السبت 22 يونيو 2024

انصهار واندماج المرأة والدين والسياسة

30-3-2017 | 10:55

ترجمة : صبا قاسم - شاعرة سورية

عندما أصبحت حركة الإحياء الوهابي قومية دينية تحت راية الدولة المعاصرة، تطلعت نحو تحويل المجتمع العربي من كيانات مجزأة إقليمياً وثقافياً وقبلياً إلى مجتمع متجانس دينياً، وبالتالي تغيير المعايير التي بموجبها ينتمي الناس إلى المجتمع، هذا ما انطوى على نشر الاستقامة الدينية للطبقة الحضرية من علماء الدين في كل أنحاء المملكة العربية السعودية.

عادت هذه القومية الدينية إلي النصوص والآراء الدينية وفتاوى عصور ما قبل الحداثة من أجل صبغ الأمة الجديدة بالتقوى والاستقامة والالتزام من خلال نصوصهم الدينية، أعاد العلماء تشكيل المملكة العربية السعودية الناشئة حديثاً كأمة ورعة واحدة، تطلعت روايتهم نحو تثبيت الحدود بين الخير والشر، والإيمان والكفر، والمطلعين والغرباء، والورع والملحد، بين المواضيع الأخلاقية و الفاسقة، وأصبحت النساء في هذا المشروع رموزاً أخلاقية. مثل كل أشكال القومية الدينية، سعت الوهابية لاستعادة الأسرة، وليس الفرد المستقل بذاته، باعتباره وحدة جوهرية بتألف منها الاجتماعي، وبالتالي انشغالها المستمر في الحياء العام، وتنقية الحياة العامة، والحد من تهديد محتمل من أضداد ثنائية مختلطة، معظمهم من الرجال والنساء. سعى علماء الوهابية إلى تعميم مفاهيمهم وبناءاتهم للجنس على الأمة، التي بنيت على أنها تجريد ورع أخلاقي، وأصبحت النساء موضوعاً عرقياً دينياً وليس قوة اجتماعية، وهناك حاجة إلي أن يكن في خدمة دولة دينية ذكورية. ومع ذلك، لم تكن تعتبر المرأة الخاضعة التقية مواطناً فرداً، بل ركناً مهماً من العائلة تحت سلطة أبوية من أعضائها الذكور.

تحولت الحركة الوهابية إلي ثقافة دينية شاملة وعدت بتوحيد ليس فقط المظاهر والممارسات والشعوب المجزأة ، بل أيضاً المؤسسات والتشريعات القانونية. كانت النساء في هذا المشروع مركزية فقد ميز حجبهم المبكر في الحياة العامة المملكة الناشئة حديثاً ليس فقط عن السياسات السابقة وإنما عن الدول العربية الأخرى، التي بدأت بتعريف نفسها من خلال الاستفادة من قومية علمانية في بداية القرن العشرين. عرفت القومية الدينية الوهابية الأمة الدينية الناشئة حديثاً على خلاف الأمم العربية والعالم، وبالتالي ولادة ما يسمي ـ والمحتفى به كثيرا ـ الخصوصية السعودية: الاستثنائية. لم يتم بناء أي بلد آخر في المنطقة العربية أو الترويج له أو رسملته علي الاستثناء لكي يميز اختلافه، في حين تبقي الادعاءات السعودية نزعة صلبة تتجلى في جميع مستويات الخطاب العام لإنتاج نظام سياسي متجانس يتخيل أنه فضاء مقدس/ ثقافي ديني شائع فريد، كانت النساء حجر الزاوية لتمييز الأمة عن الأمم الأخرى في محيطها. إن السيطرة على تدين النساء وظهورهن وحركتهن وتعليمهن وعملهن ونشاطهن الاقتصادي وممتلكاتهن والجوانب الاجتماعية من حياتهن- مثل الزواج- هي الولاءات الأعز للقومية الدينية السعودية وكهنوتها وللدولة .

بعد توحيد الدولة، تم الدفاع والحفاظ على التشريعات التي تبقي النساء في المكان الذي تم إقراره لهن في مجال الأسرة الخاصة. وهكذا حرمت النساء من الشخصية الاعتبارية الفردية، وتم وضعهن تحت سلطة أولياء أمورهن الذكور والدولة، فكل منهم يعزز النظام الأبوي للآخر وأصبحت النساء مهمات ليس فقط للإنتاج المادي لأمة تقية حديثة بل باعتبارها أيضاً مستودعاً لفضيلتها وأخلاقها ولنقائها الديني، وتطلب هذا أنه ينبغي بعد ذلك أن تتم السيطرة عليهن خشبة أن يقوضن الأخلاق والتقوى الوطنية أيضاً، ينبغي أن ينظم زواجهن وفقاً لسياسة صارمة لزواج الأقارب الوطني، ووفقا لذلك أصبح زواج النساء من الغرباء، حتى من العرب المسلمين، مثيراً للجدل ويحتاج إلى إذن خاص من السلطة الأعلى في الدولة، وزارة الداخلية.

لم يكن رجال القومية الدينية السعودية منشغلين فقط باحتشام النساء العام وأخلاقهن بل بطهارتهن الخاصة أيضاً وأداء الطقوس والامتثال الديني لوعظ وتعاليم مفروضة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وأصبحت مراقبة الحياة العامة الشوارع ومراكز التسوق والمطاعم والفنادق والمدارس والجامعات وأماكن العمل والمؤتمرات ومعارض الكتب ومواقف السيارات والمهرجانات سيئة السمعة وقد ضمن التعليم الديني في المدارس والمنتديات الإعلامية أنه حتى الحياة الخاصة للنساء (أداء الطقوس والطهارة والتلوث) يبلغ المطابقة في الحدود الحميمة للبيت والأسرة، أرسلت هذه المراقبة في الحياة العامة والخاصة إشارة مهمة للسكان ، أنه لم يكن يوجد أي فضاء أو مساحة لا يمكن اختراقها من قبل الدولة ولجان الأمن الدينية. كل شيء كان تحت أنظار الدولة ورجالها وكانت الأسرة نفسها مخترفة - أولاً عن طريق الوعظ في الحياة العامة. على سبيل المثال المسجد والمدرسة، وفيما بعد في وسائل الإعلام مع التلفزيون أصبحت أداة التأثير الرئيسية في مجال الأسرة الخاص.

لذا كان الخوف من الوجود تحت المراقبة والرصد نتيجة طبيعية، ورادعا ضد الغدر والخيانة، والمقاومة والعدوان وأدى الاندماج بين الدين والسياسة إلى رصد العلاقة الحميمة بين الرجال والنساء ليس فقط في الحياة العامة وإنما في سياق خصوصية العائلة والحياة الزوجية أيضاً، وسعت أجهزة مراقبة الدولة إلى الفصل بين الرجال والنساء في الحياة العامة، وبالتالي الحفاظ على الحدود بين الجنسين واضحة المعالم ومسيطراً عليها، وفضلوا ألا يكون لديهم نساء يذهبن خارج منازلهن الخاصة لأن مثل هذه المغامرات تعتبر تهديداً للعائلة والأمة، وأصبح التقييد على النساء مهماً لأجل السيطرة على خيارات الزواج .إنها تخرب الاحتمالات التي تهدد ليس فقط نقاء الأسرة وزواج الأقارب القبلي بل زواج الأقارب القومي، خصوصاً بعد أن أصبحت الأمة مضيفة لمجتمع ضخم من المغتريين نتيجة لعائدات النفط الضخمة التي تعتبر استحقاق أولئك الذين ينتمون إلى الأمة.إن عمل النساء خارج المنزل هدد ليس فقط إعادة إنتاج جيل المستقبل المتدين وإنما عرضهم أيضاً لمجموعة كبيرة من مرشحي زواج محتملين خصوصاً في الأماكن التي تعتبر الآن أقل فصلاً بين الجنسين، على سبيل المثال الحياة العامة في مراكز التسوق المتنامية والحدائق ومرافق التسلية والترفيه، يعتبر هاجس الاستحواذ على النساء باعتبار من مواضيع دينية وأخلاقية انعكاسا للحاجة المتزايدة لأن ترمز إلى تفرد الأمة الورعة والحظر من الفساد من خلال عناصر غير أصلية .

على الرغم من أن الدولة الناشئة حديثاً رفضت أي حضور أو دور للنساء في الحياة العامة، إلا أنها ظلت جنسائية، بمعنى، دولة تستمد شرعيتها من إقصاء النساء وإدامة السيطرة عليهن، وكان يعتقد أنهن يهددن سلامتها وأخلاقها، ونشرت روايتها الوطنية صوراً متناقضة للنساء وشيدت أدواراً مقبولة ومرفوضة للجنسين على حد سواء. في الواقع اعتمد تأسيس الدولة على إدامة النظام الاجتماعي الذي كان يُحتفى فيه بالنساء الورعات بينما كانت المتحدية عرضة للعقاب والسيطرة والتطهير.

فرضت القومية الدينية كيف يجب أن تعامل النساء؟ وكيف يسيطر عليهن؟ وكيف يتم الحديث عنهن في الحياة العامة؟ وأصبحت المعايير والقواعد والأنظمة التي ظهرت من مخيلة الرجال في واحات نجد آليات للسيطرة على جميع نساء الجزيرة العربية، وهي فئة غير متجانسة شملت نساء القبائل من النخبة ونساء العبيد والتجار والباعة المتجولين والمعالجين والفلاحين والرعاة. كانت الأمة الدينية معتمدة على إغراق جميع فئات النساء في كتلة غير متمايزة، بمساعدة فرض شريعة اللباس الواحد وإطار العمل الشرعي، والتعليم الديني.

احتاجت القومية الدينية لمؤسسات الدولة كي تحقق تطلعاتها إلى خلق مجتمع تقي وأخلاقي متجانس تعرف فيه النساء الحدود. كانت لجنة عام 1928 التي عززت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحجاز أول مؤسسة طمحت لتحقيق هذا الهدف، علاوة على ذلك كان لشبكة العلماء الدين الذين أوفدوا إلىكل المناطق والواحات والصحارى دور فعال في  تأسيس شبكات ربطت النخبة الدينية النجدية مع المجتمعات الشعبية وسهلوا اندماج المحيط الخارجي مع المركز الذي مقره في الرياض، وأزالوا أيضاً السلطات الدينية عن احتكارهم التاريخي القديم للمجتمعات  المحلية. تطلعت الشبكات الدينية الوهابية لجعل الشظايا الثقافية والإقليمية أمة دينية واحدة، ملتزمة بالعقيدة الدينية والتفسير والممارسات، كان هذا الطموح قبل ظهور النفط، وعلى هذا النحو فإنه لا يزال يمثل مشروعاً مستقبلياً.

للنصف الثاني من القرن العشرين، بقيت الأمة الدينية فكرة مجردة، كان النجاح الكامل للمشروع معتمدا على الموارد، وبشكل رئيسي الفائض الذي سيتم استثماره في إنشاء المؤسسات والبنية التحتية التي ربطت الشظايا وجانستها. كان على الدولة أن تنتظر ثروة النفط في النصف الثاني من القرن العشرين لكي تربط شظايا السكان بشكل فعال من خلال المؤسسات التعليمية. إن مواردها التعليمية ومؤسساتها الدينية وإمبراطورية الإعلام (الجرائد والراديو و التلفزيون) والبنية التحتية من الطرق والمطارات، وفي وقت لاحق كاميرات المراقبة وأدوات الاتصال كانت آليات جسد استخدامها وتطبيقها الرؤية القومية الدينية التي كانت فيها النساء مركزية.

أصبحت العلاقة بين الجنسين ووضع النساء في المملكة العربية السعودية رهائن للمشروع السياسي للدولة وقوميتها الدينية، بينما كانت الأولى بطبيعتها مشروعاً متطوراً غير متوقع، كانت الثانية رؤية غير محدودة واعتمدت على الذات الإلهية، وطمحت لخلق مملكة الله على الأرض، كانت فيها النساء العلامات الأكثر وضوحا، واستمر التوتر بين سياسات الدولة المتغيرة والقومية الدينية العالمية ليؤرق النساء السعوديات في العقود التي تلت تأسيس الدولة الحديثة، واخترعت القومية الدينية الوهابية "أيديولوجية النظام" في محاولة لربط دولة الأمة والدين، وتم دمج النساء كرموز  أساسية في انصهار الدين والأمة معا.

من كتاب «الدولة الأكثر ذكورية:المرأة بين السياسة والدين في السعودية». تأليف مضاوى الرشيد.

    الاكثر قراءة