الإثنين 1 يوليو 2024

عندما كان الملحنون يرفضون تقديم ألحانهم لعبدالحليم

3-4-2017 | 14:47

بقلم : حسين عثمان

قبل عشرين عاما تقريبا كنت أجلس مع الملحن المعروف كمال الطويل نتحدث عن نجاح عبدالحليم حافظ وكان وقتئذ قد أصبح نجما سينمائيا مرموقا إلي جانب مكانته كمطرب... وروي لي كمال الطويل قصة مولد عبدالحليم كمطرب فقال :

عندما عينت مراقبا للموسيقي في الإذاعة سنة 1949 قررت أن أفتح له الطريق ليغني في الإذاعة فقد كنت مقتنعا بصوته بعد أن لمست فيه استعداداً طيبا للغناء لقد آمنت بصوته كموهبة جديدة يمكن أن تسجل نجاحا كبيراً لو فتح أمامها الطريق ولم أكن يومها اهتم بالتلحين ولا حتي الغناء فقد كان كل اهتمامي منصبا علي الواجب الإذاعي الملقي علي عاتقي كمراقب للموسيقي..

وكان نظام العمل بالإذاعة يسير علي نحو رتيب وهو أن يختار الملحن مطربيه الذين يسند إليهم ألحانه في الأركان التي يلحن لها ولقد طلبت من الكثيرين من الملحنين أن يضموا عبدالحليم إليهم ويعطوه بعض ألحانهم ليغنيها... ولكنهم كانوا في الغالب يماطلون ويهربون من اعطائه ألحانهم ويتفنون في الاعتذار لي بأعذار مختلفة ولم يكن أمامي من سبيل كنت كما ذكرت مؤمنا بعبدالحليم وصوت عبدالحليم وعندما وجدت أن أكثر ملحني الإذاعة يتهربون من اعطائه بعض ألحانهم قررت أن ألحن له أغنية أقدمه بها للإذاعة خاصة وقد كانت العادة المتبعة إلا يدخل الإذاعة مطرب ألا إذا غني لواحد من ملحنيها وكانت لجنة الاستماع مكونة من ثلاثة اعضاء وهم الاستاذان حافظ عبدالوهاب وعبدالحميد عبدالرحمن نقيب الموسيقيين وأنا واجتمعنا لنستمع إلي أغنية عبدالحليم بعد تسجيلها ولكن عبدالحميد عبدالرحمن أبدي معارضة شديدة في اشتغال عبدالحليم كمطرب وكان من رأيه أن عازف «الأبوا» لا يمكن أن يكون مطربا بأي حال من الأحوال ولما وجد مني أنا والاستاذ حافظ عبدالوهاب معارضة في رأيه أعلن انسحابه من اللجنة ولم يهتم الاستاذ حافظ بهذا التصرف فقد كان شديد الاقتناع بصلاحية عبدالحليم واستعداده الصوتي كمطرب وزادني حماس الاستاذ حافظ عبدالوهاب لعبدالحليم .. زادني اقتناعا علي مقدرة عبدالحليم واستعداده الكبير للنجاح.

وأذكر يومها أن سألت كمال الطويل كيف تم اختيار اسم عبدالحليم حافظ فقال... عندما أذيعت الأغنية الأولي التي لحنتها له وسجلها في الإذاعة كان الشيء الوحيد الذي لم يعجبني هو اسم «عبدالحليم شبانة» وفكرنا في أن يكون اسمه عبدالحليم علي ولكن كان هناك موسيقي مشهور بهذا الاسم ووجدت الاستاذ حافظ عبدالوهاب يؤيدني في أن اسم عبدالحليم شبانة ليس بالاسم الجذاب الذي يمكن ان يملأ أذهان الناس أو يعلق بها بل إن الأمر قد يختلط عليهم فلا يستطيعون التفرقة بينه وبين شقيقه إسماعيل شبانة الذي كان من ألمع مطربي الإذاعة وعندما أخذت استعرض الاسماء أنا والاستاذ حافظ عبدالوهاب قفز إلي ذهني اسم حافظ ووجدت أن حافظ إذا اضيف إلي اسم عبدالحليم يكون خليطا سهلا مرنا قابلا للشهرة ولعل الاختيار لاسم حافظ هو اعتراف لا شعوري مني بما بذل حافظ عبدالوهاب من جهد لمساعدة عبدالحليم وما ساندني به من تأييد لرأيي في عبدالحليم وصوته وعندما عرضت الفكرة وافق عليها عبدالحليم وتحمس لها حافظ عبدالوهاب ولما عرف إسماعيل شبانة الاسم الجديد لشقيقه جاء محتجا إذا كان يعتقد أن الابقاء علي لقب شبانة نوع من التمجيد والتكريم للأسرة التي أنجبتهما...

وكان معروفا أن عبدالحليم حافظ يعطف علي كل طفل أو صبي ماتت أمه وتولت تربيته زوجة أبيه فقد عاني الأمرين من زوجة أبيه وهذه حقيقة يحلهلها الكثيرون من الذين تعرضوا للكتابة من حياة عبدالحليم فقد كان يحرص أن يسدل ستاار من النسيان علي هذه القصة التي رواها لي وألح في ألا أنشرها أبداً.. قال لي عبدالحليم إن والده تزوج من امرأة تصغره بسنوات كثيرة بعد أن ماتت أمه بعد أن أصيبت اثناء ولادته بحمي النفاس فتزوج الأب لأنه لا يستطيع خدمة أولاده الصغار إسماعيل.. وعلية ومحمد وعبدالحليم وكانت قسوة «مرات الأب» عاتية علي الطفل الرضيع وكان الأخوة يشكون لأبيهم هذه القسوة فيقوم إلي زوجته يضربها ويعنفها ولم يفلح الضرب ولا أي شئ آخر مع هذه السيدة فاختار الأب سيدة طيبة من قريباته اسمها «زينب» اختارها ليقيم عندها ابنه الرضيع عبدالحليم تقوم هي بتربيته فكفاه ما لقي من حرمان وعذاب وعند هذه السيدة وجد عبدالحليم الحب من كل الامهات اللاتي يتخطفنه ليقمن بارضاعه ولهذا كان عبدالحليم يعلن دائما أنه لا يستطيع أن يتزوج من قرية الحلويات لأنه «أخ» لأغلب بنات القرية عن طريق الرضاعة وهو يخشي أن يتزوج إحداهن فيكتشف أنها أخته..

وهناك ذكريات كثيرة سمعتها من إسماعيل شبانة أيام زمان في منتصف الخسمينيات وأذكر أن إسماعيل شبانة قال لي كان عبدالحليم «طباخ بريمو» وكان يتولي طهو الطعام عندما كان نقيم معا في القاهرة فقد كانت وقتئذ موظفا في وزارة الصحة وكنت أيضا اشترك في أحياء الافراح وكانت اسعد لحظات حياتي عندما أقبض أجري من هذه الحفلات وأسرع عائد إلي البيت حاملا رطلين لحمة ضاني مع الخضر والفاكهة وأوقظ عبدالحليم من النوم ليقوم بطبخ صينية بطاطس ولا ننام قبل أن نأكلها عن آخرها.

وعندما سافر عبدالحليم حافظ إلي أوروبا عام 1956 بعد العدوان الثلاثي للعلاج لأول مرة في حياته كان الجو يغلي في لندن ضد كل ما يمت لمصر بصلة فقد كان الانجليز يعتبرون تأميم قناة السويس قطع شريان القلب عن بريطانيا مما ينتج عنه الموت المحقق لاقتصاد الامبراطورية البريطانية وقد حدث أن سافر عبدالحليم إلي سويسرا حيث قضي بعض الوقت هناك ليحصل علي تأشيرة دخول للأراضي البريطانية لكن الموظفة الانجليزية الموجودة في السفارة البريطانية في سويسرا رفضت أن تعطيه تأشيرة الدخول مصري فقد سألته عن اسمه ولما عرفت أنه عبدالحليم حافظ قامت فزعة وكأنما لدغها عقرب وقالت له أنه لا يمكن اعطاؤه تأشيرة دخول إلي انجلترا لأنه غني أغاني كثيرة تؤيد تأميم القناة وكان الدكتور زكي سويدان يشرف علي علاج عبدالحليم يومئذ فاتصل به عبدالحليم يبلغه هذا الخبر فنصحه الدكتور سويدان بأن يسافر إلي السويد ويجري بها التحليلات الطبية المطلوبة وسافر عبدالحليم إلي السويد وما كاد يصل إلي مدينة «مالمو» حيث يجري هناك التحليلات الطبية المطلوبة ووصل إلي الفندق فإذا بموظف الاستعلامات ينظر إليه بدهشة بعد أن عرف اسمه وقال له... هل أنت عبدالحليم حافظ المطرب المصري؟!

- نعم

- هل توفيت؟

فضحك عبدالحليم وقال كيف تسألني هذا السؤال وأنا أقف أمامك!

فقال الموظف لقد سمعنا هذا الخبر في محطة إذاعة لندن التي أذاعت أنك اجريت لك عملية جراحية وأنك توفيت علي أثر هذه العملية.

وعرف عبدالحليم الحقيقة بعد ذلك فأن الموظفة الانجليزية التي قابلها في سفارة بريطانيا بسويسرا هي التي اشاعت هذا الخبر من شدة غيظها من عبدالحليم الذي غني أغاني وطنية تمجد مصر وتؤيد تأميم القناة!!

ومن المصادفات الغريبة أن إذاعة لندن أذاعت هذا الخبر في شهر مارس عام 1957 واضطرت أن تكذبه بعد أن هدد عبدالحليم برفع دعوي ضد الإذاعة البريطانية التي خلطت بين السياسة ومصالح الاشخاص وقام عبدالحليم بتكليف محامى سويسري بمهمة رفع دعوي دولية ضد الإذاعة البريطانية التي سارعت بالاعتذار عن إذاعة خبر وفاة عبدالحليم...

ومضي عشرون عاماً.. وإذاعت محطة إذاعة لندن في برنامجها العربي خبر وفاة عبدالحليم حافظ بعد إعلان وفاته رسميا.. ونقلته وكالات الأنباء عنها وكان هذا الخبر في هذه المرة صحيحاً...

الكواكب 1345 - 10 مايو 1977