بانقضاء عام 2018 يكون قد مضى 221 يوما على تكليف رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري بتشكيل حكومته الثالثة، غير أن توالد العقبات والعراقيل المفاجئة، أصبح السمة الملازمة لعملية التأليف الحكومي منذ أن تم إطلاقها، على الرغم من التصريحات العلنية لجميع القوى السياسية اللبنانية – على اختلافها والتباينات السياسية فيما بينها - بأن الأوضاع الاقتصادية الضاغطة والاستحقاقات الدولية، تقتضي وجود حكومة تنقذ البلاد وتنتشلها مما يعصف بها أزمات.
وشهد مسار التأليف الحكومي على مدى الأشهر السبعة الماضية، تعثرا وجمودا لا يتفق مع أزمات عديدة يمر بها لبنان، فأزمة النازحين السوريين داخل الأراضي اللبنانية، والذين تتراوح أعدادهم ما بين 5ر1 إلى مليوني نازح على نحو جعل لبنان الدولة الأكبر في العالم استضافة للاجئين مقارنة بعدد سكانه الذي يبلغ قرابة 5 ملايين نسمة، فرضت أعباء كبيرة على البنى التحتية والاقتصاد والوضعين الاجتماعي والأمني للبلاد.
كما يمر الاقتصاد اللبناني بتباطؤ شديد، فضلا عن أن خزانة الدولة العامة تمر بأزمة مالية شديدة الوطأة، وهو الأمر الذي انعكس على إغلاق المئات من المؤسسات الاستثمارية والشركات وارتفاع نسب البطالة بين الشباب لنحو 35 %، بما استدعى رفع مستوى الفوائد في البنوك لضمان التمويل المستدام لاحتياجات الدولة، بالإضافة إلى أزمة نقص الكهرباء، وتبعات الحرب في سوريا.
وتأتي الأزمة الأخيرة التي تحول دون إنجاز الحكومة، والمتمثلة في الشرط الذي وضعه حزب الله قبل نحو شهرين للإفراج عن الحكومة، بضرورة التمثيل الوزاري للنواب الستة السُنّة من قوى الثامن من آذار، والذين أطلقوا على أنفسهم (كتلة اللقاء التشاوري) لتوقف مسار التأليف الحكومي، في وقت يبذل فيه رجل الأمن القوي اللواء عباس إبراهيم المدير العام للأمن العام في البلاد، مساعيه لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين في محاولة لتجاوز هذه العقبة.
وعلى الرغم من أنه تم الاتفاق على أن يكون هناك وزير سُنّي يمثل كتلة اللقاء التشاوري من خارج تكتلهم، على أن يتم اقتطاعه من الحصة الوزارية للرئيس ميشال عون، إلا أن إشكالية التموضع السياسي لهذا الوزير (جهة تصويت الوزير داخل الحكومة حينما يتطلب الأمر) لا تزال محل خلاف سياسي شديد، حيث يصر رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل على أن يكون هذا الوزير ضمن الحصة الوزارية المشتركة للتيار ورئيس الجمهورية (الزعيم التاريخي للتيار) في حين يصر نواب اللقاء التشاوري على أن يمثلهم الوزير بصورة حصرية دون أي قوى أو تيار سياسي آخر في الحكومة.
وتطور الخلاف السياسي حول تموضع الوزير السُنّي داخل الحكومة المرتقبة، بعدما تدخل حزب الله مجددا، معلنا مساندة موقف نواب كتلة اللقاء التشاوري في أن يكون الوزير الذي يختارونه ممثل حصري لهم، ليشهد الفضاء الألكتروني صداما بين الحليفين (التيار الوطني الحر وحزب الله) انعكس في التلاسن عبر مواقع التواصل الاجتماعي بين جمهور الفريقين، قبل أن يتم إعلان تهدئة قبل بضعة أيام والتأكيد على أن التفاهم الاستراتيجي بين التيار والحزب، راسخ ويعلو على أي اختلاف في الرؤي بينهما.
وفي الوقت الذي يعتصم فيه رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري بالصمت منذ نحو 10 أيام تقريبا - عقب الانتكاسة الأخيرة التي مُنيت بها جهوده لتجاوز عقبات التأليف الحكومي - تعبيرا عن إحباط أو غضب مكتوم جراء ظهور عقبات جديدة كلما بدا وأن الحكومة قاب قوسين أو أدنى من الولادة، إلا أنه لم يخف في تصريحات مقتضبة بمناسبة حلول العام الجديد، قدرا من التفاؤل الحذر، آملا أن ترى الحكومة النور خلال أيام قليلة.
وكُلف الحريري في 24 مايو الماضي بتشكيل الحكومة، وعقب مضي بضعة أسابيع من التكليف، كان يبدي تفهما لصراع القوى السياسية المختلفة في الحصول على مكاسب وحصص وزارية وحقائب نوعية بالحكومة الجديدة، باعتبار أنها حكومة تأتي عقب إجراء أول انتخابات نيابية منذ قرابة 10 سنوات، وشهدت تحقيق بعض الفرقاء السياسيين لنجاحات برلمانية ومن ثم يريدون أن تنعكس هذه النتائج على حجمهم الوزاري، مشيرا إلى أن التدهور السريع الذي يشهده لبنان يتطلب من الجميع التضحية بقدر ما، حرصا على ديمومة الدولة ومصالح المواطنين.
غير أن المسار الطويل للمشاورات والمفاوضات التي كان يجريها الحريري، وما صحبه من تطلعات للانتهاء من تشكيل حكومة وحدة وطنية في غضون شهر من التكليف، ثم قبل مجيىء الأعياد والاحتفالات والاستحقاقات الدولية المتتالية، جعل حكومته المرتقبة تحقق – حتى الآن – ثاني أكبر رقم من الوقت الذي انقضى في مشاورات التأليف، بعد الحكومة التي شكلها رئيس الوزراء السابق تمام سلام، والتي استغرق تأليفها 11 شهرا.
وشهد مسار تشكيل الحكومة منذ انطلاقه مجموعة من العقبات الرئيسية، تمثلت في "العقدة الدرزية" بإصرار الحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة وليد جنبلاط على حصرية التمثيل للمقاعد الوزارية الثلاثة للطائفة الدرزية، ورفض توزير خصمه السياسي القيادي الدرزي النائب طلال أرسلان المتحالف مع التيار الوطني الحر، قبل أن يتم التوصل لحل توافقي بأن يسمي الرئيس اللبناني ميشال عون وزيرا درزيا من بين لوائح أسماء مقترحة يقدمها جنبلاط وأرسلان.
كما شهدت عملية التأليف عقدة اعتبرت هي الأصعب وهي العقدة المسيحية، نتيجة الصراع الشديد على الحصص ونوعية الحقائب الوزارية بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، ليقبل "الحزب" في الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر الماضي بالحصول على 4 وزارات بدلا من مطلبهم بالحصول على 5 وزارات، ومن دون حقيبة سيادية، شريطة الإبقاء على منصب نائب رئيس الوزراء ضمن حصتهم الوزارية.
وبينما كان يتم وضع اللمسات الأخيرة على تشكيل الحكومة وتوزيع الحقائب في شهر أكتوبر الماضي، والاتفاق بين الرؤساء الثلاثة (رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس الوزراء سعد الحريري، ورئيس مجلس النواب نبيه بري) على موعد إصدار مراسيم الحكومة الجديدة، تدخل حزب الله في اللحظات الأخيرة، معلنا عدم القبول بتأليف حكومي لا يتضمن توزير أحد نواب سُنّة قوى الثامن من آذار من حلفاء الحزب، والذين أطلقوا على أنفسهم كتلة اللقاء التشاوري.
وإزاء الرفض الحاسم للحريري لمحاولة حزب الله الاقتطاع من الحصة الوزارية لتيار المستقبل، بغية توزير حلفائه من سُنّة 8 آذار، وكذلك رفضه تسمية أحدهم وزيرا من أية حصة وزارية أخرى، تدخل الرئيس ميشال عون، وبعد موافقة الحريري، معلنا التخلي عن المقعد السُنّي ضمن حصته الرئاسية لصالح وزير يسميه النواب السُنّة حلفاء الحزب.
ومن جانبه، قال مصدر سياسي رفيع المستوى إن هناك مساعي ورغبة جدية لدى كافة القوى السياسية، وحلول يتم طرحها حاليا لتجاوز الأزمة الحكومية، حتى تكون هناك حكومة تتمتع بالشرعية الكاملة وتمثل لبنان خلال القمة الاقتصادية العربية التي ستعقد في بيروت يومي 19 و 20 يناير الجاري.
وأشار المصدر إلى أن جدية المساعي للانتهاء من التأليف الحكومي، تأتي أيضا في ضوء المخاطر التي تتهدد المساعدات المالية من منح وقروض ميسرة تقررت لصالح لبنان في مؤتمر (سيدر) الذي عقد في العاصمة الفرنسية باريس في شهر أبريل الماضي لدعم الاقتصاد والبنى التحتية اللبنانية.
وأوضح أن تلك المخاطر تتمثل في أن تقدم بعض الدول على سحب التزاماتها المالية تجاه لبنان وتوجيهها لمصادر أخرى، خاصة وأن تلك المساعدات المالية الدولية، معلقة على شروط محددة تتمثل في إجراء لبنان لإصلاحات هيكلية في الاقتصاد.
ومن جهته، اعتبر مصدر سياسي من قوى 14 آذار أن جوهر أزمة تعطيل الحكومة، يتمثل في رغبة حزب الله في "الهيمنة على القرار الحكومي اللبناني في ظل المتغيرات الإقليمية، وفرض الحزب لرؤيته على الحكومة الجديدة لصالح أجندته السياسية ولصالح إيران - التي تواجه عقوبات هي الأقسى والأكثر صعوبة – في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية".
وفي المقابل ترى مصادر سياسية أخرى، أن الأمر هو خلاف سياسي داخلي طبيعي مرجعه "الرغبة في تحقيق أكبر قدر من المكاسب داخل الحكومة في الربع ساعة الأخيرة من التأليف الحكومي".. في حين اعتبر مصدر سياسي بارز، أن ما يشهده لبنان في الوقت الراهن، هو صراع على الثلث الضامن (المعطل) داخل الحكومة "لتأمين استحقاقات قادمة حتى وإن بدت بعيدة الأمد نسبيا، وفي المقدمة منها المعركة على رئاسة البلاد بعد 3 سنوات ونصف من الآن".