الأحد 16 يونيو 2024

أين حزب حسن فتحى السياسى؟ أم أن السياسة لدينا ليست إلا مجرد ثرثرة فارغة؟

5-4-2017 | 12:41

بقلم – د. محمد فتحى

قبل أيام احتفلت «جوجل» بالذكرى ١١٧ لميلاد المعماري الأشهر حسن فتحي بأن وضعته على واجهة محركها البحثي في العالم كله.. وبعيدا عن قصائد الفخر التي اعتدناها، وليس بهذه المناسبة فقط، بل أساسا للدورالعظيم الذي مازال يلعبه حسن فتحي على مستوى العالم كله.. أبادر بالسؤال: أين حزب حسن فتحي السياسي في واقعنا الراهن؟ أم أن مفهوم السياسة لدينا أنها ليست سوى مجرد ثرثرة فارغة، أو إن شئنا الصراحة والدقة قاتلة.

ودعني ألج إلى ذلك من أطراف بعيدة ولكن بالغة الدلالة.

عام ١٩٦٨ التحقت للعمل بمجمع الحديد والصلب في حلوان. شكل العمل هناك صدمة هندسية مروعة بالنسبة لي، رغم تعليم هندسي متقدم حينها، ورغم اطلاعي لطبيعة عملي الهندسي السابق (في شركة النصر للتصدير والاستيراد) على أحدث ما يجري في العالم.

كانت الوحدة الجديدة التي أعمل فيها تحول بلاطات الصلب الساخنة من سمك يصل ٢٠سم إلى شرائط يصل سمكها ميلليمترين، وكان ذلك يتطلب أن يتم التعامل مع الصلب ودرجة حرارته تناهز ١٣٠٠ درجة مئوية، الأمر الذي لا يحتمل أدنى تأخير أو توقف على خط الإنتاج، حتى لا يبرد المعدن (درجة حرارة الجو تدور حول الثلاثين درجة مئوية) بدرجة تزيد على المقنن، مما يسبب مشاكل وخيمة لاحصر لها، أهونها تحول المعدن “الثمين” إلى خردة! لهذا كانت أعطال الأقسام المختلفة تسجل ويتم المحاسبة عليها بالدقيقة.. وقد شحذ إدراكي لدينامية هذا الموقف الحساس وحرجه مسئولية كبيرة للقسم الذي أرأسه في التحكم بدرجة حرارة الصلب. ورويدا بت أرى في نمط عمل وحدتنا الإنتاجية شيئا ما يجسد طبيعة العصر التنافسية الدينامية.

انهيارات سويسرية وسوفييتية

لقد ظل السويسريون حتى أواخر الستينيات يهيمنون على صناعة الساعات.. وكان نصيبهم في سوق الساعات العالمي يناهز ٧٠٪، بينما تخطت أرباحهم نسبة ٨٠٪ من أرباح هذا السوق. ولم تكن أية تخمينات آنئذ تقود إلا لاستمرار الساعات السويسرية على القمة، فهي أكثر الساعات العالمية متانة ناهيك عن كونها الأكثر دقة وجمالا وجاذبية و... .

وخلال الستينيات كانت الرقائق الإلكترونية قد انتشرت وذاع صيتها. وفي السوق الدولي للساعات عام ١٩٦٧ عرض معهد البحوث السويسري ساعة جديدة قام بتطويرها اعتمادا على هذه الرقائق، تتحرك وتعمل ببطارية كوارتز إلكترونية.. أي ساعة ليس بها زنبرك أو آلية للملأ أو أجزاء ميكانيكية أو... . ونظرا لكونها هكذا “هفية” لا ثقل لها ولا معدن فيها، ونظرا لكونها بدعة جديدة غير تقليدية- أو ليست بنت أصول وحسب ونسب- مر عليها معظم الناس وحتى صناع الساعات السويسريين مرور الكرام، وعاملوها كلعبة أطفال لا قيمة لها.

لكن “قناصة” شركة “سيكو” اليابانية الموجودين يومها في السوق التقطوا البدعة برؤيتهم الثاقبة، وبتفكيرهم وعملهم الوثاب قاموا بتصنيع هذا النوع الجديد من الساعات وتسويقها على نطاق تجاري، وتبعتهم مصانع يابانية أخرى في استخدام الرقائق الإلكترونية لتطوير طرازات مختلفة من الساعة الجديدة. وهكذا أُخذ السويسريون- الذين اخترعوها- على غرة، وهم يستكينون إلى أكاليل غار ساعاتهم القديمة. ولم يحل عام ١٩٨٠ حتى كان نصيبهم في سوق الساعات العالمي قد تراجع إلى ١٠٪.. لا ليتحولوا إلى لاعب لاوزن له في هذه الصناعة فقط، وإنما ليصبح الأمر كارثة على المستوى القومي، أدت إلى فقدان ٨٠٪ من فرص العمل في ميدان صناعة الساعات والمجالات المرتبطة به، وضياع الموارد، و... .

أقول أني كنت أرى في دينامية وحرج نمط العمل بوحدة الدرفلة على الساخن التي أعمل فيها شيئا ما يجسد طبيعة العصر، ولهذا ظل اهتمامي معلقا بوحدة إنتاجية أخرى، كانت مازالت في طور البناء بجوار وحدتنا في مجمع الحديد والصلب، هي وحدة “الصب المستمر”.. كان الاتحاد السوفييتي قد اخترع طريقة جديدة لصب الصلب تتفوق كثيرا على ماكان متبعا قبلها من طرق، وتتعامل مع درجات حرارة أعلى من درجات الحرارة في وحدتنا الإنتاجية، ويتسم العمل فيها بحرج ودينامية أكبر، لأنها تعتمد على صب الصلب (السائل) وتشكيله على نحو مستمر.

وفي إطار اهتمامي كان أول ما سعيت إليه عند زيارتي لمصنع للحديد والصلب، خلال أول زيارة لي للاتحاد السوفييتي (١٩٧١)، أن أرى وحدة “الصب المستمر”، الرمز الذي أراه الأكثر تمثيلا لروح العصر. وكانت المفاجأة أن المصنع لا يستخدم هذه الطريقة. وزادت المفاجأة غرابة حين سألت عن الوحدة في مصنع سوفييتي آخر، لأتلقى الإجابة نفسها: “لا يوجد لدينا صب مستمر”. وحين دققت في الاستفسار لم أظفر بغير رد اعتبرته دعائيا: “إن الاتحاد السوفييتي حين يبني مصنعا في الخارج يبنيه على أحدث طراز، بينما المصانع التي تراها حاليا بنيت قبل اختراع طريقة الصب المستمر”.

وهيأت الظروف لي بعد ذلك (١٩٧٤) أن أمارس عملا صحفيا في موسكو، وأن أرى الأمور بنفسي على نحو أوضح، فوجدتني أمام لغز حقيقي. لقد اخترع السوفييت طريقة “الصب المستمر” المبهرة، واشترت الولايات المتحدة واليابان و... براءة الاختراع من السوفييت، وحولت هذه البلدان معظم مصانع الحديد والصلب فيها إلى العمل بالطريقة الجديدة، بينما ظلت معظم المصانع السوفييتية تعمل بالطرق القديمة، والآلة الدعائية السوفييتية تكتفي بالطنطنة بالاختراع وشراء الرأسماليين لبراءته، مؤكدة تقدم وتفوق النظام الاشتراكي الذي حقق الاختراع و... .

ولم أكن في موقعي الجديد بحاجة إلى سؤال أو دعايات فقد بات بين يدي أدوات الوصول إلى إجابة.. إن المصانع السوفييتية اعتادت على الطرق القديمة لصب الصلب وتشغيله، وتحقق بها معدلات إنتاجية مرتفعة (لكنها متدنية مقارنة بنتاج التقنية الجديدة)، ويحصل العاملون فيها بالتالي على حوافز إنتاج مرتفعة جدا. والانتقال إلى الطريقة الجديدة سيؤدي بالطبيعة إلى رفع الأهداف الإنتاجية، وستصحبه مشاكل البدايات، الأمر الذي يهدد الحوافز المرتفعة، ومن هنا الاستنامة إلى الطريقة القديمة بأهدافها المتواضعة، لضمان تجاوزها، والحصول على حوافز “التفوق!!”، و... .

وهكذا أدركت أن “الإنجاز السوفييتي” لم يتم في إطار “دائرة إبداع” متكاملة تتواصل حلقاتها في شكل سلس، يقود إلى رقي متواصل.

ورغم احترامي لكثير من الأسباب التي تثار حول انهيار الاتحاد السوفييتي، أؤكد أن السبب الرئيسي هو “لغز أو عقدة الصب المستمر” (مناخها ومقدماتها وأسبابها ونتائجها)، إذا عممنا مثاله على كل مجالات الحياة.. والعقدة التي أقصدها على وجه التحديد هي الارتباط بالماضي على نحو مُشل، وعدم توافر إمكانات التعامل بشكل دينامي صحيح مع متغيرات الواقع، ولا على التطلع الوثاب إلى المستقبل، ناهيك عن عدم اكتمال دائرة الإبداع أو عدم الوصول إلى التوازن الدينامي الذي يؤدي إلى التقدم، رغم وجود المثالب هنا أو هناك.

الروح الوثابة

والحديث عن الروح الوثابة هو ما يدفعنا إلى الإشارة هنا إلى تجربة أخرى هي التجربة الصينية. فهذه الروح هي التي تقف وراء السبحة الإلكترونية الصينية.. ووراء فانوس رمضان الصيني (فانوس وحوي ياوحوي العربية إياها!). إنه مجرد رمز لروح العصر وما تحتاجه مجاراته والعيش فيه من يقظة وعمل وفعل وثاب، فالفوانيس الصينية- كالساعات اليابانية من قبلها- تنطوي على اليقظة للقفزات التكنولوجية الكبرى (الرقائق الإلكترونية)، التي تلقي بظلها على كافة مجالات الحياة، وتعي سياسات دراسات السوق وتكثيف النمو وضغط النفقات وتحسين الإنتاجية، من أجل قدرة أكبر على المنافسة في الأسواق المحلية والخارجية. وذلك رغم مافي الصين من مثالب الاقتصاد الاشتراكي أو المختلط والقطاع العام والتخطيط المركزي والكثافة السكانية والعمالة الزائدة و... .

لكن ما علاقة ذلك بحسن فتحي..

لا بأس من حكاية أخرى لمهندس أمريكي هو مايكل ميرفي: “عندما اقتربت امتحاناتي النهائية، قررت أخذ استراحة وذهبت لمحاضرة ناشط رائد فيما يخص صحة الفقراء حول العالم هو د. بول فارمر. فوجئت بطبيب يتحدث عن الهندسة المعمارية: المباني لدينا تزيد من مرض الناس وخصوصاً الفقراء إذ تسبب لهم الأوبئة.. المريض الذي يأتي ليعالج ساقه المكسورة ينتظر في ممر مكتوم، ويخرج وهو يحتاج لعلاج مرض السُلَ”.

وهكذا فكر مايكل ميرفي في بناء نوع جديد من المستشفيات تطل ممراته على المناظر الخارجية وتتيح للناس التنزه فيها؟ فإذا كان من الصعب بمكان الحصول على الكهرباء ومكيفات الهواء، والموجود منها لا يعمل إلا نادراً، فماذا لو أمكننا بناء مستشفى يتم تهويته عن طريق الطبيعة الخلابة ... .

وثبت بالفعل أن التصاميم البسيطة المرتبطة بالبيئة يمكنها، بحد ذاتها، خلق مستشفى يعالج المرضى. وتم إنشاء المباني بطريقة مختلفة عما تعلمه ميرفي: “عندما أردنا حفر قمّة لأحد الهضاب ظهر أن استخدام الجرافة مكلّف، كما أنه يصعب استحضارها.. اقترح الروانديون إتمام العمل يدوياً بطريقة يدعونها “أوبديهي” وتعني المجتمع يعمل من أجل المجتمع.. مئات من الناس قدموا حاملين مجارفهم ومعاولهم. وحفرت الهضبة بنصف الوقت والتكلفة مقارنةً باستخدام الجرافة!”.

وبدلاً من استيراد الأثاث، شكّلوا مايشبه الورشة الشعبية فأحضروا نجارين خبراء لتدريب الآخرين على كيفية صنع الأثاث يدويّاً في موقع العمل (قبل ١٥ سنة فقط كانت حروب الإبادة الجماعية تجري في المكان على قدم وساق).

لقد استخدموا طريقة البناء من أجل الشفاء، لا للمرضى وحدهم، بل للمجتمع ككل. وتتكون الطريقة من أربع نقاط:

وظف محليّاً

اجعل مصادرك من منطقتك

درَّب أينما تستطيع

والأهم من ذلك كله فكر بكل قرار يتعلق بالتصميم كفرصة لاستثمار هويّة الأماكن التي ساعدت في بنائها.

وهذه نفس خطوط عمارة حسن فتحي.

وليس الأمر خاص بمستشفيات في رواندا بل حراك سياسي معماري امتد إلى منشآت في مالاوي والكونغو و...، بل وامتد إلى الولايات المتحدة نفسها.. يقول مايكل ميرفي: “وحتى في مدينة بيكيبسي في الولايات المتحدة الأمريكية فكّرنا بالبنية التحتية الصناعية القديمة. وتساءلنا: هل يمكننا استخدام الفنون والثقافة والتصميم لإحياء المدينة، مع كل مدن “رست بَلت” الأخرى عبر الولايات، بحيث نحولها إلى مراكز من أجل الابتكار والتنمية؟ وفي كل مشروع كنا نسأل سؤالا بسيطا: ما الذي يستطيع المهندس فعله؟ واضعين بعين الاعتبار كيف يمكننا طرح الوظائف، كيف يمكننا جعل مصادرنا محلية وكيف يمكننا استثمار كرامة المجتمعات التي نخدمها”.

ولا يعمل المعماريون كمحركات للتغيير على شاكلة حسن فتحي في إفريقيا وأمريكا الشمالية وحدهما، فالأمر يمضي على قدم وساق في مختلف مناطق العالم، ففي تشيلي (أمريكا اللاتينية) مثلا يعمل المهندس اليجاندرو آرفينا، الذي تدور فلسفته حول مشاركة الناس في عمارة منشآتهم، حيث يقوم بتغيير واقع المناطق العشوائية في المدن التشيلية عن طريق الاعتماد على تصاميم معمارية يوفر فيها الإطار المعماري، على أن يتولى سكان العشوائيات باقي البناء... .

لقد وصف ريفيور أستاذ العمارة بجامعة أريزونا الأمريكية حسن فتحي بأنه شاعر العمارة الإنسانية وفيلسوفها، لأن عمارته ليست مجرد بيوت يسكنها الناس، بل “تجليات” لخصوصية ثقافية شعبية، تجعلها من مكونات الشخصية الوطنية، وملمحا أساسيا من ملامحها. وذكرت حيثيات منح حسن فتحي الميدالية الذهبية لاتحاد المعماريين الدولي (٩٨ دولة) أن ذلك تم: “لعمله على بناء بيئة معمارية أفضل، ولقدرته على الالتزام بالجذور الثقافية للعمل المعماري وإعطائها قيمتها المناسبة. إن مساهمات حسن فتحي عديدة، ولكن أهم مافيها الإخلاص الذي تميز به في كل جوانب ممارسته المعمارية”.

لقد أدرك الفيلسوف السياسي حسن فتحي أن العمارة ليست علم قواعد البناء بقدر ماهي مستودع لثقافة الوطن وقيمه، بصفتها فنا من ألصق الفنون بالإنسان، ومن هنا فهي تصوغ وجدان المجتمع وذوقه. كما أدرك أن مصر ليست خالدة لمجرد بقاء أحجارها وأبنيتها، ولكنها خالدة للتراث الحي الذي تحمله، وستظل تحمله، هذه الأحجار.

لقد ظل المهندس النابغ حسن فتحي يدعو لأفكاره بين ظهرانينا ما يقرب من خمسين سنة دون أن يجد أذنا صاغية، أو تجد أفكاره ما تستحقه من تجسيد في ربوع بلادنا.. لكننا ننخرط في التصفيق له والتمسح فيه، مع مجئ اسمه إلينا على متن جائزة عالمية مذكورة أو على متن جوجل أو... . لكن فتحي لم يكن ليقنع حقيقة بجائزة أقل من خدمة أفكاره للإنسان المصري الذي كرس حياته لخدمته. ولا غرابة في أنه وصف الاحتفاء آنئذ بسخرية عالية النبرة: “خيبة. أنا لست في حاجة إلى جوائز أو تكريم، بل أريد أن أعمل في وطني”.

ولعله واضح أن الحديث هنا لا يدور عن تفاصيل معمارية، بل عن أساليب للشفاء، لا للمرضى وحدهم بل للمجتمع ككل، والتجلي العكسي لهذا الأسلوب هو ثرثرة بلا طائل حول عمارة حسن فتحي بل والعمارة المصرية القديمة والحضارة المصرية القديمة و... . وهي ثرثرة أو إن شئنا الصراحة والدقة قاتلة.

أين حزب حسن فتحي السياسي؟ أم أننا...