نص كلمة احمد ابو الغيط الامين العام لجامعة الدول العربية امام القمة العربيةالـ28 بالمملكة الاردنية الهاشمية-البحر الميت-اليوم الاربعاء..
جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المُعظم
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو
أصحاب المعالي والسعادة
السيدات والسادة،
كم يُسعدني ويُشرفني أن أخاطب مقامكم الرفيع اليوم من المملكة الأردنية العزيزة .. هذا البلد الغالي الذي يملك من مقومات المستقبل المشرق بقدر ما يمتلك من عناصر ومعالم التاريخ والحضارة ..الأردن الوسطي العصي على الأنواء المُحيطة به ..
واسمحوا لي جلالة الملك أن أهنئكم على توليكم رئاسة القمة العربية الثامنة والعشرين .. وعلى تنظيمها الرفيع والمتميز .. وكلي أمل وثقة في أن رئاستكم للدورة الجديدة ستتسم بكل النشاط والعمل والمبادرة.. وكلها سمات عهدناها في قيادتكم الواعية للأردن.
كما أود أن أعبر عن التقدير والعرفان إلى فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز، رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية على رئاسته لدورة القمة السابعة والعشرين، وبصفة خاصة في ظل المُلابسات التي أحاطت باستضافة موريتانيا للقمة في يوليو الماضي، ولما بذله من جهد في خدمة قضايا العمل العربي المشترك خلال أشهر الرئاسة الموريتانية.
منذ أشهر تسعة توليتُ مهام منصبي أميناً عاماً للجامعة .. وخاطبت حينئذ قمتكم الموقرة لأضع أمامها ملامح رؤيتي للوضع العربي وعملنا المشترك والتحديات التي تواجهنا... وقد شرعت في العمل بنشاط على الفور .. كما قمت بزيارات إلى معظم الدول الأعضاء ونلت شرف لقاء قادتها والتحدث معهم حول الوضع العربي والجامعة .. وقد وجدتُ ما يلي:
أولاً:
استشعرت ارتياحاً كبيراً ودفعة معنوية هائلة من حديثي مع جميع القادة الذين شرفت بلقائهم .. حيث كان الخطُ العام هو دعم الجامعة العربية وعملها والتمسك بمهمتها السامية في تمثيل وتوحيد العرب والتعبير عن مصالحهم والذود عنها، وتجسيد آمالهم وتطلعاتهم والسعي إليها.. وبالقدر ذاته استشعرتُ أسى مفهوماً ومرارة لها ما يبررها إزاء الوضع العربي وما طاله من ضعف وانقسام وفرقة .. وقد شكلت تلك المُقابلات علامات إضاءة واضحة على طريق اضطلاعي بمسئولياتي .. ومن هنا فقد عاهدت القادة الذين التقيتهم على أن أنشط قدر إمكاني عمل ودور الجامعة في مختلف الملفات والقضايا .. وأن أسعى ما أمكن أيضاً إلى لم شمل العرب، وترتيب الأوضاع واستعادة اللحمة فيما بين الجميع.
ثانياً:
أنه رغم كل مظاهر الوهن التي تعتري نظامنا العربي، وبرغم ما تُعاني منه أمتنا من مشكلات عديدة وانكسارات وانتكاسات .. فقد تداعت لي أسباب أمل وتفاؤل في وسط ظلمة حالكة .. ذلك أن جامعتكم العربية يُمكنها أن تكون الجسر بينكم.. وأن تكون قائد عمل مشترك مثمر بين العرب .. ويُمكنها أن تنجز بشكل طيب في ملفات اقتصادية واجتماعية وثقافية وفكرية بل وعلمية .. إذا ما توفر لها دعم الدول جميعاً وتلاقت إراداتها السياسية على ذلك.
ثالثاً:
تحوم حول منطقتنا طيور جارحة كثيرة.. تريد أن تنهش في الجسد العربي وأن تفتئت على قدرة العرب على توحيد صفهم، وأن تضع العرب في تناقض بين بعضهم البعض.. وهناك من هذه القوى من يوظف الطائفية والمذهبية على نحو مقيت لتحقيق أغراض سياسية تناقض المصلحة العربية على طول الخط .. وهو نهج نرفضه ونتصدى له وندعو الأطراف التي تمارسه لمراجعة حساباتها.
وتتردد أحاديث عديدة عن السعي لترتيب منطقتنا حتى من دون موافقتنا، وبما يخلق أوضاعاً جديدة في الشرق الأوسط.. وفي مواجهة هذه الأطروحات جميعاً فقد دافعتُ خلال الأشهر الماضية عن أمرين أساسيين: الأول؛ هو الدولة الوطنية التي خرجت إلى النور في القرن العشرين، والتي ينبغي الحفاظ عليها باعتبارها نواة النظام العربي التي لا يجب المس بها. والثاني؛ التأكيد على أن الوضع العربي الحالي، ومع كل الإشكالات التي يعانيها، ليس مؤهلاً بعد للدخول في أية ترتيبات طويلة الأمد للأمن الإقليمي في ضوء اختلال موازين القوى الذي نرصده جميعاً.
رابعاً:
وفي الشأن السياسي، وجدت أن الملفات الأهم ليست في حوزتنا، أو ضمن قدرتنا على التأثير .. ربما بسبب تداعيات السنوات الست الماضية .. فنحن نتابع عن كثب الأزمة السورية دون وسيلة حقيقية للتدخل مع أطراف أخرى فاعلة تتصدى لصياغة مستقبل سوريا دون اسهام عربي حقيقي، وهذا أمر أجده معيباً... ورغم تعقيد الموقف الخاص بليبيا وأزمتها فقد سعيت إلى وضع الجامعة مجدداً في موقف متقدم يسمح لها باستجابة أفضل لنداءات كافة الأشقاء الليبيين الذين يتطلعون بأمل إلى انهاء فصول أزمتهم المستمرة بدعم ومساندة الجامعة.
خامساً:
وبطبيعة الحال، فإن قضيتنا المركزية فلسطين حظيت باهتمامي البالغ.. وتناولتها في لقاءاتي وأحاديثي، بياناً لها ودفاعاً عنها وإعلاء لشأنها.. ومع ذلك فإن الوضع ليس على ما يرام من ناحية، وهو متحرك وإيجابي من ناحية أخرى.. فإسرائيل لازالت تصمم على احتلالها لأراضي فلسطين، وهي تسير سادرة في غيها دون رادع وتُمعن في البناء الاستيطاني والتهويد والاستيلاء على الأرض.. كما أن الانقسام الفلسطيني له تبعاته السلبية... أما على الجانب الإيجابي، فهناك قرار مجلس الأمن الأخير بإدانة الاستيطان وتأييد حل الدولتين، وهناك أيضاً مؤتمر السلام الذي انعقد بباريس في يناير الماضي وشاركت فيه قوى دولية كثيرة اتحدت ارادتها حول المطالبة بإنهاء الاحتلال وتطبيق حل الدولتين، وهناك أخيراً إدارة أمريكية جديدة تتحدث عن رغبتها في إعادة دفع العملية السلمية... وهذه كلها تطورات يتعين البناء عليها ومتابعتها من أجل نُصرة القضية الفلسطينية.
إن اليد العربية لا زالت ممدودة بالسلام على نحوِ ما تقضي مبادرة السلام العربية.. ولا زلنا في انتظار شريكٍ حقيقي على الجانب الآخر يفهم متطلبات السلام ويعمل بجدية من أجل تحقيقه .. ومن أسفٍ أننا لا نجد هذا الشريك رغم تعدد الوساطات والجهود.
سادساً:
خلفت التطورات الميدانية شديدة الصعوبة في سوريا واليمن والعراق، وأيضاً في الصومال، أوضاعاً إنسانية متدهورة بين نزوح ولجوء ..بل ومجاعات.. فواحد من بين كل اثنين لاجئين في العالم اليوم، هو للأسف لاجئٌ عربي.. وأصبح لزاماً علينا كعرب أن نتصدى بشجاعة لهذه الأوضاعلأنها تمس بكرامة الإنسان العربي وحقه في العيش والحياة ... وهنا اسمحوا لي أن أشد على أيدي هؤلاء القادة الذين تجاوبوا مع نداء الإنسانية ووجهوا الموارد إلى نجدة اخوتنا المضارين، وإلى البلدان العربية التي وجدت نفسها في وجه عواصف من المآسي البشرية، ففتحت الأبواب وآوت المشردين وأغاثت الملهوفين وداوت الجروح .. وأدعو القادة العرب بما عرف عنهم من كرم وإنسانية إلى الاستمرار في هذا الدعم، بل وإلى تكثيف العون والمدد لمواجهة هذه الأوضاع الإنسانية التي يُعاني منها مدنيون عُزل في مناطق الأزمات.
سابعاً:
بالتوازي مع ذلك كله.. تحتدم في دولنا الحرب ضد الإرهاب... تكافحه الحكومات بكل ما أوتيت من عناصر القوة.. وتقاومه المُجتمعات بكل ما تملك من عزيمة وإصرار .. يسقط شهداء بالعشرات والمئات ..من العراق إلى سوريا إلى غيرهما من البلدان .. يعيث الإرهاب في حواضرنا فساداً وخراباً .. ومع هذا لم تهن العزائم في مواجهته ولم يتوانَ أحد في التصدي له لأننا نعلم جميعاً أن في استمراره ونجاحه نهاية لنا.. وفي القضاء عليه بشكل مُبرم بداية جديدة لمجتمعاتنا ومسيراتها التنموية والسياسية.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو
كانت هذه هي معالم الصورة التي تابعتها وتفاعلت معها على مدار الأشهر التسعة الماضية .. ولا ينبغي أن ننسى وسط كل هذه الهموم الجاثمة والتحديات الجسام أن غاية العمل العربي هي المواطن العربي ولا شيء آخر.. أمنه ورخاؤه وسعادته وضمان مستقبله... والمواطن العربي، على ما نرى جميعاً، ينتابه قلقٌ كبير وهو يُتابع حال الأمة ويشاهد ما تتعرض له من محنة غير مسبوقة في تاريخها الحديث .. والحقُ أن القلق مشروع والخوف من المستقبل مفهوم.. بل إن هذا القلق هو أيضاً علامة صحة ودليل حيوية في الجسد العربي.. فالحقيقةُ أن الشعور العربي الجامع ما زال موجوداً.. والعروبة ما زالت موجودة .. والهموم الداخلية في كل بلدٍ من بُلداننا لا تنفي الاشتراك في الهم العام، والإحساس بالمخاطر التي تُهدد الكيان العربي في مجموعه..
والحقيقة أن انعقاد القمة اليوم، وبهذا الحضور الكريم وهذه المشاركة اللافتة من أصحاب الجلالة والفخامة والسمو، لهو رسالةُ طمأنة لهذا المواطن العربي القلق على مستقبله.. رسالة ثقة بأن المنظومة العربية لا زالت تعمل على كل ما فيها من أوجه القصور، وأن التنسيق العربي والعمل المُشترك لا زال هو السبيل الوحيد لمواجهة التحديات .. فالخطوة الأولى لمواجهة أي أزمة إقليمية هي توفر الرؤية المُشتركة بين الأطراف، ووجود مساحة من الثقة والتواصل تسمح بمعالجة التباين في الرأي، وهو طبيعي.. وبالتحرك بشكل جماعي لمواجهة الأزمات، وهو الغاية المنشودة.
إن أزمتنا الراهنة شديدة ولكن أحسب أن إرادتنا الجامعة أشد وأصلب ...وإن مأزقنا خطير ومصيري، ولكن وحدتنا، إذا صدقت النوايا، قادرة على تجاوزه.. ليس بنا حاجة إلى التباكي على ما كان أو الانغماس في اليأس .. "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" ... وإنما نتطلع جميعاً إلى عبور هذه الأزمة بتعاضدنا وتداعينا لنجدة بعضنا البعض، وتوحيد رؤيتنا على أولويات مشتركة للأمن القومي العربي..وفي القرارات المعروضة على القمة تفصيل واضح لهذه الأولويات جميعاً.. فلا نجاة لنا مما نحن فيه إلا مجتمعين متحدين.. واجتماع إرادتنا يقطع بنا نصف الطريق إلى ما نصبو إليه.
إن عالمنا العربي قادرٌ على اللحاق بعصره، وشبابه راغبٌ في المشاركة في البناء من أجل المستقبل .. من الضروري أننفتح أمام هؤلاء الشباب نوافذ الأمل والرجاء .. وأن تُطرح في مجتمعاتنا عقود اجتماعية جديدة تستنفر طاقاتهمومواهبهم الإبداعية لبناء اقتصادات تنافسية تُفيد كافة طبقات المجتمع وتقوم على نماذج عصرية في التنمية.. تنمية البشر والحجر معاً.. تنمية تنزع عن المجتمعات آفة التطرف .. وتواجه غربان الهدم والخراب بمعاول البناء والعمران.. فكل فرصة تعليم جيد أو عمل لائق تنشل أسرة من الفقر وتثبت إيمان الفرد بمجتمعه ودولته.. بل قد توفر دماء زكية و تنقذ أرواحاً بريئة.
ولا يُداخلني شك في أن الشعوب والحكومات العربية قادرة على عبور هذا الفصل الخطير في تاريخها الحديث، وهي أشد قوة وأصلب عوداً وأمضى عزيمة وأكثر تضامناً ووحدة.
أشكركم، ووفقكم الله إلى ما فيه خير أمتنا ورفعتها ووحدة كلمتها.