مرة أخرى يفصلها عن سابقتها نحو ربع قرن تعود مصر مع قارتها الإفريقية لعناق تاريخى تتحمل معه قيادتها السياسية مسئولية رئاسة الاتحاد الإفريقى، لتمتزج وتذوب خطوط الجغرافيا والتاريخ، فترسم صفحة جديدة من إرادة المصير والمستقبل المشترك.
وبإدراك كامل لحجم التحديات وبثقة أكبر فى القدرة على تحويل كل تحدٍ إلى فرصة وأمل جديد، تخطو مصر برئاسة الرئيس عبالفتاح السيسى أولى خطوات رئاستها للاتحاد الإفريقي اعتبارًا من العاشر من الشهر الجارى بعد أكثر من ربع قرن على توليها الرئاسة عام 1993 قبل تحول منظمة الوحدة الإفريقية إلى الاتحاد الإفريقى.
وليس من قبيل المصادفة أن تتبوأ مصر مقعد رئاسة الاتحاد الإفريقى فى عهد الرئيس السيسى، خاصة أنه شهد طفرة كبيرة فى العلاقات مع دول القارة السمراء بعدما حدد بشكل لا يقبل الشك قولًا وفعلًا أولويات وأهداف السياسة الخارجية لمصر والموقع المتميز للدائرة الإفريقية فى القلب منها.
جهود القيادة السياسية ومن ورائها كتيبة الدبلوماسية المصرية وأجهزة ومؤسسات الدولة فى إقامة علاقات متوازنة تقوم على الاحترام المتبادل وتحقيق المصالح المشتركة وعدم التدخل فى الشئون الداخلية مع كل دول العالم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا مع إعطاء أولوية للانتماء الإقليمي إفريقيًا وعربيًا تكللت بنجاح مشهود استعادت من خلاله مصر عن جدارة مكانتها الدولية والإقليمية.
وتأتى رئاسة مصر المقبلة للاتحاد الإفريقى لأول مرة- حيث رأست مصر من قبل منظمة الوحدة الإفريقية في الأعوام 1964 و1989 و1993، كان أولها فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر- لتؤكد الأهمية الكبيرة التى توليها القاهرة للقارة الإفريقية وأهمية تحقيق أهداف شعوبها المنشودة فى التنمية والانطلاق والاستفادة من قدراتها البشرية والطبيعية.
ولعبت مصر دورًا تاريخيًا على مستوى القارة الإفريقية من أجل تحرير الدول الإفريقية من الاستعمار وتوحيد جهودها لتحقيق نهضة شاملة في مختلف المجالات من خلال تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، حيث كانت مصر إحدى الدول المؤسسة للمنظمة عام 1963، كما استمرت مصر في لعب هذا الدور المهم منذ الخمسينيات وحتى الآن، حيث كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أحد الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية، ورمزًا للنضال والتحرر الوطني في إفريقيا وشتى الدول التي عانت من الاستعمار.
وبعد تولى الرئيس السيسى مقاليد الحكم فى عام 2014 سعت مصر إلى لعب دور فاعل ونشط في مختلف آليات العمل الإفريقي المشترك، حيث حرص سيادته على تعظيم الدور المصري في إفريقيا من خلال تنشيط التعاون بين مصر والأشقاء الأفارقة في كل المجالات، وهو الأمر الذي انعكس في القيام بالعديد من الزيارات واستقبال المسئولين الأفارقة في مصر، وما شهدته تلك الزيارات من توقيع العديد من الاتفاقيات الثنائية بين مصر والدول الإفريقية بهدف دعم التعاون الاقتصادى.
وأنشئت منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963 بهدف التحرر من الاستعمار وتحقيق الاستقرار، بالإضافة إلى الأمن والتنمية في القارة الإفريقية والتنسيق بين دول القارة في القضايا الإفريقية، ثم تحولت منظمة الوحدة الإفريقية إلى الاتحاد الإفريقي لاحقًا، حيث تطورت أهدافها لتتماشى مع الآمال والتطلعات الجديدة للشعوب والدول الإفريقية، وأصبحت تتركز بشكل كبير على تحقيق التكامل الاقتصادى والاندماج الإقليمى، وبالتالى صارت هناك ضرورة لمراجعة مهام وهيكل المنظمة.
وقامت 32 دولة إفريقية مستقلة بتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية فى مايو من عام 1963 بهدف، تمثل فى تحرير القارة من الاستعمار وتوطيد التضامن والتعاون بين الدول الإفريقية، وكان من ضمن الآباء المؤسسين للمنظمة الرئيس المصرى الراحل عبدالناصر والرئيس الغاني كومى نكروما، والإمبراطور الإثيوبى هايلى سيلاسى، الرئيس الغينى أحمد سيكونورى، والرئيس السنغالى ليوبولد سنجور، والرئيس التنزانى جوليوس نيريرى، والرئيس المالى مودبو كيتا، والرئيس الكاميرونى أحمد أهيجو.
وتم اعتماد القانون التأسيسى للاتحاد الإفريقى في قمة لومي بتوجو عام 2000، وأنشئ الاتحاد الإفريقي بشكل رسمى في يوليو 2002، وتضم عضويته حاليًا كل الدول الإفريقية (55 دولة) بعد عودة المغرب خلال قمة أديس أبابا في يناير 2017، وكانت آخر دولة قد انضمت للاتحاد الأفريقي قبل ذلك هي جنوب السودان في يوليو 2011.
وتعد مصر من أولى الدول الموقعة والمصدقة على القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي، وتولت مصر رئاسة منظمة الوحدة الإفريقية، كما استضافت مصر الدورة العادية الـ 11 لمؤتمر الاتحاد الإفريقي في شرم الشيخ في يونيو-يوليو 2008.
وتتمحور اهتمامات الاتحاد الإفريقي في المرحلة الحالية بشكل أساسي حول تحقيق التنمية المستدامة لدول القارة بمفهومها الشامل من خلال تنفيذ "أجندة التنمية 2063"، فضلًا عن حفظ السلم والأمن بالقارة من خلال تفعيل بنية السلم والأمن الإفريقية، إضافةً إلى تحقيق الحكم الرشيد والتداول السلمي للسلطة في دول القارة من خلال تطبيق مبادئ ووثائق الاتحاد ذات الصلة.
وتعقد قمة الاتحاد الإفريقي العادية خلال شهر يناير-فبراير من كل عام، بالإضافة إلى الاجتماع التنسيقي بين هيئة مكتب الاتحاد الإفريقي ورؤساء التجمعات الإفريقية الاقتصادية الإقليمية، ويتناوب رؤساء الدول الإفريقية على رئاسة المنظمة كل عام بالتناوب بين الأقاليم الجغرافية الخمسة للقارة.
ويتشكل الاتحاد الإفريقي من عدة أجهزة يأتى فى مقدمتها مؤتمر الاتحاد على مستوى القمة والذى يعد أعلى سلطة في الاتحاد ويتكون من رؤساء الدول أو الحكومات أو ممثليهم، ويجتمع مرتين علي الأقل سنويًا، ويتولى رئيس دولة أو حكومة رئاسة المؤتمر بعد مشاورات بين الدول الأعضاء ولمدة سنة واحدة، بالتناوب بين الأقاليم الإفريقية الخمسة (شمال-وسط-غرب-شرق-جنوب)، ويتم تحديد موضوع رئيسي لكل قمة.
كما تضم أجهزة الاتحاد المجلس التنفيذي الذى يتكون من وزراء الخارجية أو أي وزراء تتم تسميتهم من قِبَل حكوماتهم، ويجتمع عادة مرتين سنويًا في دورتين عاديتين، ويجتمع في دورات غير عادية بناءً علي طلب دولة عضو وبموافقة ثلثي الأعضاء، ويكون النصاب القانوني لاجتماعاته من الأعضاء؛ بالإضافة إلى لجنة الممثلين الدائمين من سفراء أو مندوبي الدول الدائمين المعتمدين لدى الاتحاد، وهو المسئول عن التحضير لأعمال المجلس التنفيذي، ويعمل بناءً علي توجيهاته، ويجوز له تشكيل لجان فرعية أو مجموعات عمل عند الحاجة.
كما يضم الاتحاد من بين أجهزته، البرلمان الإفريقي، حيث نص القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي على إنشاء برلمان عموم إفريقيا كأحد أجهزة الاتحاد الأفريقي لضمان مشاركة كاملة للشعوب الأفريقية في تنمية وتكامل القارة؛ بالإضافة إلى مفوضية الاتحاد الإفريقى التى تعتبر بمثابة الأمانة العامة أو سكرتارية الاتحاد، وتتكون من رئيس ونائب رئيس و8 مفوضين يتولون المسائل المتعلقة بكل من السلم والأمن، والشئون السياسية، والبنية التحتية والطاقة، والشئون الاجتماعية، والموارد البشرية والعلوم والتكنولوجيا، والتجارة والصناعة، والاقتصاد الريفي والزراعة، والشئون الاقتصادية، ويتم انتخاب كل من أعضاء هيئة المفوضية لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة فقط.
وتم انتخاب هيئة مفوضية الاتحاد الإفريقي الحالية برئاسة التشادى "موسى فقيه أحمد" خلال قمة أديس أبابا (يناير 2017)، وتعتبر الهيئة الرابعة التى تتولى إدارة مفوضية الاتحاد الإفريقى منذ إنشائه، وتتولى المصرية الدكتورة أماني أبو زيد منصب مفوض البنية التحتية والطاقة.
كما تتضمن أجهزة الاتحاد الإفريقى اللجان الفنية المتخصصة وهى لجنة، أهمها لجنة الدفاع والسلامة والأمن، لجنة الهجرة واللاجئين والمشردين داخليًا، لجنة الشئون المالية والنقدية والتخطيط الاقتصادي والتكامل، لجنة الهجرة واللاجئين والمشردين داخليًا، لجنة النقل والبنية التحتية عبر القارية والإقليمية المشتركة، والطاقة والسياحة، بالإضافة إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذى يعمل على دعم وتشجيع الحوار بين الشعوب الإفريقية وقيادتها حول مختلف المسائل الحيوية وضمان مشاركة الشعوب الإفريقية بصورة فعالة في تنفيذ وتقييم برامج الاتحاد الإفريقي.
وتشمل أجهزة الاتحاد، المؤسسات المالية التى تضم صندوق النقد الإفريقي، وبنك الاستثمار الإفريقي (ليبيا)، والبنك المركزي الإفريقي (نيجيريا)؛ والمؤسسات القضائية والمتعلقة بموضوعات حقوق الإنسان وهى اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب.
ووقعت مصر على الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب في 1611 1981 وصدقت عليه فى 20319، والمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب (وقعت مصر على البروتوكول المنشئ للمحكمة في 17-2-1999 ولم تقم بالتصديق)، اللجنة الأفريقية لحقوق الطفل ورفاهيته (وقعت مصر على الميثاق الأفريقي لحقوق الطفل ورفاهيته فى 30-6-1999، وصدقت عليه فى 9-5-2001) وتم انتخاب الدكتورة عزة العشماوى، الأمين العام السابق المجلس القومي للأمومة والطفولة عضوًا فى لجنة الخبراء فى عام 2013 لمدة خمس سنوات.
وتضم أجهزة الاتحاد الإفريقي كذلك مجلس السلم والأمن الذى تم إنشاؤه عام 2004، وتعد قراراته ملزمة لجميع الدول الأعضاء بالاتحاد، والذى يتشكل من خمسة عشر عضوًا يتم انتخاب عشرة منهم لمدة عامين وخمسة لمدة ثلاثة أعوام، وذلك على أساس التناوب وفقًا لمبدأ التمثيل الجغرافي للقارة، بالإضافة إلى المؤسسات القانونية وهى المجلس الاستشاري حول الفساد، وتم إنشاؤه عام 2006 بموجب المادة (22) من "اتفاقية الاتحاد الإفريقي لمكافحة الفساد"، بهدف تعزيز اعتماد وتطبيق التدابير الخاصة بمكافحة الفساد في القارة، وتقديم المشورة لحكومات الدول حول كيفية معالجة الفساد في تشريعاتها الوطنية، ووقع السيد رئيس الجمهورية على "اتفاقية الاتحاد الإفريقي لمنع ومكافحة الفساد" خلال قمة أديس أبابا (يناير 2017)؛ ولجنة الاتحاد الإفريقي للقانون الدولي، حيث تم إنشاء اللجنة الإفريقية للقانون الدولي في فبراير 2009 بموجب "النظام الأساسي للجنة القانون الدولي للاتحاد الإفريقي" كجهة استشارية مستقلة مخولة بمتابعة التطورات التي يشهدها القانون الدولي وتشريعاته، فاز القاضي المصري المستشار محمد بركات فى انتخابات اللجنة الإفريقية للقانون الدولي التي جرت على هامش قمة الاتحاد الإفريقي التي عقدت في أديس أبابا في يناير 2015.
مصر وإفريقيا.. تاريخ طويل منذ تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، وحاضر طموح تعكسه الإرادة السياسية للنهوض بالقارة وشعوبها ودولها، وتأتى رئاسة مصر المقبلة للاتحاد الإفريقى لتعزز مسيرتها فى رحاب قارتها الأم يدا بيد مع أشقائها الأفارقة.