بقلم : مجدي نجيب
في المرحلة الرومانتيكية من حياتي، مرحلة الخيال والتحليق في أجواء من البساطة والبراءة.. كنت أسمع عنه كباقي المستمعين من عشاقه، كنت في غاية الإعجاب منبهرا به.. رسمت له صورة في خيالي كمستمع عاشق لفنه.. كانت الصورة ترقص أمامي كلما سمعته يغني في الراديو - صوت بدون صورة
وظل إعجابي به كما هو.. إلي أن كبرت وبدأت عملى فى الصحافة...، وأيضا لم يقل إعجابى به.. وكنت فى ذلك الوقت أكتب الشعر وكنت قد قررت دخول مجال الأغنية والتأليف، فبدأت بأول أغنية لى: "قولوا لعين الشمس" للفنانة شادية، بعدها كتبت أغنية "كامل الأوصاف فتني".. وكان في خيالي وأنا أكتب صورة وأداء وعبدالحليم حافظ. استطعت أن أحدد موعدا لمقابلته، أخذ شريط الذكريات لصور مختلفة له يمر في رأسي. كان الوقت ظهرا. ذهبت متأخرا عن موعدي إلي منزله بالعجوزة.. قابلته علي باب العمارة. كان متعجلا وكنت في حيرة، فقد كان اللقاء الأول بيننا. اعتذرت له. اعتذر لي بسبب موعد كان قد حدده سابقا للذهاب لمتابعة عملية مونتاج فيلم من أفلامه.
علي الباب أيضا، كان يقف إنسان يأس في حالة من الانهيار الشديد والتحفز كما لو كان في انتظار شيء ما ينقض عليه.
قفز الشاب البائس في اتجاه عبدالحليم حافظ الذي انتفض من الفزع. اخرج الشاب من جيبة رزمة من الأوراق، اقترب من عبدالحليم وقال له:
- "أنا مؤلف شاب يا أستاذ عبدالحليم.. وبقالي شهور باستني اللحظة اللي أشوفك فيها.. نفسي تقرأ كلماتي.. دنا باكتبها بمعاناة وألم شديد".
قاطع عبدالحليم الشاب بصرخة غاضبة.. وانقلب ذلك الفنان الرقيق الناعم إلي وحش يصرخ في وجه المؤلف الشاب اليائس الذي لم يكن يتوقع ما يجري وما يراه.
- عندك الإذاعة يا أخي!.
ثم التفت ناحيتي وقال:
- مؤلفين الأيام دي متعبين جدا.. مدام كتبوا أي شيء علي الورق يبقي ممكن يتغني.. ثم سحبني من يدي إلي سيارته كنت طوال الطريق أفكر في
- كيف تمكن هذا العندليب من إصدار صراخ عال في غضب واضح لواحد من معجبيه، بل لم أجد إجابة علي دهشتي..
وصلت السيارة إلي ستديو نحاس .. انشغل عني العندليب بمتابعة عملية المونتاج.. ثم أدرك وجودي، فأخذ يشركني معه..
بعد لحظات احسست أننا اصدقاء من زمن.. ضاعت الكلفة بيننا.. وأحسست أنني مع صديق قديم تربطني به أواصر المحبة.
ابتدأ كلامه لي قائلا بأنه يعرفني من خلال كتاباتي.. وأخذ يتحدث في الصحافة الفنية والشعر والفن.. كان ناضجا. ذكيا. يطلب المعرفة في كل لحظة.
استمرت دقائق من الصمت بيننا.. قال فجأة:
- عاوز اقرأ أغنيتك التي كتبتها لي.
عندما قرأ المطلع.. دق علي الحائط الذي كنا نقف بجواره قائلا:
- ليس سوي محمد الموجي هو القادر علي تلحينها.
ومرت الأيام، أخذ الموسيقار محمد الموجي لحن "كامل الأوصاف".. غناء عبدالحليم فيما بعد. خلال تلك الفترة، كنت قد اقتربت من العندليب واستطعت أن أرسم له صورة في خيالي من الواقع.. أنه فنان يعاني الكثير في فنه لكي يخرج إلي الناس في شكل جاد، محترم، يعاني أيضا وطأة المرض عليه .. المرض الذي لا يجعله يشعر بالارتياح النفسي والعصبي. دائم الاطلاع.. وفي المناقشات الأدبية والفنية والموسيقية والاجتماعية، كان بارعاً في تفهم المواضيع.. وله رؤية ناضجة مدربة علي الاستكشاف.
وكان في أثناء اشتداد المرض عليه - أيضا - يصر علي اجراء بروفات أغانيه في منزله ولا يكتفي بحفظ الموسيقيين للحن عن طريق قراءة النوتة الموسيقية.
كنت بالتأمل في عينيه، أشعر بأن هناك شيئا مفقودا منه. ضاع عبر سنوات عمره. ربما كانت قصة حب ربما كانت طفولة غير سعيدة.
ورغم تمكنه من العزف علي آلة العود.. وقدرته علي ممارسة فن التلحين وبشكل ممتاز، إلا أنه لم يحاول الدخول في هذه التجربة، ليس خوفا من الفشل.. ولكن لكي يتفرغ للأداء والمعاناة في توصيل الكلمة واللحن لجماهيره من عشاق فنه.. ومع ذلك، فقد كان يتدخل بذوقه وتذوقه في اللحن، فيناقش ويطالب كثيرا في تعديل أجزاء من اللحن.
فقد كان كل المتعاملين معه من موسيقيين، يعرفون جيدا قدرته الهائلة علي الفهم الموسيقي ولذلك لم تحدث خلافات حول رأيه وتدخله في التغيير في لحن من الألحان.
و... استمرت علاقتي به علاقة صديق، أذهب إلي منزله .. استمتع بمشاهدات فنية لم تكن موجودة في أي بيت من بيوت الفنانين.. وكنت أسعد به كفنان قادر علي التفكير، وعلي التخيل والمعاناة وحبه الدائم للمعرفة.. وايمانه بأن الإنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة، فهو يتعلم كل يوم شيئا جديدا. يتعلم من الحياة.. ومن القراءة ومن مخالطة الناس.. بل ومن أقل الناس، كان يحاول الاستفادة.. وهذا ما جعله عبدالحليم حافظ، العندليب الذي هزم أجيالا من المطربين، ليس لانه كان يحاربهم في فنهم.. ولكن لانه كان يملك سلاح العقل والفكر.