الأربعاء 29 مايو 2024

الأشهر الحرم وأسبوع الآلام

12-4-2017 | 12:00

بقلم –  د. عباس شومان

فجعت وكل أبناء وطنى لتلك الأحداث المؤلمة التى شهدتها مصر من الاعتداء على الأبرياء وهم يتعبدون فى كنائسهم فى شهر رجب المحرم، أحد الأشهر الحرم التى حرَّم فيها الظلم، وقال فيها المولى عز وجل (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِى كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). والظلم هنا معناه واضح جلى، أى: لا تقتربوا مما حرم الله وراجعوا أنفسكم بالتوبة والاستغفار، وليس أبشع عند الله من قتل نفس بشرية حرم الله قتلها فما بالنا بقتل عابد فى محرابه؟!

 

آثار الدمار والدماء داخل كنيسة مار جرجس بطنطا

إن شدة الألم التى تعتصرنى وأنا أشاهد وأتابع تلك الأحداث جعلتنى أتوقف مع هؤلاء الظلمة القتلة المفسدين وأسألهم: ألم تعلموا أن الشريعة الإسلامية نهت عن التعدى على دور العبادة لغير المسلمين، وأوجبت عقاب من يعتدى على دور العبادة من المساجد والكنائس، وتخريب الممتلكات العامة والخاصة واستخدام القوة المفرطة؟

ألم تعلموا أن الاعتداء على دور العبادة سواء للمسلمين أو أهل الكتاب مرفوض دينيا وأخلاقيا؟

إن الاعتداء على أهل الكتاب حرَّمه شرعنا، وذمَّه وعاب أهله، تجاوز كف الأذى إلى الأمر بصلتهم والإحسان إليهم والبرِّ بهم، قال الله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين).

ألم تعلموا أنه يحرم شرعًا هدم الكنائس، أو تفجيرها، أو قتل من فيها، أو ترويع أهلها؟

إن الإسلام الحنيف الذى أحاط الجهاد بجملة من الضوابط والشروط جعل تغلُّبَ المسلمين وجهادهم لرفع الطغيان ودفع العدوان، وجعل تمكينَ الله تعالى لهم فى الأرض سببًا فى حفظ دور العبادة من الهدم، وضمانًا لأمنها وسلامة أصحابها، فقال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أن اللهَ لَقَوِى عَزِيزٌ الَّذِينَ أن مَكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}. وكَتَبَ النبى صلى الله عليه وآله وسلم لأسْقُف بنى الحارث بن كعب وأساقِفة نجران وكهنتهم ومَن تبعهم ورهبانهم أنَّ: «لهم على ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بِيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم»؟

ألم تعلموا أيها الظالمون لأنفسهم، الظالمون لغيرهم، المعتدون فى شهر حرام أن الأدلة الشرعية على وجوب حماية الكنائس وعدم المساس بها منها وصيانتها والمحافظة عليها، جاءت من وصايا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لصحابته الأبرار الفاتحين ونهيه عن هدم الصوامع أو قتل الرهبان أو النساء أو الأطفال فى أى معركة بل حافظوا عليها؟

ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما استقبل وفد النصارى فى مسجده وحانت صلاتهم سمح لهم بالصلاة فى مسجده الشريف متجهين لقبلتهم، فإن كان سمح لهم بالصلاة فى مسجده فكيف يُعْتَدَى عليهم وهم يؤدون شعائرهم؟

فيا أيَّها الغلاة إن الإسلام أمر ببلاغ الدين، ولم يأمر بإجبار الناس على قبوله، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (لست عليهم بمسيطر)، وقال تعالى: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).

إن الإسلام مكن أهل الكتاب من إقامة شعائرهم، وممارسات المسلمين على مر العصور تجاه غير المسلمين عامة، خير دليل على سماحة هذا الدين واحترامه حرية الآخر بما لا يضر بالمجتمع المسلم، ولا يمكن للتاريخ أن ينسى ما اشتمل عليه عهد النبى صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم، كما يسطر لنا التاريخ صور التسامح فى عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أهل إيلياء (القدس) والذى نص على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم فجاء فيه: «هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شىء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم..»، وفى عهد خالد بن الوليد لأهل عانات جاء قوله: «ولهم أن يضربوا نواقيسهم فى أى ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا فى أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان فى أيام عيدهم»، هذا فى احترام حرية المسيحيين فى عقائدهم وممارسات طقوس دينهم.

إن الإسلام برىء من إرهاب هؤلاء القتلة، وصفحات تاريخه فى تسامحه وقبوله الآخر ناصعة بيضاء تقوم شاهدا على مر العصور والأزمان على ما جاء به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الذى قال عنه ربه فى كتابه الكريم: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».

فيا أيها الغلاة المتجبرين أن أبواب الجنة لا تفتحها الأعمال الإرهابية الإجرامية، لكنها تنال بالعمل الصالح، ولقد تناول القرآن قضية إرهاب المواطنين أو قتلهم أو التعدى عليهم بالطرق والأساليب التى تردع كل من يخالف ذلك فى الآية الكريمة: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا أن يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أو يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ»، ومن هنا يتبين لنا أن الله سبحانه وتعالى يحذر أشد تحذير من ترويع الناس أو قتلهم ورتب على ذلك عظم الجزاء، وهو ما يعرف بحد الحرابة.

ومن هنا أوجه رسالة لكافة المصريين بمقاومة هؤلاء الإرهابين الذين يزرعون المتفجرات التى تقتل الآمنين، وهذه المقاومة تدخل فى باب الوجوب لأنه دفاع عن الوطن وعن الأبرياء الذين يقتلون ظلما، فهو فى عمل واجب يؤجر عليه من يقوم به، وإذا قتل فى هذا الحال فهو شهيد عند الله عز وجل كشهدائنا الأبرار الذين استشهدوا، أما الذين يُقتلون من هؤلاء الإرهابيين الذين يسفكون الدماء إذا قتلوا فإنهم يقتلون وهم ظالمون لأنفسهم وقد أوردوها موارد الهلاك، ولا يجوز لأحد من أدعياء العلم أن يقول عنهم إنهم شهداء، لأنه تغيير للحقيقة وتبديل لأحكام الشرع.

إن الكل مسئول أمام الله عز وجل فلا يجب علينا كأفراد أن نلقى العبء على القوات المسلحة والشرطة، وأن نجعلهما يتحملان الأعباء وحدهم، بل كل منا يرى شيئا يشك أنه متفجر سيصيب أبناء أمته، فعليه تبليغ الجهات المسئولة حتى ينقذ الأبرياء، وإذا رأى مجموعة يرتاب فيها وشك أنها تريد قتل الناس أو تفجير منشأة من المنشآت العامة، فإنه يجب على الفور الإبلاغ عنها لينقذ بلده، حيث إنه لا حرمة ولا كرامة لمن يقتل الأبرياء أو يهدم منشآت الدولة.

إن الأدلة الدامغة تتوالى على أن المجرمين لا ينطلقون من منطلقات دينية بل يستهدفون الاستقرار والدولة المصرية، فإذا كانت دور العبادة للمسلمين والمسيحيين على السواء فى دائرة الاستهداف لهؤلاء الإرهابيين، فلا ينبغى الربط بين الإرهاب وبين الأديان كافة فهى بريئة من أفعال هؤلاء الأندال، إننا بحق نعيش أيام آلام حقيقية، لكنها لن تزيدنا إلا بغضا لهؤلاء واحتقارا وإصرارا على الوقوف خلف الجيش والشرطة حتى القضاء المبرم على الأشرار كافة، حمى الله البلاد والعباد، وعاشت مصر حرة آمنة.