الأربعاء 15 مايو 2024

الحلقة العاشرة قصة ١٨٠ يومًا خلف خطوط «الفراعنة»

29-3-2017 | 14:13

بقلم –  لواء. نصر سالم

ملخص ما نشر

فى الحلقات السابقة تعرضنا لأحداث مثيرة بدأت فى تلك الليلة التى سبقت الحرب، حيث اجتمعنا -نحن ضباط السرية- فى خيمة معزولة فى منطقة الانتشار فى الصحراء.. وبينما نحن منشغلون بإعداد وتجهيز مجموعاتنا للدفع خلف خطوط العدو، دارت بيننا أحاديث يغلب عليها المزاح، فهذا الملازم فيصل يداعب زملاءه ساخرًا كلما صافح أحدهم بعبارات ساخرة فأصرفه عن ذلك، فيقول لى «مالك بنا أنت سوف تنال النجمة والترقية، وهذا النقيب عبدالهادى يختم حديثه التليفونى مع خطيبته بعبارة «مع السلامة».. ربما لا نرى بعضًا مرة أخرى» فنلومه جميعًا على هذه النهاية المأساوية، فيرد عليا بقوله «لا أدرى كيف قلتها».

والعجيب أن يحدث لكل منا ما توقعناه وما ذكرناه بغير قصد فى هذه الليلة - فيقع فيصل فى الأسر وأنال النجمة العسكرية والترقية الاستثنائية ويفوز عبدالهادى بالشهادة، بعد أحداث عظيمة بدأت يوم السادس من أكتوبر ١٩٧٣ التى بدأناها بمسيرة حوالى ستين كيلومترًا لنصل بعدها إلى منطقة العمل ونواجه مواقف صعبة، نقوم بعدها بإرسال أول بلاغ عن لواء مدرع إسرائيلى فتقوم طائراتنا بتدمير معظم دباباته وتمنعه من التحرك فى اتجاه الجبهة فى ذلك اليوم السابع من أكتوبر فيستعيد كفاءته ويحاول التحرك فى اليوم التالي.. ونفاجأ ونحن نراقبه باندفاع دبابته لنزول الحفر واصطدامها ببعهضا البعض وانفجار عدد منها.. ونكتشف أن هذا الرعب الذى تملكهم كان بسبب مرور طائرتين إسرائيليتين فوقهم وليست مصريتين. وتستمر المجموعة فى مراقبة العدو لمدة تزيد على عشرين يوما حتى وقف إطلاق النار ٢٦ أكتوبر، ونحن نستهلك، ما معنا من طعام وماء بمعدل قاس جدا، حيث لا يزيد نصيب الفرد عن ثلث لتر ماء ومائتى جرام طعام يوميا حتى ينفد ما معنا من طعام وماء (إلا لتر واحد) فتأمرنا القيادة بالتحرك إلى بئر على مسافة سبعين كيلومترًا تقطعها المجموعة فى ثلاث ليال وسط العديد من المواقف الصعبة والمؤلمة من جوع وعطش، والتحسب من العدو. وبعد الوصول للبئر نفاجأ باستحالة استخراج الماء منها.

ونحاول إقناع القيادة بسرعة إمدادنا بالماء والطعام، فتطلب منا القيادة البحث عن إحدى المجموعات التى ضلت طريقها ولا تعرف أين هي، ونقوم بالبحث عنها فى ظروف بين الحياة والموت لمدة يومين حتى وصل بنا الحال إلى اتخاذ قرار بتفجير ما معنا من قنابل فى أنفسنا وفى العدو حالة تعرضنا للأسر، ولكن الله يقدر لنا العثور على المجموعة التائهة ويتغير بنا الحال، حيث نجد لدى المجموعة قدرا من الماء والطعام، ولأول مرة نستمع إلى جهاز (راديو) كان مع المجموعة الأخرى ونعرف منه أن العدو تمكن من العبور غرب القناة وحصار مدينة السويس، فيتغير بنا الحال.

ما أن فرغنا من تناول الطعام حتى قدم لنا الشيخ/ سليم أكواب الشاى الذى كان يعده على النار التى أمامنا، وبدأت أشعر أن حواسى كلها عادت إلى الحياة، إننى أسمع صوتًا جميلًا من ذلك المذياع الصغير الموجود مع الضابط/ محمد.. إنه صوت المطربة “وردة” وهذه الكلمات الدافئة
(وأنا على الربابة بأغنى.. يا بلادى.. يا بلادى يا أحلى البلاد يا بلادى) ما أجمل هذه المعانى.. ولكن أين أغانى الحرب التى تشعل الحماس.. هل تغيرت المعانى أم تغيرت الألفاظ.. ما أجمل كلمة بلادى.. وهل تغيرت أدوات الحرب أم تغيرت أدوات العزف.. لقد عدنا إلى الربابة.. لم يعد هناك الطبول الصاخبة إن كلمة بلادى وحدها تكفى أن تنطق بلا عزف وبلا طبول.. حقًا إننا نعزف سيمفونية حرب مشروعة لإستعادة الحق.. والحق يعلو ولا يعلا عليه.

وهذا الرجل البدوى الشيخ/ سليم ذو الساق الواحدة أو الساق ونصف التى يقفز بها من مكان لآخر مثل (الكنغ) بمنتهى النشاط والحيوية ولا يكاد يخفى فرحته وترحابه بنا، حتى أنه عندما استقبلنا بالعناق والقبلات أخد يقبلنى على وجهى من الجهتين أكثر من خمسة أوستة مرات.حتى سقطت على الأرض من شدة التعب. وما أن دار الحديث بيننا، حتى عرفت قصة حياته كلها قبل أن انتهى من كوب الشاى الثالث، فهو من قبيلة الإحيوات من أكبر قبائل سيناء وأكثرهم وطنية وإخلاصًا لمصر وحبا لجيشها وتعاونا معه ولكنه فقير ليس له مورد رزق إلا قطعة أرض صغيرة يزرعها هو وأخوه مرة كل عام على ماء المطر، بالإضافة إلى عدد قليل من الأغنام التى يقومون بتربيتها على الرعى فى الصحراء، أما ساقه فقد عضها جمل وهو طفل صغير فأصابها شلل ومنذ ذلك الحين وهو يعرف باسم (سليم الأعرج).

أما مجموعة محمد التى جاءت إلى هذه المنطقة ولم تكن تعرف أين هى فقد قص على قائدها كيف أن الهليكوبتر بعد إبرار مجموعتى فى مكانها تعرضت لنيران أرضية وهى فى الطريق إلى المكان المحدد لإبراره.. وأن الطيار تخلص منها بأعجوبة وكان يريد أن يعود بالمجموعة مرة أخرى إلى مطار ألماظة، ولكن أبى الضابط/ محمد أبى إلا أن يصل إلى مكانه وينفذ مهمته، فما كان من الطيار إلا أن عاد مرة أخرى وأبره على عجل فى منطقة يفترض أنها المكان المحدد لإبرار المجموعة، لتتحرك منها إلى منطقة عملها وقد قام هو بالتحرك فى اتجاه منطقة العمل بعد إبراره مباشرة، معتقدًا أنه فى المكان الصحيح، ولكنه فى الصباح عندما حاول تحديد مكانه على الخريطة اكتشف أنه خارج نطاق الخريطة فى المنطقة التى وصلوا إليها، وعند إبلاغ القيادة بذلك فى الصباح كان قرار القيادة فى منتهى الحكمة فأمرته بالاختفاء فى مكانه طوال نهار ذلك اليوم ومراقبة أى أنشطة للعدو والإبلاغ عنها، لعل ذلك يقربهم من موقع مكانه، ولكن المنطقة كانت خالية تماما من أى مظاهر للحياة فأخذ المقدم/ صلاح يوجهه بالتحرك طوال الليل فى اتجاه الشمال وأن يقوم فى الصباح بوصف الهيئات الأرضية والمعالم الطبوغرافية الموجودة حوله.

ثم فى الليلة التى تليها يكرر نفس الشىء حتى استطاع المقدم/ صلاح بما لديه من خبرة سابقة ومعرفة كاملة لأرض سيناء أن يحدد بالتقريب المنطقة التى وصل إليها وأمره بالبقاء فيها.. واستغل احتياج مجموعتى للطعام والماء بعد نفاذهما ووجهنى إلى المنطقة التى توقع وجود مجموعة محمد فيها وفهمت وقتها فقط لماذا كان تحريكى كل هذه المسافة (٧٠ كم) للحصول على الماء ونحن فى هذه الظروف الجسمانية الصعبة. بدلًا من اختيار بئر أخرى قريبة من مكاننا، وفى النهاية استطاع أن يجمعنا بالشكل الذى تلاقت به سفينتا الفضاء من قبل أما عن البطيخ فقد وصف لى الضابط/ محمد كيف وجدوا أنفسمهم فى حقل البطيخ وهم يتحركون ليلا بعد عشرة أيام
من التحرك بلا هدى ونفاذ الطعام والماء الذى معهم.. فأحسوا أنها هدية السماء لهم فاستقروا فيه حتى التقوا الشيخ/ سليم فى صباح اليوم التالى فاصطحبهم إلى الجبل لإخفائهم عن عيون العدو وأخذ يمدهم بالطعام والماء.. وهمس إلى محمد راجيًا إلا أبلغ القيادة شيئًا عن البطيخ وأن أكتفى فقط بذكر ذلك البدوى، حيث إنه لم يبلغهم إلا عنه أى الرجل البدوو وبالأمس فقط – كى لا يتم تكليفهم بمهمة إضافية وهم على هذه الحالة من التعب والإعياء كان همى الأكبر هو التعرف على الحرب الدائرة وما هو موقف قواتنا وموقف العدو فأمسكت بجهاز الراديو الموجود معهم وأخذت أقلب محطاته. فكانت الأخبار غير سارة وعلمت أن العدو نجح فى عبور القناة غربًا
وتمكن من حصار مدينة السويس وقلل من الصدمة على نفسى أن جميع قواتنا التى عبرت القناة إلى الشرق مازالت متمسكة بمواقعها فى سيناء وأن العدو استمر فى خرق قرار وقف إطلاق النار الذى صدر يوم ٢١ / أكتوبر ولم يمتثل له إلا يوم ٢٦ أكتوبر بعد أن منى بخسائر فادحة
عندما حاول اقتحام مدينة السويس وتعرض لمقاومة شديدة أجبرته على الخروج منها والابتعاد عنها والاكتفاء بحصارها من مسافة أبعد.

أحسست بعظم المسئولية الملقاة على عاتقى، بعد سماع هذه الأخبار، فالمحور الذى نحن بجواره الآن هو المحور الرئيسى الذى تتحرك عليه قوات العدو لتصل إلى قوات الجيش الثالث الذى تمكن العدو من حصاره غرب القناة. وأى نقص فى المعلومات عن العدو المتحرك
على هذا المحور سيعرض الجيش لمواقف صعبة فأخذت أناقش الشيخ/ سليم وأستوضح منه بعض البيانات عن قدرته على إمدادنا بالطعام والماء (خاصة وقد أصبح عددنا ستة أفراد) ولأية مدة، وأى الأماكن الأكثر أمانا له للوصول إلينا وفعلًا وقع اختيارنا بصفة مبدئية على جبل آخر فى مدخل المضيق أكثر أمانًا وأفضل فى تحقيق المراقبة المستمرة لتحركات العدو على جيمع المحاور والطرق المؤدية إلى المضيق.

كنا قد أرسلنا إشارة لاسلكية خلال الليل إلى القيادة أبلغناها أن مجموعتى تم لقاؤها مع مجموعة/ محمد وأننا لدينا كمية من الطعام والماء أحضرها الشيخ/ سليم وطبعًا لم نذكر أى معلومات عن البطيخ كما طلب الضابط/ محمد.

وفى الصباح طلبت المقدم/ صلاح على الجهاز وأخبرته بتحسن موقفنا من الناحية المعيشية وأنى جاهز لتنفيذ أى مهام إضافية فورًا وبلا حدود (عندها سمعت عادل يهمس إلى الجندى وهو ينظر تجاهى – قائلًا ألم أقل لك إننا سلالة فراعنة)؟

هنأنا المقدم/ صلاح بسلامة موقفنا بعد التقاء المجموعة الأخرى – وأمر بانضمام المجموعتين معًا والعمل كمجموعة واحدة تحت قيادتى والتركيز على محاور التقدم فى المنطقة وتنظيم العمل لمدة قد تطول.

كان قرارى الذى اتخذته أنا والضابط/ محمد هو استمرار المراقبة من مكاننا طول اليوم على أن نتنقل بعد حلول الظلام إلى المكان الجديد فى الجبل المجاور لنا والواقع فى مدخل المضيق ونقوم بتنظيم العمل هناك وحددنا نظام الخدمة وكيفية تحقيق الاتصال وكذا باقى الأعمال، ثم طلب منى محمد أن أخلد إلى النوم أنا وكل من عادل والجندى طوال النهار بعد هذا الجهد المضنى وأن يقوم هو وحلمى وعبدالسلام بمراقبة العدو خلال تلك الفترة التى سنتحرك بعدها إلى المكان الجديد الذى سيحتاج منا جميعا جهدًا كبيرًا لإعداده وإخفائه بالشكل الذى يمكننا من تنفيذ المهمة بطريقة صحيحة.

ترقينا إلى الرتبة التالية

استغرقنا فى نوم عميق لم ندر كم من الوقت مر علينا حتى شعرت بيد تهزنى بقوة انهض. فانهض قاعدا وأنا أقبض على سلاحى فى وضع الاستعداد فإذا بمحمد واقفًا أمامى مهللًا والفرحة تملأ وجهه.

فأحدق فى وجهه مندهشًا.

ماذا حدث؟

ترقينا إلى الرتبة التالية

من أين عرفت؟

هذه هى الإشارة اللاسلكية التى استقبلناها منذ دقائق

ماذا تقول؟

بناء على أوامر القائد الأعلى ترقيتم إلى الرتبة التالية – الجنود والصف اعتبارًا من اليوم والضباط اعتبارًا من يوم عودتهم.

ما معنى هذا؟

أعتقد أن تأجيل ترقية الضباط إلى يوم العودة تم صياغتها خصيصًا من أجلك، فأنت سوف تترقى إلى رتبة النقيب بعد شهرين اعتبارًا من أول يناير ١٩٧٤ والترقية اليوم لن تفيدك، أما إذا تأجلت الترقية حتى العودة فستنال رتبتين فى وقت واحد.

الحمد لله على كل حال.. المهم أن نعود وقد حققنا نصرًا يعيد لنا كامل أرضنا.

استيقظ عادل والجندى وفرحنا جميعًا ونحن نحزم أمتعتنا استعدادًا للتحرك إلى المكان الجديد
وما أن حل الظلام حتى حضر إلينا الشيخ/ سليم الذى كان قد غادرنا من قبل شروق الشمس
حتى لا يكتشف أحد من البدو أمره وتحركنا معا إلى المكان الجديد إنه جبل لا تزيد
مساحته عن ١ كم٢ والأرض من حوله صالحة للتحرك من جميع الاتجاهات ولكنه يمتاز بكثرة خيرانه أى الفتحات الصالحة للاختفاء وأيضًا مراقبة العدو. وعند دخولنا إلى إحدى هذه الخيران وجدنا إحدى عجلات الكاوتش الخاصة بالعربات موجودة على أحد الأجناب وهى بحالة جيدة وصالحة للاستخدام فى أى وقت فتحسبت من دخول الخور (الوادى الصغير)، إلا أن الشيخ سليم أخبرنى أن العدو دائما ما يضع فى مثل هذه الأماكن القريبة من معسكراته ما يشعر من يقترب منها أن هذا المكان مطروق وأنهم سوف يحضرون إليه فى وقت قريب، وهكذا يوجد فى مدخل الخور المجاور مجموعة من الصناديق الخشبية الفارغة مرصوصة على شكل غرفة لتوحى أن بها أحدًا منهم وهكذا يضمنون ابتعاد أى غريب عن هذه الأماكن.

أكملنا التحرك إلى داخل الجبل وتركنا فردة الكاوتش خلفنا بمسافة حوالى خمسمائة متر وبالشكل الذى لا يمكن من يقف عندها من رؤيتنا داخل الخور/ الجبل.

وحددنا على الأرض مكانا للنوم والراحة، ومكانا لنقطة المراقبة وقمنا بتجهيزها طوال الليل بعد أن انصرف الشيخ/ سليم وتركنا ومعنا بعض الطعام والماء على وعد أن يحضر إلينا بعد أسبوع ومعه كمية أخرى من الطعام والماء.

و إلى اللقاء فى الحلقة القادمة

 

    Dr.Radwa
    Egypt Air