الخميس 20 يونيو 2024

المرأة العربية ومسيرة الخيبات

30-3-2017 | 11:14

هوازن خداج - كاتبة وتشكيلية سورية

اللوحات المصاحبة للنص للكاتبة والرسامة هوازن خداج

  تطورت الحياة عبر العديد من الأفكار التي أدّت لتغيير المفاهيم السائدة، وتوجيه العقل البشري ونمو الفكر والتصورات خارج الإطار الديني والموروث والتماشي مع واقع الحياة الإنسانية. لكن هذا لم يلغ العديد من القضايا الشائكة ومنها قضية المرأة والتي أضحت قضية دولية ذات أولوية على أجندة قضايا حقوق الإنسان ومداخل التغيير الاجتماعي والتنمية المستدامة وخاصة في العالمين الإسلامي والعربي، حيث اتسمت القوانين بذكورية بحتة لا تتماشى مع ما اكتسبته المرأة خلال مسيرتها الطويلة والمتعثرة في صراعها التحرري.

   دراسات وأبحاث متعددة تناولت وضع المرأة وحقوقها ودورها كجزء مندمج وأساسي في المجتمع، وسلّطت الضوء على عمق المشكلات التي تعانيها النساء في البلدان العربية وتمدّ جذورها داخل بنية المجتمع المشرقي بدءا من الأسرة والتركيز على ثانوية دور المرأة وتبعيتها، انتقالا نحو السلطة الدينية وتفضيلها للرجل، انتهاء بالسلطة السياسية وما تكرّسه من حالات القهر والتهميش السياسي والاقتصادي والحقوقي للشعب بكافة فئاته والذي يلقي بثقله على عاتق المرأة في اضطهاد مزدوج؛ إذ تشترك مع الرجل في ظروف الاستبداد السياسي والبؤس الاقتصادي في بلدان تعاني ارتفاع معدلات الفقر والبطالة فيها، وانخفاض سقف الحريات وحقوق الإنسان بفضل فنون الاستبداد وأشكاله المتنوعة، وتنفرد المرأة بشكل خاص بالقهر الاجتماعي تحت سطوة متواليات من قيم ثقافية سائدة تستمد مصادرها المختلفة من الموروث الديني والتقاليد والأعراف والقوانين وتصنع ذرائعها لتقييد النساء وإخضاعهن لسلطة ذكورية متخلفة تحولها لكائن من الدرجة الثانية، وهذه بجملتها تحتاج لثورات مجتمعية شاملة على موروث "قروسطي" تساهم في خلق حيز آخر من تشاركية البناء بين الرجل والمرأة كمكونين فاعلين في بناء المجتمعات.

   صعوبة تغيير أوضاع النساء في الدول العربية لم تثنيهن عن خوض غمار ثورات الربيع العربي حيث انتفض المهمّشون للدفاع عن حقوقهم السياسية والاقتصادية والحقوقية والتي برز فيها دور المرأة بشكل كبير فكانت في الصفوف الأولى في نداءات "الحرية" لتأكيد وجودها ولتظهر أن دورها لا يقتصر على الطهي والتنظيف، وإنها قادرة على مواجهة ما تلقاه من تهميش داخل الإطار المجتمعي الذي يحوّلها لكائن غيّبت عنه أبسط حقوقه الإنسانية في اختيار الزوج وحقها بالعمل والميراث والمساواة في الحقوق والواجبات مع الرجل، هذه المشاركة والاندفاع من قبل النساء وخصوصا "المنقّبات" ومشاركتهن في الثورات لا سيما في التجربة اليمنية، رغم ما يعنيه النقاب من رمز ديني ومجتمعي، تم اعتبارها إشارة واعدة بأن المرأة أصبحت حلقة مهمة في إحداث التغيير وستكون شريكا فعليا للرجل في "البناء القادم" الذي يفترض انبثاقه عن هذه الثورات. لكن سرعان ما حلّت خيبات ثورات الربيع العربي بتجاربها المختلفة وعدم قدرتها على تغيير الواقع المعيش وتثبيت ركائز جديدة لبناء مغاير يلغي حالة التهميش ويردّ الاعتبار للشعوب، وما تم تثبيته من واقع جديد أمسكت دفّته حركات الإسلام السياسي أرخى بثقله على كاهل النساء ووصل حدّ الضرر في أكثر من مكان فهو لم يقتصر على تراجع التمثيل السياسي للنساء وانخفاض الحضور النسائي داخل المجالس النيابية والحكومات عن السنوات السابقة، كما في تونس ومصر، أو ارتفاع معدلات العنف الذكوري والسلطوي تجاه المرأة وزيادة التحرش الجنسي بالنساء، إنما تحول في البلدان الأخرى التي خرجت عن منطق ثورات التغيير "ليبيا، اليمن، وسوريا" بلاء على النساء.

    دول عدة في العالم العربي تنهشها الحروب وتتقدم فيها الممارسات الوحشية واللاإنسانية فارضة إيقاعها الطاحن، فيسود الفقر والفوضى وسلب الكرامات، ويزداد عدد الإصابات في صفوف المدنيين، إذ يتعرضون للقتل والتعذيب أو اللجوء والنزوح وتعتبر النساء والأطفال الأكثر تضررا في حالات النزوح والالتجاء إلى المخيمات، فيتوجب على المرأة تغيير دورها الاقتصادي والاجتماعي في البيت والمجتمع مع ازدياد حالات الترمل والتشرد وتحمل وطأة فقدان الممتلكات والسكن والإرهاق النفسي والجسدي والظروف المعيشية القاسية، وكثيرا ما يجري استهداف النساء والفتيات بالعنف الجنسي، الاغتصاب والدعارة القسرية وزواج القصّر طلبا للسترة وغيرها من الانتهاكات التي تمارس بأكثر من شكل على كل من تتحكم بمصائرهم الأوضاع والظروف المعيشية الصعبة التي تشلّ قدرتهم على رفض ما يقترف بحقهم تحت عنوان البقاء ولقمة العيش المغمسة بالذل ونكران حقوقهم البشرية.

   هذه الانتهاكات غير الإنسانية يمكن تعميمها على كافة الدول التي تتعرض للحروب بلغت حدودها القصوى في الدول العربية التي اختلطت في حروبها حبائل الجهاد الإسلامي "المقدس" بالعسكرة، وترافقت بانتشار الميليشيات وتحويل الصراع نحو الطائفية والمذهبية، والتي سجّلت انتهاكات مضافة تحت مسمى "الدين" وأطلقت عناوين أكثر فجاجة أباحت كافة المحرمات، وأسقطت الجميع في فخ التاريخ المنصرم ومعطياته من الاسترقاق والسبي واستعادت عصور العبودية دون تحديد عدد أو مدة، مثلما حدث في "العراق وسوريا" من فتح أسواق النخاسة وبيع النساء وقد بدأت مع النازحات السوريات تحت غطاء المساعدات التي يقدمها طالبو المتعة ومحبو الوطء والمتمولون من كافة الدول العربية الذين يقدمون القروش لشراء النساء وحصرا القاصرات تحت مسمى "زواج السترة"، هذا الزواج الذي فرضته الظروف، بدل استنكاره ومحاولة الحد منه، روّج له الفقهاء بذريعة حماية القاصرات من التشرد والاغتصاب، محولا النساء إلى سلعة بخسة تحت مسمى "زواج" لا يقره أي قانون ويخضع لذمة الزوج وكرمه، وعلت أصوات الاستنكار مع ما تعرضت له النساء "الإيزيديات" في العراق على يد "داعش" التي تسير وفق غطاء ديني لا يمكن نكرانه أو الالتفاف على نصوصه الدينية، فالأديان السماوية الثلاثة لم تلغ مسألة الرق التي كانت سائدة إنما ساهمت في قوننتها وتشريعها بشكل لا يقبل النقض، وتزيد المأساة مع انعدام القدرة على التصدي لمثل هذه المظاهر المهينة للجميع، فما شهدناه مع فتح أسواق النخاسة وأصوات السلاسل وهي تعبر شوارعنا الحديثة على إيقاع العنف المتفشي في زمن القتل الأعمى لم يقابله سوى حالات استنكار باهتة لا تلغي ما تم تأصيله عبر قرون. ويضاف إليها ما جرى إطلاقه مع مسمى "جهاد النكاح" واستخدام المرأة بغرض جنسي كزوجة للمجاهدين بزعم أنها بهذا تؤدي الدور الجهادي المنوط بها كأنثى لا تناسبها ساحات القتال، والاستفادة منهن كمنبر إعلامي لجذب المقاتلين، أو تحويلهن لقاتلات في كتائب نسائية مثل كتيبة "الخنساء" في سوريا اللاتي لا تقل ممارساتهن وحشية عن ممارسات المقاتلين الرجال من التنظيم نفسه في تطبيق العقوبات والحدود والتي وصلت إلى تطبيق حدّ الرجم حتى الموت بحق بنات جنسهن وهو ما حصل في شمال سورية خلال الصيف الماضي (2016)، أو استخدامهن فيما يُعرف بظاهرة "الأرامل السوداء" الانتحاريات، حيث يستغل التنظيم حالة اليأس التي وصلن إليها ورغبتهن في الانتقام لأزواجهن أو ذويهن، لتغذية رغبة الانتقام لديهن وتقبّل فكرة الموت المشحونة بالتأثير الديني ونيل الشهادة والانتقال دون ألم إلى جنة الخلد.

    المتغيرات التي طالت أوضاع النساء جرّاء سموم الموروث الديني، واعتباره المرأة عورة متحركة وفضيحة موقوتة، لا تقتصر فقط على المناطق الخاضعة للقوى المتطرفة والتي فرضت الحجاب والمنع من الحركة دون وجود محرم، إنما تطال كافة النساء في العالمين الإسلامي والعربي، فهذا الموروث يشكل حجّة قوية لقمع النساء وعائقا في وجه تقدم هذه المجتمعات، وإن تراجع أوضاع المرأة الاجتماعية بنسب متفاوتة في الدول العربية لا يمكن ربطها بشكل مباشر بمجرى ثورات الربيع وعجزها عن تحقيق نهضة حقيقية في هذه المجتمعات والدول، رغم ما شكّلته من انتكاسة فعلية للشعوب العربية، إنما بالمجتمعات المشرقية ككل التي مازالت تنظر إلى المرأة على أنها صاحبة الخطيئة الأولى, وناقصة عقل وأنها مصدر للمفاسد, لذلك وجب الحجر عليها وسجنها وتحقيرها وردعها واستعبادها حتى قتلها دفاعا عن الشرف، فهذا الموروث لم يتم وقف تنفيذ عقوباته على النساء، رغم تطور الحياة الدنيوية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ووجود المرأة كشريك فعلي للرجل، إنما بات يتخذ أكثر من غطاء في وسائل الانتهاك لحقوق الإنسان ككل والمرأة بشكل خاص ولا خلاص منه باتباع مظاهر التمدن أو بارتفاع أصوات الإدانة والشجب فهي لا تقدم ولا تؤخر في إيقاف الانتهاكات الممارسة بحق المرأة الإنسان ما لم يتغير ما في العقول من موروث اجتماعي بغيض يلغي عمل العقل ويعزّز دونية المرأة وكأنها كائن مجبول على التبعية والخضوع.