لا يجد المتابع للمعركة السياسية الدائرة حول السيطرة على اسطنبول بين
حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا، وحزب المعارضة الرئيسي في البلاد
(الشعب الجمهوري)، عناء في اكتشاف المصيريّة والرمزيّة التي يوليها الجميع لتلك المدينة،
والتي قال عنها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، نفسه، قبل سنوات إن "من يسيطر
على إسطنبول يحكم كل تركيا"، وهي تلك المدينة التي شهدت بداية مسيرته السياسية
عندما فاز برئاسة بلديتها عام 1994، ومن هنا يمكن فهم لماذا لم يتقبل أردوغان فكرة
خسارة المدينة ووقوعها في يد خصومه في الانتخابات البلدية الأخيرة.
فمنذ نهاية مارس الماضي، ومع بداية ظهور بوادر فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري
المعارض، أكرم إمام أوغلو، برئاسة بلدية إسطنبول، في انتخابات بلدية حققت فيها المعارضة
"اختراقات مؤلمة" للرئيس المهيمن على البلاد، وفق مراقبين، أثار أردوغان
الشكوك حول نزاهة النتائج وتحدثت أوساطه عن مخالفات وتلاعب في التصويت. وزاد أردوغان
من تصريحاته حين أعلن أن الانتخابات شابتها "مخالفات" على نطاق واسع ارتكبت
بشكل "منظم"، وقال إن "الأمر لا يتعلق بمخالفات هنا وهناك لأن العملية
برمتها كانت غشاً".
ورغم التصديق على فوز إمام أوغلو، بعد 17 يوما من الانتهاء من التصويت
الذي جرى في 31 مارس، وبدء ممارسة مهامه فعلياً، وبعد دعوة أردوغان وحزبه إلى إعادة
فرز الأصوات والوعد بتغيير النتيجة لصالح حليف أردوغان ورئيس وزرائه السابق بن علي
يلدريم، عادت المعركة إلى الواجهة مجددا مع إلغاء لجنة الانتخابات في تركيا، الاثنين
الماضي، نتيجة السباق في إسطنبول وإعلان هيئة الانتخابات إجراء انتخابات جديدة في المدينة
يوم 23 يونيو .
لماذا يتمسك أردوغان بإسطنبول؟
"ألغيت انتخابات إسطنبول لأنه ببساطة لم يفز مرشح أردوغان، هنا تتلاشى
تماما مصداقية الانتخابات"، تقول الصحافية التركية إكين إكياز، لـ"إندبندنت
عربية". وبحسب الصحافية التي تعمل لدى صحيفة (بيرجن) "تمر تركيا بعملية توصف
بـ(ديكتاتورية الرجل الواحد). وتم إضفاء الطابع الرسمي على هذه العملية، عندما عُدّل
الدستور عام 2017، والذي حصل بموجبه أردوغان على سلطات واسعة شملت حتى النظام القضائي
واستقلاليته".
ووفق تقارير تداولتها صحف تركية معارضة على مدى الأيام القليلة التي تولى
فيها إمام أوغلو رئاسة بلدية إسطنبول، كانت هناك تضييقات واسعة من حكومة العدالة والتنمية
على حاكم المدينة الجديد.
وبحسب صحيفة "أحوال" التركية، فإن حكومة "العدالة والتنمية"
اتخذت العديد من الإجراءات لتقويض محاولات رئيس بلدية إسطنبول، إمام أوغلو، الكشف عن
فساد مسؤولي الحزب الحاكم في البلدية التي سيطروا عليها سنوات طويلة مضت.
ووفق ما نقلت الصحيفة، فإن محكمة إسطنبول حظرت على إمام أوغلو وموظفيه
تحميل أي ملف من قاعدة بيانات البلدية، بعد دعوى رفعها عضوان بمجلس البلدية منتميان
لحزب أردوغان. في الوقت نفسه، أصدرت وزارة
الداخلية توجيها لجميع البلديات في تركيا بأنه لم يعد مسموحا لهم الاحتفاظ بقواعد بياناتهم
الخاصة بالبلدية أو إنشاء قواعد بيانات لهم، وسيتم بدلا من ذلك الاحتفاظ بجميع المعلومات
في قاعدة مركزية.
ورأت الصحيفة أن "العدالة والتنمية" قلق بعد فقدان السيطرة
على أكبر المدن التركية في انتخابات البلديات من كشف أحزاب المعارضة تفاصيل الفساد
المستشري بمجالس البلديات في جميع أنحاء البلاد. وقبل أيام نقلت شبكة "دويتشه
فيله" عن تقرير داخلي مسرب القول بأن بلدية إسطنبول قدمت ما إجماليه 146 مليون
دولار لمؤسسات وجمعيات تابعة لأبناء أردوغان وموالين له خلال عام 2018.
هل يلجأ أردوغان إلى التزوير؟
في الوقت الذي وصف فيه إمام أوغلو إلغاء انتخابات إسطنبول بـ"الخيانة"،
متعهدا عدم الاستسلام، يخشى مراقبون من لجوء حزب "العدالة والتنمية" إلى
التزوير كسبيل وحيد لاستعادة إسطنبول من المعارضة، لا سيما بعد تلميح أحزاب تركية عدة
إلى دعم مرشح المعارضة في جولة 23 يونيو المقبل.
وتقول الصحافية إكين إكياز "رغم إلغاء أردوغان نتيجة الانتخابات،
لكن حزبه لن يفوز مجددا، وحتى إذا فاز فسوف يكون ذلك عن طريق التزوير والاستقطاب المجتمعي.
وربما يحاولون خلق مواقف استثنائية، ولكن في كل الأحوال لن يغيروا حقيقة أنهم بدأوا
مرحلة الخسارة".
وبينما يستبعد سونر جاغايتاي، مدير برنامج الأبحاث التركية لدى معهد واشنطن
لدراسات الشرق الأدنى، "تزوير الأصوات لصعوبة الأمر إلى حدّ كبير نظراً إلى مقاومة
المعارضة والمجتمع المحلي في البلاد". لكن رغبة أردوغان، وفق تعبيره، في تغيير
النتيجة قوية إلى درجة أنه "قد يعلّق العمل ببعض الحريات الديمقراطية لقلب الموازين
لصالح مرشحه في إسطنبول، متذرعاً بقضايا الأمن القومي".
يضيف جاغايتاى "إذا ساعدت معارضة موحدة إمام أوغلو على الفوز، فإن
اليقظة الديمقراطية في أوساط داعميه ستسهم في الحفاظ على الفوز، على الأقل في البداية.
فعندما أظهرت الأصوات يوم الاقتراع تقدم إمام أوغلو على يلديريم، توقفت (وكالة الأناضول
للأنباء) الحكومية، وهي الهيئة الوحيدة المسموح لها بإصدار نتائج الانتخابات الرسمية،
عن بث بيانات الاستطلاعات لما يقرب من اثنتي عشرة ساعة. بعد ذلك، ظهر يلديريم مباشرة
على شاشة التلفزيون لإعلان انتصاره، في وقت لم تمنح فيه قناة (سي إن إن تورك) وغيرها
من الشبكات الوطنية الرئيسية إمام أوغلو وقتاً مخصصاً له على شاشات التلفزيون. غير
أن الحملة المنظمة بعناية لإمام أوغلو تابعت عملها مستخدمة مواقع التواصل الاجتماعي
لإعلام الجمهور بالعدد الدقيق والمنظم للأصوات التي تمّ جمعها من نحو 31 ألف صندوق
اقتراع من جميع أنحاء المدينة والتي وثّقت فوزه بنجاح".
ويشير جاغايتاي إلى أن "الرئيس التركي حتما سيلجأ إلى دفوع أخرى
مثل زاوية السياسة الخارجية، فقد يتخذ من الأزمات الأمنية في الخارج ذريعة لترجيح الكفة
لصالحه. ولنأخذ على سبيل المثال الأزمة التي تلوح في الأفق بين تركيا وقبرص حول التنقيب
عن الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط، ومن شأن المواجهة بين القوات التركية
وقوات نظام الأسد في سوريا أن تحقق غايات مماثلة".
وبحسب، جاغايتاي، قد "يقرر أردوغان أيضاً إثارة غضب قاعدته الإسلامية
السياسية المحافظة، من خلال استغلال التصعيد الأخير بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع
غزة. وإن لم تكن أي من هذه الإجراءات كافيةً لضمان فوز مرشح أردوغان، فقد يلغي الرئيس
التركي حتى السباق المزمع في 23 يونيو كلياً. فإلغاء فوز المعارضة في إسطنبول هو بحد
ذاته حدث (زلزالي) في سياق التاريخ التركي".
وتقول الصحافية التركية إكياز "أعتقد أن أردوغان بدأ يفقد سيطرته
كليا. لكنه لا يستسلم بسهولة لقرائن المشهد السياسي. نحن نواجه أزمة اقتصادية خطيرة.
يشعر الكثير من المواطنين بالتعب من الانتهاكات الحقوقية، والممارسات غير الديمقراطية
والفقر. وعلى الجانب الآخر، فإن القمع الإسلامي يخيف الناس أيضا. لذلك، غضب النساء
تجاه أردوغان كبير جدًا... في المقابل، فإن العديد من قطاعات المجتمع تشعر بأنها أصبحت
أكثر قوة من أي وقت مضى. تحتضن المعارضة الآن كل هذه المشاعر وتتبع سياسات ذكية. سيتم
هزيمة أردوغان للمرة الثانية. نحن في بداية النهاية السيئة لأردوغان".
الرئاسة أمام بلدية إسطنبول
ومع احتدام المعارك الكلامية بين حزب أردوغان والمعارضة، قال حزب الشعب
الجمهوري، حزب المعارضة الرئيسي في تركيا، إنه طلب رسميا إلغاء تفويض الرئيس رجب طيب
أردوغان لأن نفس المخالفات التي يزعم حزبه أنها حدثت في انتخابات بلدية إسطنبول شابت
الانتخابات العامة التي أجريت العام الماضي.
وقال "الشعب الجمهوري" أيضا إن الأصوات التي تم الإدلاء بها
لمسؤولي ومجالس إسطنبول، والتي سُلمت في نفس الأظرف مثل الانتخابات البلدية، يجب إلغاؤها
إذا أعيدت الانتخابات البلدية. وفاز حزب "العدالة والتنمية" بأغلبية في المجالس.
وقال محرم إركيك، نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري للصحفيين "إذا ألغيتم
تفويض أكرم إمام أوغلو، فحينئذ عليكم أيضا أن تلغوا تفويض الرئيس أردوغان لأن نفس القوانين
ونفس اللوائح ونفس الطلبات ونفس مراكز الاقتراع ونفس الظروف كانت حاضرة في كلا الاقتراعين"،
وأضاف متسائلا "لماذا لا تلغون النتائج التي خرجت من نفس المظاريف؟".
وبخسارة معركة إسطنبول الأخيرة، كانت تلك المرة الأولى منذ 25 عاما التي
يفشل فيها "العدالة والتنمية" أو الأحزاب التي انبثق عنها في السيطرة على
إسطنبول، كبرى مدن تركيا والتي تقارب ميزانيتها 4 مليارات دولار.
قلق واستنكار دوليان
وعلى الصعيد الدولي، يثير إلغاء الانتخابات في إسطنبول، الكثير من علامات
الاستفهام، إذ سارع الاتحاد الأوروبي إلى المطالبة بتبرير إعادة الانتخابات "التي
ترتب عليها آثار مهمة". وقالت مسؤولة السياسة الخارجية لدى الاتحاد الأوروبي،
فيديريكا موغيريني، في بيان إن "ضمان عملية انتخابية حرة وعادلة وشفافة ضروري
لأي ديموقراطية، وهو في صميم علاقات الاتحاد الأوروبي مع تركيا". أما وزير الخارجية
الألماني هايكو ماس فقد انتقد القرار بوصفه "غير شفاف وغير مفهوم بالنسبة لنا".
وقال ماس في تصريحات صحفية "إرادة الناخبين الأتراك هي فقط من يقرر من يتولى رئاسة
بلدية إسطنبول".
وجاء رد الفعل الأميركي يلمح إلى القلق بشأن قرار الإعادة، وقال متحدث
باسم وزارة الخارجية الأميركية "أحطنا علما بقرار اللجنة العليا للانتخابات، وندرس
الوضع عن كثب"، مضيفا أن "العملية الانتخابية الحرة والنزيهة والشفافة ركيزة
أساسية لأي ديمقراطية". وشدد مجددا "نتوقع عندما تجرى عملية انتخابية حرة
ونزيهة وشفافة، أن يتم احترامها من قبل جميع الأطراف، حتى يتم الاعتراف بإرادة الناخبين
عبر النتائج".
وتقول تقارير منظمات حقوقية إن أردوغان استغل سلطاته، لسجن المعارضين
السياسيين، بما في ذلك تسعة أعضاء من البرلمان الكردي وعشرات من مسؤولي الحزب الكردي،
فضلاً عن 70.000 طالب وناشط وعشرات الآلاف من أفراد الجيش والموظفين العامين. مع حظر
المظاهرات، ويخضع الوصول إلى التلفزيون الوطني لرقابة شديدة.
ومن غير المفاجئ أن مؤشر "وورد برس" لحرية الصحافة لعام
2018 وضع تركيا في المرتبة 157 من بين 180 دولة، حيث تأتي بعد رواندا، فمن بين جميع
الصحفيين المسجونين في العالم، يقبع ثلثهم في السجون التركية. كما تم غلق أكثر من
180 وسيلة إعلامية وفقدان ما يزيد على 2500 صحفي وعاملين آخرين في الإعلام لوظائفهم.