الجمعة 30 اغسطس 2024

الثورات تجمّل الأجساد.. مشاهد وانطباعات تخص المرأة بعد الربيع

30-3-2017 | 11:18

د. منى فياض - كاتبة لبنانية

عن المرأة والثورة

أود أن أعلق بداية على معنى أن نكتب تحت عنوان: "بعد الثورات"!

   لقد بدأت الثورات لكنها لم تنته بعد، لأنها سيرورة ما زالت تتمخض ولن تنتهي قريبا وقد تتراجع وتعرف النكسات ولكنها مستمرة.

  مع ذلك نلاحظ أن الثورات ترافقت مع عدد من الظواهر المستجدة التي لا تزال تتفاعل.

   لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن وضعية النساء كانت قد عرفت تحسنا نسبيا في الحقبة الأخيرة، فمن ناحية ازدادت الشرائح المتعلمة والعاملة في البلدان العربية عموما وفي تلك التي حصلت فيها الثورات وخصوصا تونس، ومن ناحية ثانية لعبت وتلعب وسائط الاتصال الحديثة دورا كبيرا في إعطاء النساء مساحة واسعة من حرية التعبير والقدرة على التواصل في المجتمعات المحافظة خصوصا. لقد وعت النساء أن تحسين وضعهن ليس من باب الشفقة ولا الإحسان؛ إنه حق لهن وواجب على المجتمع لأنهن يشكلن نصفه؛ فكيف يمكن لمجتمع أن يتقدم وينجح إذا كان نصفه معوقا؟

   وهذا الموقف سبق أن عبّر عنه تقرير التنمية الإنسانية منذ 2002 عندما أشار إلى معوقات نمو وتطور المجتمعات العربية وخروجها من أوضاعها المزرية فوجدها ثلاثة: القمع وانتقاص حرية التعبير والقصور المعرفي ووضع المرأة.

   لذا كان من البديهي أن تشارك المرأة في الثورات لأنها مواطنة أولا، ولأنها تعرف أن المجتمع لا يمكن أن يتطور إذا لم تتشارك النساء مع الرجال في إدارة شؤونه. من هنا لا أحبذ الفكرة التي تقول إن الرجال في الثورات يستغلون النساء فيشركوهنّ في الثورة وبعد انتهائها يعيدوهنّ إلى البيت. المرأة ليست قاصرا لكي تُدفع للقيام بأمر ما، إنها تشارك من نفسها ولنفسها وانطلاقا من مسؤوليتها تجاه وطنها. أما العلاقة مع السلطة وموقعها فيها فهي مسألة أخرى تحتاج إلى معالجة خاصة تطالها هي والفئات المهمشة جميعا. وبالنسبة إلى عودتها إلى البيت فهذا ينطبق على الرجال أيضا، ألم يعودوا إلى بيوتهم وكأن شيئا لم يكن؟!

   النساء كمواطنات يهمهن مصير بلدانهن يشاركن بكثافة عندما تكون التحركات سلمية ولكنهن ينكفئن عندما يصبح العنف هو الغالب وخصوصا عندما يستخدم ضدهن كسلاح وتحديدا العنف الجنسي، من قبل معادي الثورة، أو أجهزة السلطة، لترهيبهن ومنعهن من المشاركة. صحيح أن هذا النوع من العنف مستخدم أيضا ضد الرجل، لكنه أكثر ترويعا وردعا للمرأة.

التنكيل الجنسي ليس ضد النساء فقط

   قبل العنف الذي اعتدناه رفيقا مداوما في عالمنا العربي، من اقتتال وحروب متنقلة بين مكونات مجتمعاتنا إلى ظواهر الإرهاب والإتجار بالبشر والقتل العشوائي وتفجير الكنائس والمساجد، كان هناك الانتحار والعنف المنزلي الذي يشمل الطفل والمرأة يضاف إلى ذلك كله العنف المجتمعي. لكن قبل هذا وذاك مارست الأنظمة جميع أنواع التنكيل والتعذيب طوال عقود حولت فيها الشعوب العربية إلى ضحايا عاجزة ومريضة ممحوة الشخصية عبارة عن أجساد "ميتة – حية"، أجساد عبيد.

   تتضمن لائحة العنف، التعذيب والتنكيل الجنسيين، لكنهما يمارسان عادة في الخفاء. ما حصل مع الثورات أنه تم استعراض وممارسة هذا العنف علنا دون حياء. عرضت جريدة الحياة ملفا كاملا عن موضوع العنف والتحرش الممارسان في كل من تونس والجزائر واليمن والعراق (2 فبراير 2013). ليتبين أن التنكيل بالجسد الأنثوي والتحرش بالنساء ظاهرة معتادة في العالم العربي؛ ولطالما استخدم جسد المرأة للثأر من معسكر الأعداء الذي تنتمي إليه. ولقد أشار الكثيرون إلى أوجه الشبه بين التنكيل والتحرش الجنسي المنظم تجاه النساء قبل الثورة في مصر وبعدها سواء الذي ارتكبه النظام السابق أو التحرش الذي تعرضت له المتظاهرات تحت حكم «الإخوان»، أو كشوف العذرية للبنات في فترة حكم المجلس العسكري.

الاغتصاب كسياسة وتقنية للحصول على المعلومات

   لكن في سوريا لم يقتصر التنكيل الجنسي على النساء بل تحول إلى سياسة للنظام تطال الأولاد والرجال والنساء. وتكتب الصحفية نادين العلي "بات العنف الجنسي سياسة منهجية يتبّعها النظام. ويُقال إنّ رجاله يعتدون جنسيا على نساء ورجال المعارضة، مدمّرين العائلات وحياتها. ونتيجة للحرب الدائرة، نادرا ما تطلب النساء والفتيات اللواتي يتعرّضن للاغتصاب أثناء الحرب المساعدة أو الدعم، ولا يطّلع المختصون على ما تتعرّض له المغتصَبات". ولقد حذرت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة المعنية زينب بانغورا من الانتشار الواسع للعنف الجنسي في سوريا. وأعلنت أن العنف الجنسي ضد النساء والرجال، وضد الفتيان والفتيات، منتشر بشكل واسع في سوريا؛ وهو مستخدم ضد الرجال والفتيان كوسيلة لاستخراج المعلومات منهم في السجون. إنه تقنية للحصول على المعلومات.

ظاهرة الكشف عن العنف الجنسي

   لكن الجديد ظاهرة مقاومة العنف الجنسي عبر كشفه وتعريته؛ لقد خرجت النساء في ليبيا إلى الشوارع لتطالب السلطات وتفرض عليها الاعتراف بجرائم الاغتصاب التي تعدّ بالآلاف والتي ارتكبت خلال الثورة. العديد من النساء والناشطات في منظمات والمتطوعات من مختلف الأعمار رفعن لائحات خطت عليها شعارات من مثل: “لن نقبل بهذا أبدا”، وشعارات “لا تغتصبوا” بدل “لا تجعلن أنفسكن محل اغتصاب”.

   لقد استطعن كسر التابو tabou الذي كان يمنع مجرد الإشارة أو الحديث عن الموضوع وأجبرن البرلمانيين على استقبالهن والنظر في مطالبهن ومعالجة مظالمهن. لقد تجرأت تلك النسوة وطالبن بخرق حاجز الصمت الذي هو الأداة الناجعة لتكميم الأفواه وتغطية هذه الممارسات. كذلك حصل في مصر حملة لمكافحة الاغتصاب وفضح من يقومون به.

الاحتجاج بتعرية الجسد

   في ظل الثورات ولمواجهة العنف الممارس على النساء برزت حركة اعتراض نسائية مستخدمة الجسد العاري من أجل المطالبة بالحقوق وكوسيلة اعتراض سياسية. بدأت في مصر وانتقلت إلى تونس وإلى المغرب. فعلى غرار حركات الرفض الغربية في طريقتها بالتعبير عن معارضتها أو دفاعها عن حقوق المرأة، قامت علياء المهدي المصرية بنشر صور عارية لها تعبيرا عن رفضها لحكم الإخوان في مصر على الفيسبوك. فلقد تعرّت في ديسمبر 2012 وناشطات ينتمين إلى منظمة "فيمين"، أمام السفارة المصرية في السويد رفضا للدستور المصري الجديد وقد كتبت على جسدها العاري عبارة "الشريعة ليست دستورا" ورفعت علم مصر. وأثارت صورها جدلا واسعا بين من أيدها واعتبرها ثورة على الواقع وبين من رأوا في ذلك خروجا على الواقع. ولقد تمت متابعة أخبارها في العالم العربي بشكل محموم فبلغ زوار صفحتها 882 ألف زائر في يومين بحسب الويكيبيديا.

   وتم تقديم العديد من البلاغات للنيابة العامة في مصر بتهم خدش حياء المجتمع المصري ونشر الرذيلة فيه بالإضافة لازدراء الأديان.

   أيضا قامت التونسية أمينة تايلر في شتاء 2013 بنشر صورها عارية على صفحتها على الفيسبوك مع شعار كتبته على جسدها: "جسدي ملكي وليس شرف أحد". ودافعت عن تحركها قائلة إنها رأت أن في حركة فيمين الأوكرانية التحرك الراديكالي الوحيد في العالم للدفاع عن المرأة. واعتبرت أن التعري هو أفضل طريقة لإيصال رسائل تعبر عن مدى تعاسة وضعية المرأة في العالم العربي. وبدأت مجموعة من الناشطات من حركة فيمن حملة واسعة لتعرية أجسادهن تضامنا مع أمينة التونسية.

   الأمر الآخر الذي بيّنته الثورات للجميع أن الكبت الجنسي لم يكن السبب في انتشار التحرش الجنسي، بل كان السبب هو الاحباط والبؤس وجعل الحياة لا تطاق ففي حراك ميدان التحرير لم تحصل حادثة واحدة. إنه كبت الحريات والقمع ونتيجة للشعور بعدم الانتماء للوطن، حيث يشعر المواطنون بأنهم مضطهدون وغريبون في وطنهم. في مثل هذا الوضعية يعتقد الفرد أن الجميع أعداؤه، بما فيهم النساء، ولا يحرص على حياة الآخرين أو كرامتهم ما دامت حياته رخيصة وكرامته تداس يتقوقع وينطوي على نفسه ذليلا وينطبع جسده متشكلا بحسب هذه المشاعر التي تتجسد في هيأته ومنظره.

   الثورات تجمّل الأجساد. الثورات تشفي الروح وتعالجها، كتب أحد المتظاهرين في ميدان التحرير: "انتصار الثورة هو حل لجميع المشاكل النفسية للشعب المصري"، وكتب آخر أيضا: "ثوروا تصحوا". وصرّحت صبية "حاسين مصر بقت بتاعتنا". استعاد الجسد قلبه الذي كان خارجه.

   فمن الملاحظ أن الثورة تطلق موجة تغيير جذرية فتحرر الأفكار وتبرز وعيا جديدا يطال مختلف أوجه الحياة. هناك الآن صراع بين الجديد الذي حملته الثورة وعبرت عنه والقديم الذي اعتاد عليه الناس والذين قد يعودون إليه عندما يشعرون بالفشل أو الإحباط. لكن ذلك لن يمحو الجديد بل سيظل قابعا بانتظار فرصة لاستعادة وجوده ودوره. ربما سيصعب بعد الآن اعتبار المرأة سلعة وأداة للاستخدام الجنسي.

   ولعلّ لافتة "لا تحرّرني، أنا سأتولّى أمري!" التي رفعتها صبيّة تونسية في إحدى التظاهرات، تلخّص التحوّل الذي طرأ على واقع كثرة من النساء في العالم العربي اللواتي تمرّدن على الخوف وانتقلن من كونهنّ ضحايا الى متحكّمات بمصائرهنّ... لكن المسيرة ما زالت طويلة، وهي ستواجه الكثير من المقاومة. ما هو مهمّ أن تبدّلا حصل في شكل التعاطي مع قضايا المرأة، وأن تكريس هذا التبدّل ثم ترجمته ثقافة وتشريعات جديدة سيكون مقياس نجاحه المقبل.