سيظل التاريخ شاهداً على انجازات
أعجوبة الغناء العربي أم كلثوم، فهي السيدة التي كانت بمثابة دولة في الوطن العربي
والتي استطاعت أن تجمع كل العرب، ولم يختلف على فنها وحبها اثنان، وهي أيضاً عاشقة
تراب مصر، والتي طوعت الغناء ليكون قوة ناعمة استطاعت من خلاله جمع الأموال
للمساعدة في إعادة تسليح الجيش بعد عدوان 1967 ، والباحث في تاريخ أم كلثوم يجد
مسيرتها مملوءة بدعم مصر مادياً ومعنوياً في كل الحقب التاريخية ، واليوم في الذكرى
المائة بعد العشرين لميلادها نطرح لأول مرة أسرار ومخاطر رحلتها إلي ليبيا الشقيقة
.
لم يهدأ لأم كلثوم بال ولم تدخر أي
جهد في إزالة آثار العدوان عن مصر بعد الإثنين الحزين الخامس من يونيه 1967 ، فقد
قامت بست رحلات إلى باريس والمغرب وتونس والكويت ولبنان والسودان ، من أجل أقامة
حفلات لصالح المجهود الحربي وتسليح الجبش، وهاهي الرحلة السابعة بتفاصيلها
ومخاطرها التي رصدها الكاتب المبدع رجاء النقاش ورصدها بالكاميرا زميلنا محمود
عارف، حيث كانا ضمن الوفد الصحفي المرافق لأم كلثوم في رحلتها السابعة إلى ليبيا.
أم كلثوم ترفض طائرة خاصة
في الثالثة بعد ظهر يوم 10 مارس 1969
كانت بداية الرحلة من مطار القاهرة إلى ليبيا، حيث رفضت أم كلثوم أن تستقل طائرة
خاصة أعدت لها وفضلت أن تسافر في طائرة عادية مليئة بالركاب، ودخلت أم كلثوم
كعادتها في الدقائق الأخيرة زجلست في المقعد الأول كما تعودت وجلس بجانبها إبن شقيقتها
المهندس محمد الدسوقي، وقد كان آنذاك رئيس مجلس إدارة شركة دور العرض السينمائية،
وهو الملازم دائماً لكوكب الشرق كظلها .. ورصد كاتبنا رجاء النقاش سلوك أم كلثوم
الجدير بالمتابعة، فقد كان يجلس في المقعد الخلفي، ووجدها هادئة تتمتم ببعض آيات
القرآن الكريم، ولا تتناول أي طعام في أغلب الأحوال في الطائرة ولا الشاي أو القهوة،
فقط تتناول عصير الفاكهة، ووجب التنوية أن النقاش كان معها أيضاً في رحلة السودان.
استقبال حافل في معرض طرابلس
هبطت الطائرة في مطار بنغازي وهو مطار
صغير وأنيق ولاقت أم كلثوم استقبال ودي محدود وحار، وفي استراحة المطار التف حولها
الجمهور والصحفيون يرحبون بها ويتحدثون معها، وبعد فترة استقلت طائرة أخرى من
بنغازي إلى طرابلس، ووصلت هناك في المساء، حيث وجدت كبار المستقبلين يرحبون بها
وعلى رأسهم السيد عبد الله عابد السنوسي الذي وجه الدعوة لأم كلثوم لزيارة ليبيا،
وكان في استقبالها أيضاً العديد من الصحفيين والمواطنين المحبين لفتها، وكانت
طرابلس قد أعدت استقبالاً آخر لأم كلثوم بعيداً عن المطار، فهو يبعد عن المدينة 30
كيلو متراً مما حال على الكثير من المواطنين الحضور إلى المطار، وكان الأستقبال
الحقيقي لها في معرض طرابلس الدولي في اليوم التالي لوصولها، حيث تجمعت جماهير
الشعب الليبي حولها مصفقين ومرحبين، ولم تستطع سيارتها السير بسبب الحشود التي
اجتمعت للترحيب بها، واتجهت أم كلثوم بعد زيارة المعرض إلى فندق
"الودان" الذي تقيم به.
الحفل الأول برعاية فتح
أحيت أم كلثوم حفلها الأول في طرابلس
في ليلة الأربعاء 12 مارس 1969 ، وقد تجمعت الجماهير التي بلغت قرابة سبعة آلاف
مواطن من كل أنحاء ليبيا، وحرصت الإذاعة على بث الحفل وأيضاً التليفزيون الليبي،
وحضر الحفل رئيس الوزراء والوزراء والعديد من كبار الشخصيات وعدد كبير من نساء
ليبيا في ملابس عصرية أنيقة .. وقام أعضاء مكتب منظمة فتح في ليبيا بتنظيم الحفل
والإشراف عليه واستقبال الجماهير، فرحلة أم كلثوم كانت من أجل فتح والفدائيين
الذين يبذلون الدم ثمناً لتحرير بلادهم، وشدت أم كلثوم في تلك الليلة بأغنيتين
وهما هذه ليلتي ثم الأطلال، ومن العجيب أن ظلت أغاني الحفل مفقودة إلى أن قدم
الشيخ محمد شعبان وهو كلثومي تونسي أغنية هذه ليلتي إلى عشاق أم كلثوم في منتدى
سماعي عام 2008 وفي شهر فبراير 2009 أخرج الإذاعي القدير إبراهيم حفني الوصلة
الثانية للنور وهي قصيدة الأطلال .
هجوم بعض الأقلام على كوكب الشرق
رغم الاستقبال الحافل لأم كلثوم في
طرابلس ونجاح حفلها الأول إلا أن هناك بعض الأقلام هاجمتها في صحف محدودة، وتركز الهجوم على نقطة واحدة
وهي كيف تغني للحب ونحن نعيش في المعركة؟ وأكد النقاش أن أم كلثوم فنانة وتشارك في
المعركة بفنها، فهي لا يمكنها أن نغير مهنتها إلى طبيبة أو مهندسة، بل بفنها تعيد
الثقة للإنسان العربي، فأم كلثوم حسب ما قاله مستشرق أجنبي لرجاء النقاش في
السودان، تستطيع أن تعيد الحيوية إلى قلب المواطن العربي، فالمفروض أننا كنا في
مرحلة الهزيمة، والهزيمة تقترن دائماً باليأس، وأكد المستشرق أن شعباً يغني وهو في
جو المعركة لا يكون أبداً شعباً ضعيفاً، بل شعب حي متفتح القلب ويستطيع أن يواجه
أعداءه بقوة.