خليل زيدان
تمر الذكرى الثامنة عشرة لرحيل المطربة الفنانة رجاء عبده هذا الأسبوع، ولمن لا يعرفها فهي من أشهر مطربات الجيل الثالث في نجوم الطرب بعد جيل الرواد، وجيل منيرة المهدية وأم كلثوم، وهي خامس مطربة تظهر على شاشة السينما في أول أفلامها "وراء الستار"، الذي عرض في 30 ديسمبر عام 1937، وقد سبقتها المطربة نادرة في أول فيلم غنائي "أنشودة الفؤاد" أبريل 1932، وبعدها منيرة المهدية في فيلم (الغندورة) أكتوبر 1935، ونجاة على في فيلم "دموع الحب" ديسمبر 1935، وأم كلثوم في فيلم "وداد" فبراير 1936.
الأغنية بـ50 قرشا!
بدأت موهبة الغناء تظهر عند الطفلة اعتدال جورج فى العاشرة من عمرها، حيث شهد لها المقربون والأسرة بجمال صوتها، فكانت تغني أدوار عبد الوهاب وأم كلثوم التي حفظتها منذ سن الخامسة، وبدأت أمها في اصطحابها إلى مولد القديسة دميانة للغناء وإنشاد التراتيل،
ولكن صبياً في مثل عمرها يعزف الكمان بمهارة، وهو إسماعيل نجل حسين باشا كامل كان له
التأثير الأكبر في تلك المرحلة، وكان جارها حيث أثقل موهبتها مع أنغام كمانه، وعندما اشتد عودها ذهب بها إلى محطات الإذاعة الأهلية، وهي إذاعة مصر الجديدة وإذاعة سابو وإذاعة راديو فاروق وإذاعة راديو فيولا، ومع اختبار صوتها وافقوا على أن تغني لهم مع عزفإسماعيل مقابل 50 قرشاً للأغنية، وهكذا انتقلت الصبية اعتدال من صفوف الهواة ليسمعها شريحة أكبر من الجمهور.
عبدالوهاب يرفضها
في بداية عام 1932 نشر المخرج محمد كريم إعلاناً يطلب فيه وجوهاً نسائية جديدة للقيام ببطولة فيلم يجري الإعداد له وهو فيلم "الوردة البيضاء"، ووقع الإعلان في يد اعتدال التي راودها الحلم بأن تقف أمام مطربها الأول عبد الوهاب كبطلة في هذا الفيلم، وبسرعة قررت أن تذهب لحضور ذلك الاختبار، خصوصاً أنها الآن مطربة في الإذاعات الأهلية، والكثيرون يستحسنون صوتها ويطربون له.. لكن هناك مشكلة.. فهي بنت الـ12 ربيعاً.. وجسدها صغير لا يوحي بجسد فتاة، فماذا تفعل ليقع عليها الاختيار؟ يوم الموعد بدأت الصبية اعتدال في تصفيف شعرها ووضع المساحيق وارتداء ملابس نسائية توحي بأنها فتاة ناضجة، واصطحبت أمها إلى مكتب محمد كريم، لإجراء الاختبار، حيث يوجد المطرب الكبير محمد عبدالوهاب، وبعد فترة بسيطة جاء دورها في الأداء، وطلب منها عبدالوهاب أن تغني شيئاً، فغنت إحدى أغانيه (حسدوني وباين في عنيهم)، وهنا أشاد عبدالوهاب بصوتها وجمال طبقاته، وتمكنها من الأداء، وقال لها: "فيه مشكلة بسيطة، سنك وجسمك صغيرين.. خليكي شوية لماتكبري ويمكن يكون لكِ نصيب تشاركيني فيلم تاني".. فانهمرت اعتدال في البكاء وجرت خلف عبدالوهاب الذي هم بالانصراف وربتت على كتفه، باكية: طيب يا أستاذ ما دام صوتي عجبك ممكن أحل مشكلة الجسم وألبس حذاء كعب عالي.. فابتسم عبدالوهاب قائلا:
“ما ينفعش يبقى البطل عنده 30، والبطلة عندها 12 سنة.. وما تزعليش، يمكن لما تكبري يكون لك نصيب في فيلم تاني معايا”.. وغادرت اعتدال المكتب بعد ضياع فرصة عمرها والدوع تملأ عينيها، وعند عرض الفيلم آخر العام كانت أول الحضور لترى البطلة التي احتلت مكانها، وجلست تتحسر على ضياع تلك الفرصة منها، خصوصا أن الفيلم تم تصويره في مصر وباريس.. وأعجبها اسم البطلة، وهو رجاء، فقررت أن يصبح اسمها رجاء عبده بدلا من اعتدال جورج.
وراء الستار مع عبدالغني السيد
عادت رجاء عبده للعمل في الإذاعات الأهلية، وبعد أربع سنوات همس عبدالوهاب لصديق عمره الفنان عبدالغني السيد أن يختار رجاء لتشاركه بطولة فيلمه "وراء الستار"، الذي عرض في 30 ديسمبر 1937، وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً آنذاك مما جعل صناع السينما ومنهم بدر لاما يطلبها بعد عامين لتشاركه بطولة فيلم (صرخة في الليل) الذي عرض في 31 أكتوبر 1940 وتأتي لها فرصة عمرها التي انتظرتها طويلاً، حيث اتصل بها محمد عبدالوهاب لتشاركه بطولة فيلم "ممنوع الحب" 1942، وهو الفيلم الأشهر في تاريخها الفني.. وتتوالى بعده البطولة المطلقة في الأربعينيات، منها (الأبرياء) 1944 مع حسين صدقي ثم يأتي عام 1955، وهو الأكثر إنتاجاً في تاريخها الفني، حيث قامت ببطولة أربعة أفلام، وهي: "رجاء والمظاهر وليلة الحظ والحب الأول"، وعام 1946 قامت ببطولة فيلم مع محمد فوزي، وهو "أصحاب السعادة" ثم فيلم "بياعة اليانصيب" عام 1947، وفيلمين في عام 1948، وهما "ورد شاه وليت الشباب".
اعتزال في قمة المجد
قدمت رجاء عبده عام 1950 آخر بطولة لها في السينما، فيلم "حبايبي كتير"، وهي في قمة المجد وريعان الشباب، وبعده شاركت في عدة أوبريتات مسرحية، وكان مجمل أغانيها في رحلتها الفنية 54 أغنية أشهرها البوسطجية اشتكوا واشهدوا يا ناس وهاتوا الورق والقلم وح تفوتني لمين مع موال انتو الصحابة الكرام في برنامج "الفنانون مع الجنود" عام 1955، وبدأت تشعر بزيادة في وزنها فآثرت أن تعتزل الفن حتى تحافظ على صورتها في عيون جمهورها وما حققته من مجد وتتفرغ للاهتمام بأسرتها.. وفي عام 1976 بعد ثلاثين عاماً من اعتزالها يتصل بها الفنان فريد شوقي، ويقنعها بالعودة للمشاركة في فيلم كبارية الحياة الذي عرض في مايو 1977.. وظهرت رجاء عبده في الفيلم كأنها تودع جمهورها وتذكره بأمجادها، وقد ظهرت بدينة تنظر إلى صورتها، وهي في عز الشباب، تنعي أيام شبابها، وتعيد غناء أحب أغنية لديها، وهي "اشهدوا ياناس على ظلم الناس".. هنا اختلط الأمر على الجمهور.. هل يرى مشهداً حقيقيا أم يرى مشهداً من الفيلم؟ وكان ذلك آخر ظهور لها على الشاشة والساحة الفنية، وعادت مرة أخرى إلى الانطواء حتى رحلت في صمت يوم 13 يناير 1999.