انتهت ولاية السلطان « سليم الثالث » بثورة بين الجنود غير المنتظمة، أراد تلافيها بإلغاء النظام الجديد الذى تسبب فى اشتعالها، وقام بصرف العسكر النظامية، بيد أن الجنود الثائرين خشوا أن يعود لتنفيذ مشروعه، فقرروا عزله عن السلطنة، حيث نودى فى ٢١ ربيع الآخر ١٢٢٢ هـ/ ٢٨ يونيو ١٨٠٧م بفصل السلطان سليم الثالث، وعزله من الولاية، وتوفى بعد ذلك بنحو عام سنة ١٢٢٣ هـ/ ١٨٠٨م .
السلطان الغازى « مصطفى خان الرابع »
وعزله وقتله !
وهو السلطان التاسع والعشرون، وتولى سنة ١٢٢٢ هـ/ ١٨٠٧م، وشبهه الأستاذ محمد فريد بأنه لم يكن إلا « كآلة » يديرها مبغضو النظام الجديد كيف شاءوا تبعًا لأهوائهم.
واستهلت ولايته أسوأ استهلال، فقد وصلت أخبار الثورة التى أطاحت بسلفه، إلى الجيوش العثمانية المنشغلة آنذاك بمحاربة الروس عند نهر « الطونة » (الدانوب)، ولما رأى الانكشارية أن قائدهم العام الصدر الأعظم « حلمى إبراهيم باشا » ـ لا يجارى سرورهم بالثورة وما أدت إليه، ولا يستحسنها، قتلوه وأقاموا مكانه « جلبى مصطفى باشا »، فوقع الفشل فى الجيوش .
وما لبث الخلاف أن شب بعد قليل بين رؤساء الثورة، واتفق « قباقبجى أوغلى » مع المفتى على عزل القائمقام مصطفى باشا، وعزلوه وأبعدوه خارج البلاد، وأقاموا مكانه من يدعى « طاهر باشا» وما لبث أن عُزِل فسافر إلى « روستجق » والتجأ إلى حاكمها
« مصطفى باشا البيرقدار »، وكان من حزب السلطان سليم الثالث المعزول، ويود إرجاعه لمنصة الحكم، فكاشف بذلك « جلبى مصطفى باشا » الصدر الأعظم الجديد، وأقنعه وباقى الوزراء بوجوب عقاب المفتى وقباقبجى أوغلى ـ على تهييجهما الجنود غير المنتظمة وعزل السلطان سليم والاستئثار بالسلطة، فأصدر الصدر الأعظم حكمًا بإعدام « قباقبجى مصطفى »، وانتدب لذلك «حاجى على » الذى خرج فى نحو مائة من الفرسان، حيث تمكنوا من القبض عليه وقتله .
ويروى أن السلطان « مصطفى خان الرابع » خشى على نفسه عندما علم بهذه الأنباء، فأمر بعزل المفتى وصرف جنود « قباقبجى مصطفى » التى عضدته على عزل السلطان « سليم الثالث »، وهنا أظهر « البيرقدار » الاكتفاء بذلك، ولم يكشف عزمه على إعادة السلطان سليم الثالث إلى «عرش الخلافة العظمى » !
وأمعن البيرقدار فى خداعه، فأظهر أنه عازم على العودة إلى « روستجق »، ولكنه ألقى القبض على « جلبى مصطفى باشا » الصدر الأعظم فى ٤ جمادى الأولى ١٢٢٣ هـ/ ٢٨ يونيو ١٨٠٨م، وتابع السير بجيوشه إلى السراى السلطانية طالبًا إعادة السلطان سليم الثالث إلى عرشه .
هنالك انتفض السلطان مصطفى خان الرابع، فأمر بقتله، وألقى جثته إلى الثائرين أملاً فى أن يكفوا عن الثورة، ولكن رد الفعل جاء على عكس ما يتصور، وهاجوا هياجًا شديدًا ونادوا على الفور بعزل السلطان، وحجزوه بنفس السراى التى كان قد حجز فيها السلطان سليم، ولم يكتفوا بعزله، فقاموا بقتله !
السلطان الغازى « محمود خان الثانى »
واستنزاف مصر تحقيقًا للطموح العثمانى!!
وهو السلطان الثلاثون وابن السلطان عبد الحميد الأول، وطال حكمه حتى سنة ١٢٥٤ هـ/ ١٨٣٩م، وافتتح عمله بتقليد « مصطفى باشا البيرقدار » منصب الصدارة العظمى، وأوكل إليه إعادة تنظيم الانكشارية وإجبارهم على اتباع نظامهم القديم المسنون من عهد السلطان « سليم القانونى »، فحقق بعض النجاح الجزئى معهم، ولكن أفضى الأمر فى النهاية إلى التمرد والعصيان والدخول فى سلسلة من المعارك، قتل فيها « مصطفى باشا البيرقدار»، وانتهت المعارك فى قصة طويلة بمحاصرة الانكشارية فى الآستانة، وضربهم بالمدافع، فلما رأوا الهلاك أضرموا النار فى جوانب المدينة، وكانت معظمها من الخشب سهل الاشتعال، فاضطر السلطان للإذعان لطلبات الانكشارية حتى ينقذ المدينة من الدمار .
وفى عهد السلطان محمود الثانى بدأ ظهور الحركة الوهابية وتوابعها بالحجاز، وشبت ثورة فى اليونان للمطالبة بالاستقلال، وألمّت بالجيوش العثمانية خسائر فادحة فى محاولاتها قمعها، وبدأ النحر فيما تفرض عليه دولة الخلافة العلية سلطانها فى جزر البحر الأبيض المتوسط، وفى سواحل بلاد الموره وسواحل اليونان، حتى لم يعد باقيًا للدولة العلية ـ آنذاك ـ من جميع سواحل اليونان إلا مدينة «مينا مودون » ومدينة « كورون »، وجعلت الدولة الأوروبية تنحر فى جسد الدولة العلية بما تمده لليونانيين بالمال والرجال لمقاومة الجنود العثمانية، وشكلت فى أوروبا عدة جمعيات لمد الثائرين بكميات ضخمة من الأسلحة والذخائر والعتاد، وتطوع كثيرون من أعضائها فى عداد المحاربين للدولة العلية، ومنهم كثيرون من مشاهير أوروبا وأمريكا، كواشنطون الابن ـ ابن محرر أمريكا، واللورد بيرون الشاعر الإنجليزى، وغيرهما، وجعلت هذه الدول تتداخل بين الباب العالى ومتبوعيها بحجة حماية اليونانيين فى الظاهر، ولفتح المسألة الشرقية وتقسيم بلاد دولة الخلافة فى الباطن، واشرأبت الأطماع إلى الآستانة ذاتها، وأرسلت فرنسا جيشًا عظيمًا لإتمام استقلال اليونان، واحتلت فرنسا ولاية الجزائر بدعوى منع تعدى قراصنة البحر (المسلمين فيما تدعيه) على سفنها التجارية، ساعيةً فى الواقع إلى اتخاذ مركز حربى لها فى شمال أفريقيا، وامتدت الأطماع الأوروبية إلى ولايات الدولة العلية بالشام، وحاصرت دولة الخلافة العثمانية العلية المشاكل من كل جانب .
فماذا فعلت ؟!
ابتزاز الدولة العلية
لخيرات مصر، وقوتها، لتحقيق طموحاتها!!
كان محمد على باشا، المنتدب المعين من الدولة العلية العثمانية، قد انفرد بحكم مصر، وأقصى الزعيم الوطنى الشعبى عمر مكرم حتى خلصه الموت منه، فمات منفيًّا بأوامر الباشا فى طنطا، بعيدًا عن بيته وآله بالساحل بالقاهرة، وإذ هو يدبر للتخلص من المماليك، جاءته أوامر دولة الخلافة العثمانية العلية، بالتأهب واتخاذ السبل لمواجهة الحركة الوهابية بالحجاز، وتجهيز جيش من المصريين طبعًا ـ لإنفاذه إلى الحجاز تلبية لأوامر الدولة العلية العثمانية، فطفق محمد على باشا يدبر معدات الحملة من أموال وخيرات المصريين ـ فى أوائل عام ١٨١١م / ١٢٢٦ هـ، وقلد قيادتها لابنه أحمد طوسون باشا فى مهرجان واحتفال فخم بالقلعة، وحرص محمد على باشا أن يدعو للحفلة المشهودة جميع الأمراء والبكوات ورؤساء المماليك .
مذبحة القلعة!
بيد أن محمد على كان يدبر للتخلص من رؤساء المماليك الذين اعتبروا دعوتهم للحفل علامة رضا، وبقى الرؤساء بقاعة الاستقبال مع محمد على حتى أذن مؤذن الرحيل، فقرعت الطبول وصدحت الموسيقى، وانخرط المماليك فى الموكب الفخم الخارج إلى الحجاز لمواجهة الوهابيين، وسار الموكب وفى أثره كبار المدعوين، منحدرًا إلى باب الغربى الواقع فى حضن الجبل من الجهة الغربية للقلعة، فى طريق ضيق وعر، حتى إذا ما اجتازت الباب طليعة الموكب ورئيس الشرطة والمحافظ ومن معه ثم « الوجاقلية »، حتى أغلق الباب إغلاقًا محكمًا من الخارج، ووجد المماليك أنفسهم محصورين، من ورائهم جنود الأرناءود، الذين سرعان ما ارتقوا الصخور المكتنفة للطريق الضيق، وأخذوا مكانهم عليها وعلى الأسوار والحيطان المشرفة عليه، قبل أن ينتبه المماليك فى بادئ الأمر إلى إغلاق الباب، وسرعان ما انهالت طلقات الرصاص من كل جانب على المماليك وهم محصورون فى هذا المكان الضيق، ودون أن تجديهم السيوف بعد أن تركوا بنادقهم وذخيرتهم لدواعى الاحتفال، وما هى إلا لحظات، حتى حصدتهم الرصاصات حصدًا، وحصدت من أرادوا الفرار بتسلق الصخور المحيطة بالطريق، ومنهم شاهين بك الألفى الذى تمكن فى عدة من مماليكه من تسلق الحائط والصعود إلى رحبة القلعة إلى عتبة قصر صلاح الدين، فعاجلته طلقات الجنود الأرناءود وألقته صريعًا، ولحق به سليمان بك البواب، الذى استطاع أن يجتاز الطريق إلى سراى الحريم غارقًا فى دمائه، حيث استغاث بالنساء صائحًا (فى عرض الحرم)، وكانت الاستغاثة بالنساء تكفى آنذاك لتجنب الهلاك، ولكن الجنود عاجلوه بالضرب حتى قطعوا رأسه، فى الوقت الذى وقف طوسون باشا على صهوة جواده منتظرًا انتهاء المذبحة، لا يجيب أحدًا ممن تراموا على أقدام جواده طالبين الأمان !
وهكذا، أبيد فى القلعة فى ذلك اليوم أربعمائة وسبعون من المماليك وأتباعهم، قتلوا جميعًا، ولم ينج منهم سوى « أمين بك »، نَجَّاه أنه كان فى مؤخرة الصفوف، فلما رأى انهمار النيران، صعد بجواده إلى المكان المشرف على الطريق، وبلغ سور القلعة، ومن هناك قفز بجواده من على ارتفاع ستين قدمًا، فتلقى الجواد الصدمة وتهشم لفوره، بينما كان أمين بك قد قفز من على صهوته عندما اقتربا من الأرض، فنجا وانطلق فارًا متخفيًا إلى جنوب سورية، وهو من عرف فى رواية جرجى زيدان بالمملوك الشارد .
ولا شك أن المماليك محسوب عليهم عدد من المساوئ والمضار التى تسببوا فيها، إلا أن قتلهم جملة وغدرًا فى هذه المذبحة الجماعية، أمر لا تقره شريعة، ولا يقره قانون، ولا تقره الإنسانية أيًا كانت دوافعه والمغانم التى ينتظرها محمد على من الفتك بهم على هذا النحو !
إلى الحجاز
والحرب الوهابية
بتكليف من دولة الخلافة العثمانية العلية!
استمرت هذه الحرب التى استنزفت خيرات مصر وصفوة رجالها وقوتها ـ ثمانى سنوات، من سنة ١٨١١م / ١٢٢٦هـ ـ إلى سنة ١٨١٩م / ١٢٣٥ هـ .
وفى الوقت الذى كانت دولة الخلافة العثمانية العلية، تقف موقف المتفرج، وتتابع من بعيد مشاهد وفصول هذه الحرب، كان المصريون يخوضون حربًا من أشق الحروب التى خاضوا غمارها، وأطولها مدى، ومن أكثرها ضحايا، وجردت مصر فيها ـ اتباعًا لأوامر الدولة العلية العثمانية ـ حملات عدة، كلفتها أرواح بنيها، فضلاً عما بذل فيها من أموال مستقطعة من خيرات مصر، تلبيةً فى الواقع لطموحات وأطماع دولة الخلافة العلية !
تحملت مصر فى هذه الحروب كثيرًا من الشدائد والأهوال، ما بين قطع المسافات البعيدة المترامية بين الفيافى والقفار، وتلقى المتاعب والأوصاب من شدة القيظ ووعورة الطريق، فضلاً عن لهيب المعارك، تحملت مصر فيها خسائر جسيمة، وتحملت ما هو أعظم: خلق عداوات كانت فى غنى عنها، وكان أولى بدولة الخلافة أن تصانع الحجازيين، وتستولد منهم من يقاوم الحركة التى رأتها ضارة بالبلاد والعباد، وأن تضطلع هى بالمسئولية، ولكنها استغلت مصر وخيراتها وقوتها ورجالاتها أسوأ استغلال، تحقيقًا لمطامعها، فضلاً عما تسببت فيه هذه الحرب من عداوات أو حساسيات على أحسن الفروض .
بيد أنه هكذا كانت دولة « الخلافة العثمانية » !!
وحسبنا هذا دون الخوض فى تفاصيل هذه الحروب، فهو يخلق المزيد من الحساسيات !
ثـورة اليونـان
واستنزاف دولة الخلافة
لخيرات مصر وقواتها وأرواح رجالاتها !
واجهت دولة الخلافة العلية العثمانية، ثورة كبيرة باليونان التى نهضت تطلب استقلالها عن الدولة العلية، وتكبدت الجيوش العثمانية خسائر فادحة فى كافة المحاولات التى اصطنعتها لقمع هذه الثورة، فلما أعيتها الخسائر والحيل، نظرت كالعادة إلى مصر، لتستنزفها وتستنزف خيراتها وقوتها وأرواح بنيها، ولاقت بغيتها فى محمد على باشا، واليها المعين على مصر، واثقة من أن حرصه على موقعه، سيدفعه دفعًا إلى قبول ما تمليه عليه الدولة العلية.
ولم يسع محمد على باشا إلا الإذعان لمطالب أو أوامر ! ـ الدولة العلية، خوفًا من حمل امتناعه أو تراخيه على أنه عصيان للدولة العلية، ومؤشر للرغبة فى الاستقلال عنها، فيما يبدو أن رغاب دولة الخلافة العثمانية كانت مقدمة «عند محمد على» على مصالح مصر الخاصة، وأن انصياعه للباب العالى ـ آنذاك ـ اقترن باستنزاف خيرات مصر وقوتها وأرواح شبابها ورجالها.
الأسطول المصرى
بدأت استعانة دولة الخلافة العثمانية بالأسطول المصرى، فأرسل السلطان محمود الثانى إلى محمد على باشا بتجريد الأسطول المصرى لتطهير البحر الأبيض الذى استفحل فيه أمر السفن اليونانية، من قرصنة هذه السفن، وكان ذلك فى سنة ١٨٢١ م، أى قبل الحملة المصرية على الموره .
ويورد الرافعى فى كتابه عن « عصر محمد على » ـ نقلاً عن كتاب المسيو «مانجان »، أن محمد على أعدَّ الأسطول فى الإسكندرية، وأقلع منها فى ١٠ يوليو ١٨٢١م (١٢٣٧ هـ)، وكان مؤلفًا من ١٦ سفينة كاملة السلاح والعتاد، وبها ثمانمائة مقاتل بقيادة « طبوز أوغلى »، فاتجه الأسطول إلى رودس لمطاردة السفن اليونانية، والتقى بالأسطول العثمانى فى الدردنيل، ثم عاد إلى مصر فى مارس ١٨٢٢م (١٢٣٨ هـ)، تأهبًا للحملة إلى جزيرة كريت.
واستمرارًا فى إذعان محمد على لمطالب أو أوامر الباب العالى، جهز قوة فى نحو سبعة عشر ألفًا من المشاة والفرسان والمدفعية، تأهبًا للقيام بعدة مهام، تبدأ بجزيرة
« كريت » التى شبت فيها ثورة سنة ١٨٢١م / ١٢٣٧ هـ، لتقفى ببلاد الموره، ثم بجزر الأرخبيل .
الحملة المصرية الأولى إلى كريت
أقلعت هذه الحملة من الإسكندرية فى نحو خمسة آلاف جندى، طبقًا لرواية الرافعى، بقيادة حسن باشا، قاصدةً جزيرة كريت، حيث تم إنزال الجنود إلى البر فى يونيو ١٨٢٢م (١٢٣٨هـ)، واستمرت الحرب سجالاً إلى سنة ١٨٢٣م / ١٢٣٩هـ، وقاتل المصريون قتالاً شديدًا، وأنقذوا الحاميات التركية المحصورة فى القلاع، ومات حسن باشا خلال الفتح، فخلفه حسين بك فى قيادة الجند، واستمرت الحرب حتى سكنت الثورة واستتبت السكينة بالجزيرة، بعد أن فر الكثيرون إلى الجزر اليونانية .
الحملة على الموره
سبق تكليف محمد على باشا بالقيام بها، إصدار دولة الخلافة العثمانية العلية، فرمانًا فى ٥ رجب ١٢٣٩هـ /٦ مارس ١٨٢٤م، لترضى به أطماع وطموحات محمد على، فعينته واليًا على جزيرة « كريد » (كريت) وعلى إقليم « الموره »، وهما بؤرتا الثورة .
ويرى الأستاذ الرافعى، أن السلطان العثمانى محمود الثانى، استهدف غرضين: أولهما الاستعانة بالجيش المصرى فى إخماد ثورة اليونان، وثانيهما أن يصرف محمد على باشا عن الاستمرار فى دعم وتنظيم جيشه على الطراز الحديث، وخشية أن يقوى ـ بتعاظم قوته ـ على دولة الخلافة ويحقق فكرة الانفصال عنها وإعلان الاستقلال .
ويبدو أن ما أبطنه السلطان العثمانى، كان يتلاقى فعلاً مع أغراض محمد على، فقد وسع الفرمان نطاق الدولة المصرية التى يجلس على عرشها محمد على، ويبسط نفوذها فيما وراء البحار، ومن ثم يرفع من شأن محمد على، ويعطيه الحافز لتلبية استنجاد الدولة العلية بجيشه مثلما استعانت به فى الحجاز .
واتفقت رواية الأستاذ محمد بك فريد فى كتابه: « الدولة العلية العثمانية »، هى ورواية الأستاذ الرافعى فى كتابه « عصر محمد على » ـ اتفقتا على أن الحملة تألفت من سبعة عشر ألفًا من المشاة , مع أربعة بلوكات من المدفعية , وسبعمائة من الفرسان , وأن القيادة العليا كانت لإبراهيم باشا , وعين محمد على لنقلها عمارة من ٥١ سفينة حربية و١٤٦ سفينة نقل , وأقلعت من الإسكندرية فى ١٩ من ذى القعدة ١٢٣٩ هـ / ١٦ يوليو ١٨٢٤ م , ولم تقصد رأسًا إلى جزيرة الموره , بل اتجهت إلى مياه « رودس » , وفيها ترك إبراهيم باشا ـ ترك سليمان بك الفرنساوى مع حامية لحفظ الجزيرة من تعدى الثائرين , واتجه منها إلى خليج « ماكرى » على شاطئ الأناضول للالتقاء بالأسطول العثمانى الذى نيط به مطاردة السفن اليونانية فى بحر الأرخبيل وتطهيره من قرصنتها .
ليس من أهداف هذه السطور بيان تفاصيل المعارك التى خاضتها القوات المصرية الباسلة , ولا البطولات التى حققتها فى هذه الحروب التى دفعت إليها من دولة الخلافة العثمانية تحقيقًا لأطماعها هى , والتى لم تنقطع عن اشتهائها على حساب الدول والشعوب الداخلة فى رعويتها .
وحسبنا أن نعرف إجمالاً أن القوات المصرية خاضت من أجل أطماع دولة الخلافة , حروبًا ومعارك فى خليج « ماكرى » , وفى ميناء « بودروم » على شاطئ الأناضول فى أواخر أغسطس ١٨٢٤ م , ١٢٤٠ هـ , وظهر خلال المعارك البحرية الفارق جليًّا بين فوضى الأسطول العثمانى , ونظام الأسطول المصرى الذى لاقى بمهارة هجمات سفن الثوار اليونان , وهو الذى صمد بينما لاذ الأسطول التركى العثمانى بالفرار , واشتبك الأسطول المصرى بمياه جزيرة « سافز » فى معركة شديدة مع السفن اليونانية غرقت فيها
سفينتان مصريتان , حيث أدرك إبراهيم باشا أن الحرب البرية فى شبه الجزيرة الموره أنسب , فعاد أدراجه إلى ميناء « مرمريس » جنوبًا , ثم إلى جزيرة كريت فى ديسمبر
٨٢٤ ١م /١٢٤٠ هـ .
وعلى مدى خمسة شهور تحملت القوات المصرية جهودًا شاقة , وخاض أسطولها معارك رهيبة بنحو ٢٨٠ سفينة نقل وثمانية وثلاثين ألف مقاتل , غير السفن الحربية , وقبل أن يتحقق لها الأسطول المتكامل , ولم تخسر سوى سفينتين حربيتين .
الإنزال على بر الموره
أقلع إبراهيم باشا من كريت إلى ميناء « مودون » جنوبى الموره , حيث نجح بعد لأىٍ فى إنزال الجنود المصريين إلى البر فى فبراير ١٨٢٧م /١٢٤٣ هـ وهناك وجد القوات التركية العثمانية فى حالة بائسة , ولم يبق للدولة العلية سوى ميناء « مودون » التى نزلت فيه القوات المصرية وميناء « كورون » المحاصر باليونانيين , وما لبث المصريون أن فتحوا مدينة « ناورين » أو «نافارين » فى مايو ١٨٢٥ م / رمضان ١٢٤٠هـ .
وتطورت المعارك ما بين تعرض السواحل المصرية لهجمات السفن اليونانية التى أحفظها اشتراك مصر فى الحرب , وبين فتح « كلاماتا » التى اعتصم فيها الثوار اليونانيون بعد سقوط « نافارين » , ثم فتح مدينة « تريبولتا » عاصمة الموره فى يونيو ١٨٢٥ م / ١٢٤١ هـ , ثم فتح مدينة « ميسولونجى » فى أبريل ١٨٢٦ م / ١٢٤٢ هـ , ثم اتساع دائرة الحرب بتدخل الدول الأوروبية إلى جانب اليونان , وتجهيز حملة مصرية لإمداد إبراهيم باشا أقلعت من الإسكندرية إلى « ناقارين » فى أوائل أغسطس ١٨٢٧ م /
١٢٤٣ هـ , حيث دارت معركة « نافارين البحرية » مع أساطيل الحلفاء فى أكتوبر ١٨٢٧م/ ١٢٤٣ هـ , وفيها تم تدمير القوة الرئيسية للأسطول المصرى , وليحدث الخلاف بين وجهة نظر تركيا العثمانية التى ركبها العناد الضرير , وبين مصر التى كان لابد فى النهاية أن يضيق القائمون عليها من عماء إشراك مصر فى حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل , فضلاً عن مقاومة حق اليونان فى الاستقلال عن رعوية الدولة العلية العثمانية , وهو ما كان على مصر أن تسعى إليه لنفسها بدل استنزافها فى حروب ضروس خدمة لأطماع دولة الخلافة العثمانية , وضد مصالح مصر والمصريين !!
الزج بمصر فى حروب الشام !
هرب كثيرٌ من المصريين إلى الشام من وطأة السخرة والضرائب الفادحة التى جعل محمد على باشا يفرضها لتحقيق كفاية صناعية , ودعمًا للجيش وتسليحه , وللأسطول الذى خسر جانبًا من قوته وحيويته فى حروب اليونان التى أقحمت فيها مصر , فلما كثرت هجرة المصريين إلى الشام, طلب محمد على باشا من والى عكا إرجاعهم , فامتنع بدعوى أن الإقليمين: الشام ومصر ـ تابعان لسلطان واحد هو سلطان دولة الخلافة العثمانية .
أمر محمد على باشا بتجهيز الجيوش للسفر إلى بلاد الشام فى سنة١٨٣١ م /١٢٤٧ هـ عن طريق العريش , وعن طريق البحر , وبعد حصار مزدوج من البر والبحر , نجح المصريون فى دخول عكا , بيد أن السلطان محمود خان الثانى , ما كاد يأتيه الخبر , حتى أفصح عن العداء الكامن , فجمع سريعًا نحو ستين ألف مقاتل بقيادة حسين باشا , ووجههم إلى الشام لملاقاة القوات المصرية !
وانتهت المعارك فى تفصيل يطول , بانتصار القوات المصرية على قوات الدولة العلية العثمانية انتصارًا عظيمًا , فى ربيع الأول ١٢٤٨ هـ / يوليو ١٨٣٢ م , فسارع السلطان العثمانى «محمود خان الثانى » بتجهيز جيش آخر قلد رئاسته إلى « رشيد باشا » الذى اشترك مع إبراهيم باشا فى حرب « موره » , وأرسله إلى الأناضول لصد هجمات إبراهيم باشا عن القسطنطينية , فانتصرت القوات المصرية وأخذت رشيد باشا أسيرًا فى ٢٧ رجب ١٢٤٨ هـ / ٢١ ديسمبر ١٨٣٢ م .
وسرعان ما تفشى القلق من تنامى قوة المصريين , سواء لدى دولة الخلافة العثمانية , أم الدول الأوروبية التى جعلت تتحسب من أن يكون قصد محمد على باشا احتلال الآستانة وإسقاط عائلة بنى عثمان , والاستئثار لنفسه بالخلافة الإسلامية .
معاهدة كوتاهية
إثر تقدم الجيش المصر إلى دمشق ( يونيو ١٨٣٢ م / ١٢٤٨ هـ ) , ثم انتصاره فى واقعة حمص ( ٨ يوليو ١٨٣٢ م / ١٢٤٨ هـ ) زاد جزع الباب العالى , وزاد الجزع بعد انتصار الجيش المصرى فى واقعة «بيلان» فى ٣٠ يوليو ١٨٣٢ م / ١٢٤٨ هـ , وتقدمه بلا مقاومة إلى « حماه » ثم «حلب » حيث جاءته الوفود من « أورقا » ومن « ديار بكر » , فحشد جيشًا ضخمًا التقى بالقوات المصرية فى « واقعة قوينا » فى ديسمبر ١٨٣٢م/ ١٢٤٨هـ، حيث انتهت المعارك بانتصار الجيش المصرى وهزيمة الجيش التركى العثمانى بعد معركة هائلة وفاصلة، لأنها فتحت الطريق أمام الجيش المصرى إلى الآستانة، فكان أن ارتعدت فرائص السلطان العثمانى محمود خان الثانى .
وسرعان ما تدخلت الدول الأوروبية، لفتح باب المسألة المصرية، وانتهت جهود الدول الأوروبية وفى مقدمتها فرنسا، لإبرام معاهدة « كوتاهية »، أسست لصلح هش فى الواقع، سرعان ما تهاوى، ودار ما يسمى بحرب الشام الثانية، ولم تتلاق وجهات النظر رغم المداولات الطويلة، لتدور « معركة نصيبين »، وليحقق المصريون نصرًا مؤزرًا فيها على قوات الخلافة العثمانية فى ربيع الثانى ١٢٥٥ هـ / يونيو ١٨٣٩م، إلا أن أخبار هذه المعركة لم تصل إلى السلطان محمود خان الذى توفى فى ١٩ ربيع الثانى سنة ١٢٥٥ هـ، أول يوليو ١٨٣٩م .
السلطان « عبد المجيد خان »
وهو السلطان الحادى والثلاثون، آلت إليه الخلافة بعد نيف وإحدى وثلاثين سنة أمضاها محمود خان الثانى على عرش الدولة، ولم يكن سن الخليفة الجديد قد بلغ الثامنة عشرة من عمره، فزاد الاضطراب والارتباك فى الدولة بعد الانتصارات المتتالية التى حققتها القوات المصرية على القوات التركية العثمانية، انتهاءً بالانتصار الضخم فى « معركة نصيبين ».
بيد أن الدول الأوروبية سرعان ما تجاوزت خلافاتها، وتجمعت وتواطأت على عقد معاهدة فى ١٥ يوليو ١٨٤٠ م / ١٢٥٦ هـ، كان أول بنودها إلزام محمد على باشا بإعادة كل ما فتحه إلى الدولة العلية العثمانية، ولا يحتفظ إلا بالجزء الجنوبى من الشام، مع التنصيص على خروج «عكا» من هذا القسم .
وكان فحوى ما تجمعت عليه الدول الأوروبية، مصادرة القوة المصرية، وإلزام واليها من الآن فصاعدا ألا ينشئ سفنًا حربية إلا بإذن خصوصى، وفى مقابل ما منّت به الدول الأوروبية على دولة الخلافة العلية، أعطت محمد على باشا وأسرته حفنة من الامتيازات، على رأسها أن تكون مصر ولاية له تنتقل منه بالإرث إلى أولاده وأولاد أولاده الذكور، على أن يتم تقليد منصب الولاية من الباب العالى، وقد أقرت الدول الأوروبية هذا التحوير بمقتضى لائحة فى ١٨ ربيع الأول ١٢٥٧ هـ /١٠ مايو ١٨٤١ م، تبعها فرمان آخر أصدرته الحضرة الشاهانية فى أول يونيو ١٨٤١ م / ١٢٥٧ هـ ؛ ثم فرمان ثالث صدر فى غرة جمادى الآخر سنة ١٢٥٧ هـ / ٢٠ يوليو ١٨٤١، ألزم الحكومة المصرية بأن تدفع للدولة العلية العثمانية إتاوة سنوية قدرها ثمانين ألف كيس، وقد استمر الخراج بهذه الكيفية حتى سنة ١٢٨٢ هـ / ١٨٦٥ م، ثم زيد إلى مائة وخمسين ألف كيس، وتعنى سبعمائة وخمسين ألف جنية عثمانى، وجعل نظام وراثة العرش يتعدل بفرمانات متتالية، وتزاد الإتاوة من وقت إلى آخر، حتى تعهد الخديو توفيق عن نفسه وعن خلفائه فى الحال والاستقبال ـ بأن تدفع الحكومة المصرية للخواجات روتشيلد وأولاده بلوندره وروتشيلد إخوان بباريس والبنك الملوكانى العثمانى ـ مبلغًا سنويًا يزيد عن ٢٨٠٦٢٢ جنيه إنكليزى، ولمدة ستين سنة تبدأ من ١٠ أبريل ١٨٩١ م / ١٣٠٩ هـ .
وهكذا تحملت مصر الأعباء وخسرت فى الحالين، تحملت ما بذلته فى الحروب خدمة لدولة الخلافة العلية العثمانية، ثم عادت تدفع ثمن انتصاراتها التى حققتها بأرواح ودماء بنيها .
وسوف نرى كيف لاقت مصر بعد ذلك جزاء سنمار، حين أغار الأسطولان الإنجليزى والفرنسى على الإسكندرية فى يوليو ١٨٨٢ م، وحين بدأ الاحتلال الإنجليزى لمصر عام ١٨٨٢ م / ١٣٠٠ هـ، دون أن تحرك دولة الخلافة العثمانية ساكنًا، بل أعانت الأعداء وخذلت مصر الداخلة آنذاك فى رعويتها، وأصدرت فرمانا بإعلان عصيان زعيمها أحمد عرابى الذى يتصدى للهجوم البريطانى، وقد وقعت كل هذه المخازى فى عهد السلطان الخامس والثلاثين: « عبد الحميد الثانى بن عبد المجيد »، والذى امتد حكمه من سنة ١٨٧٦م/ ١٢٩٣ هـ، حتى سنة ١٩٠٩ م / ١٣٢٧ هـ !!!