السبت 23 نوفمبر 2024

التجارب الناجحة والفاشلة في غناء عبدالحليم

  • 4-4-2017 | 09:50

طباعة

بقلم: كمال النجمى

الأغانى العاطفية، تحتاج إلى صوت حالم رقيق، يختنق بدموع المطرب أو المطربة.. وأن لم تسل دموعه هذه على الخدين.. وقد كان عبدالحليم حافظ مطرب الأغنية العاطفية الأول فى مصر والبلاد العربية كلها خلال عشرين عاما على الأقل..

والغناء العاطفى بمعناه المتداول عندنا، وعند كثيرين غيرنا، هو فن مثل فن عبدالحليم الذى كان يستطيع أن يكتفى به، ولا يتعداه، ولكن التاريخ الفنى لعبدالحليم يسجل أنه فى أوائل الستينيات اقتحم مجال الأغنية التى اعتدنا أن نسميها "الأغنية الشعبية"..

وأفضل أغانيه الشعبية هى الاغانى الوطنية التى كان يغنيها من عام إلى عام فى احتفالات 23 يوليو، ويلحنها كمال الطويل بأسلوب يجدد فيه أسلوب سيد درويش فى الاغانى الجماعية ويضيف إلى هذا الاسلوب كثيرا من فنه الخاص، فن كمال الطويل..

فى هذه الفترة - بدايات الستينيات - ظهرت حاجة الجماهير الشعبية إلى نغمة شعبية - المذاق بسيطة مؤثرة قادمة من أعماق الفلوكلور المصرى ووجد عبدالحليم أنه قد أعطى المستعمين ما يكفى - حتى ذلك الوقت - من الاغانى العاطفية، وينبغى ملاقاتهم فى المجال الجديد.. مجال الأغنية الشعبية..

وهذه التطورات الغنائية كانت فى حينها موضح تعليقات نشرناها فى "الكواكب" قبل بضعة عشر عاما..

ولم يكن عبدالحليم يعرف طريقه إلى الأغنية الشعبية من أول خطوة اليها، قد تعثر فى البداية، ووقع فى التقليد، وفى الافتعال.. ثم استقام على الطريق الصحيح آخر الامر..

وأذكر أنه غنى فى شهرين متتاليين أغنيتين "شعبيتين" تستندان فى الكلمات والنغمات إلى الفلكلور الصعيدى، وسبقه إلى غنائهما مطربون آخرون، فأراد أن يكون له فضل على كل من غناهما قبله .. فماذا صنع؟!

غنى "أنا كل ما أقول التوبة يابوى" .. و"على حسب وداد قلبى".. من تلحين بليغ حمدى..

لم تنجح الأغنية الأولى عند المستمعين، برغم جودة كلامها، وتلحينها وأدائها.. ونجحت الأغنية الثانية.. فماذا كان السبب؟!

السبب هو أن الموسيقار على إسماعيل - رحمه الله - أسرف فى "توزيع" ألحان الاغنية الأولى، وحشاها بمجموعات نغمية متوافقة ومتعارضة، لا تنبع من اللحن الفلكلورى الأصلى، بقدر ما تنبع من دراسة على إسماعيل للتأليف الموسيقى الأوربى المتراكب..

لقد وزع اللحن على المطرب الاساسى - عبدالحليم - وعلى الكورس الضخم توزيعا جائرا، غير مستساغ فى الأذن العربية، فتمزق اللحن الفلكلورى بين المطرب والكورس، وبدت الأغنية بعد هذه "التوزيعة" الصاخبة، كأنها مشاجرة لحنية زاعقة بين مجموعات متنافرة من الأصوات، يغنى كل منها على هواه، بينما تفرقع الالات الموسيقية بنغمات عجيبة مزعجة..

كان الملحن - بليغ - يقصد أن يغنى المطرب والكورس من طبقات صوتية مختلفة ولكن الغناء بهذه الطريقة له أسس معروفة فى الغناء والأنشاد العربى، وقد عدل الموزع عن هذه الطريقة التى تقبلها الأذن العربية، إلى نوع من تداخل النغمات والأصوات غير مألوف عندنا يشبه النشاز لا التوافق والهرمنة..

وأعجب من ذلك أن ايقاع الاغنية الفلكلورية - وهو ايقاع مصرى - قد نقل بسحر ساحر إلى ايقاع أوربى، فإذا باللحن الصعيدى يتحول إلى أغنية أوروبية أو أمريكية ذات بداية غنائية ولحنية مفتعلة من طراز البدايات التى أعتاد النقاد أن يسموها "بدايات كاذبة" لانها فى الحقيقة مجرد تهويش للمستمع بمازورات وموازين موسيقية متوالية متزاحمة متقاتلة يضيق بها المكان والزمان اللحنى..

أما أغنية "على حسب وداد قلبى" فقد نجحت، لانها لم توزع بل بقيت لحنا ميلوديا مصريا ثم تزخرفه إلا آلات الأوركسترا المصرى الذى حل مكان التخت القديم..

هكذا احتفظت هذه الأغنية الشعبية بايقاعاتها ونغماتها وروحها المصرية، ولم تخسر إلا القيود التى كان يمكن أن يكبلها بها التوزيع الصاخب، وكسبت إعجاب المستمعين، وخطا عبدالحليم حافظ عن طريقها خطوة واسعة إلى الغناء الشعبى بمعناه المطلوب..

إن تجربة عبدالحليم حافظ فى الأغانى الشعبية كانت فى حينها ذات أهمية خاصة، فقد ثبت فيها عقم كل محاولة لطمس معالم الغناء المصرى بتجارب يقوم بها أناس يجهلون علوم الموسيقى العربية، ويعجزون عن كتابة ألحان عربية، وإن كانوا فى الوقت نفسه ذوى علم بالموسيقى الأوربية كثير أو قليل..

وأبادر فأقول إن الموسيقار على إسماعيل كان من القلائل العارفين بالموسيقى العربية والمصرية معرفة تامة، فضلا عما استفاده من علوم الموسيقى الأوروبية..

وألحانه المصرية، تنم عن روح مصرية شفافة، وفهم وتذوق عميقين للغناء المصرى والعربى..

وهو علامة ذات أهمية حقيقية فى تطور الغناء المصرى والموسيقى المصرية، وقد خسره هذا الفن ولم يعوضه حتى الآن ولن يعوضه بسهولة..

غير أن تجاربه فى "توزيع" الأغانى الشعبية، كانت تتم بناء على طلب أصحاب هذه الأغانى، لظنهم فى ذلك الحين أن "التوزيع" هو الصيحة الموسيقية التى ستبتلع جميع الصيحات..

هذا - فيما نرى - ما أغراه بأن يعطيهم كل ما عنده من "التوزيع".. فكانت النتيجة صدمة لهم بطبيعة الحال، وانقطع "توزيع" هذه الاغانى منذ تلك الأيام!

تنبه عبدالحليم نفسه إلى أن الأغانى الشبيعة لا يمكن احياؤها أو تقريبها إلى ذوق المستمع الجديد بالاسراف فى التوزيع وإبراز التناقض بين طبقات الأصوات إلى الحد الذى يعتبره الذوق الشعبى نشازا وثرثرة وتداخلا فى الكلمات والنغمات..

ومن حسن الحظ أن تجربة عبدالحليم - بالذات- كانت درسا تعلم منه "الموزعون" الموسيقيون العلماء بالموسيقى الأوربية، أن يقتصدوا فى اظهار جبروت معلوماتهم الموسيقية..

وأصبح واضحا منذ حينئذ أنه لا يجوز المساس بالايقاعات والمقامات العربية لانها أساس هذه الأغانى، وروحها.. وفيها سر جمالها وسحرها كله..

ومازال الغناء الشعبى فى الدنيا كلها شرقا وغربا يحتفظ بايقاعاته الموروثة العريقة..

وإذا كانت الموسيقى الاوروبية قد خسرت أو نسيت معظم مقاماتها فى أثناء انتقالها إلى نظام التأليف المتراكب فى الاعمال الغنائية البحتة، والأعمال الغنائية المسرحية الكبرى، فليس حتما،، ولا قدرا مقدورا، أن تخسر موسيقانا أيضا مقاماتها وايقاعاتها، أسوة بالموسيقى الاوربية..

وفى تجربة أخرى حاول عبدالحليم أن يجعل أغانينا وموسيقانا "عالمية" على حد التعبير الشائع بغير مضمون حقيقى فاستعان بمن صنع له شيئا أو أشياء فى هذا الاتجاه، ولكن عبدالحليم اقتنع هذه المرة أيضا أن أغانينا وموسيقانا لن تصبح عالمية إذا جردناها من روحها وشخصيتها، وألحقناها بالاغانى والموسيقى الاجنبية.. انها عندئذ تصبح مجرد بضاعة مقلدة أو مغشوشة، يرفضها الجميع فى مصر، وخارج مصر...

وعندنا من ينادى - حتى الآن - بقذف الغناء العربى كله فى قمامة التاريخ. والمدهش أن يحدث هذا فى الوقت الذى بدأ الاوروبيون فيه يتطلعون إلى كنوزنا الموسيقية، ويبدون إعجابهم بثرائها النغمى.. وتعددها المقامى وغير ذلك من مزاياها..

إن الصهيونين فى إسرائيل، يلفقون لانفسهم تراثا من الغناء والموسيقى يسرقون الكثير منه من الغناء العربى والموسيقى العربية، بينما يحاول بعض العرب فى بلاد عربية كثيرة الغاء الموسيقى العربية والغناء العربى، وينظرون إليهما بعداوة وحقد، كأنهم جيل جديد من المبشرين الاجانب الذين تخلصنا من جيلهم القديم.

وأثبت نجاح عبدالحليم حافظ طوال حياته الفنية فيما قدم من غناء عربى متطور، أن الاتجاه الصحيح - والواقعى أيضا - هو عدم التخلى عن الطابع الاساسي للموسيقى المصرية والعربية خلال عمليات التطوير التى تتناول هذه الموسيقى العريقة.

وأسهل الاشياء أن يأخذ بعضهم بطريقة النقل الساذجة الميسورة لكل من يريدها، وأصعب شيء هو الكفاح الفنى لاكتشاف طريق قومى مستقل للموسيقى العربية والغناء العربي..

ويهمس بعضهم الآن أن رحيل عبدالحليم، بعد رحيل أم كلثوم، سيفتح الباب للموسيقيين الجدد الذين لا تنطوى صدورهم على ولاء للموسيقى العربية، وينادون غير متحرجين بطردها من بلادها واخلاء مكانها للموسيقى الأوربية جملة وتفصيلا.

والكلمة الأخيرة فى هذا الشأن ليست لهولاء السادة بطبيعة الحال، وانما هى للمستمع العربى.. وهو قد رفض من قبل وسيرفض من بعد، كل التجارب الملفقة البلهاء المنقولة إليه نقلا "قروديا" أعمى.

وما أكثر الأفكار والخواطر الفنية التى كان يثيرها عبدالحليم حافظ فى أذهاننا طوال حياته.. وما أكثر ما يثيره من هذه الخواطر والإفكار بعد رحيله!..

الكواكب 1345 - 10 مايو 1977

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة