويترك لزمن المقابلة تحديد نهايتها. وابتسم عندما تذكر أنّ الزملاء فى كل المعتقلات اكتشفوا أمره. وأنّ أسياده أبعدوه عنهم، بعد أنْ أصبح (كارتا محروقا) تتغير الابتسامة ليحل محلّها شرود. حدّثته نفسه بمرارة "ولكن هذا الكارت المحروق فى عهد عبد الناصر، إذا به ينبض بالحياة بعد عهدين متتاليين، ويكون هو المُتحكم فى أمر تعيين الكتاب المصريين فى وطن ليس وطنه؟!".

   استقرّ رأى رئيس المكتب على تعيينه. وقال لنفسه "سيكون تحت رحمتى. سأتفق مع رئيس التحرير أنْ تكون مقالاته الأولى، تأييدا وثناء على نظام الحكم فى البلدين" ولأول مرة– منذ أنْ دخل الآخر مكتبه– يشعر بالبهجة. وتمنى أنْ ينتهى هذا المشهد، ليختلى بنفسه وبزجاجات خمره. وانتعشتْ روحه وهو يسمع أعماقه "سأشاهده ويشاهده أصدقاؤه وقرّاؤه وهو يكتب ما نريد".

   قال لضيفه "إنت طبعا عاوز وظيفة فى أى مجلة؟" ردّ الآخر "أنا زيارتى ليك موش علشان الوظيفة" اندهش رئيس المكتب فسأله "طيب موش عاوز أى خدمة؟" قال الآخر "لأ موش عاوز منك أى خدمة" سأله وقد تبخرتْ بهجته تماما "طيب ممكن أعرف.. أعرف.." قاطعه الآخر "عاوز تعرف سبب زيارتى. كل الحكاية لما عرفتْ إنْ إنت هنا، قلت لنفسى أمر عليك وأطمن على الجروح اللى فى وشك. وأشوف إذا كان لها أثر ولاّ ما لهاش" فتح رئيس المكتب فمه ولم يتكلم. نهض الكاتب المسرحى والتقط جواز سفره. وبحث بعينيه فى الحجرة الواسعة، ذات الأبواب العديدة، عن باب الخروج.