منذ انسحاب العصر المطير وتبلور مناطق الجفاف توجه المصريون القدماء إلى نهر النيل، وتعلموا منه معنى الزمن والشهور، وتعلموا منه أيضاً مع الفصول فنون الزراعة، وآمنوا بأن للكون رباً منحهم نهر النيل، وأرسله إليهم في توقيتات معلومة، فنظموا حياتهم على فيضه، وشقوا القنوات لاستمرار مياهه لأطول فترة ممكنة ولتوصيلها إلى أبعد المناطق من مجراه الرئيسي ومن فروعه المختلفة التي صنعت دلتاه، التي كانت فيما مضى تشمل عشرات الأفرع، وتمتد مياهه إلى وادي العريش شرقاً وإلى غرب الإسكندرية بمائتي كيلو متر على الأقل.
لم يكن النهر إذن نهراً يمر في بلاد فيها أمطار مثلما هو الحال في الدانوب على سبيل المثال، حيث يستخدم النهر للنقل ويستخدم المطر للري، لكنه كان كل شيء في حياة المصري القديم، ولا يزال كل شيء في حياة المصري المعاصر.
وعندما نجحت مصر في عصر ما قبل الأسرات في إدراك كنه النهر، وفي التعامل معه في إطاره السياسي الذي يقتضي وجود دولة واحدة تبلورت قاعدة لإدارة هذه الدولة انطلاقاً من النهر، فالنهر واحد، والله واحد، والحاكم واحد. ومن ثم لم يكن غريباً أن تكون عقيدة المصريين من لدن سيدنا إدريس عليه السلام هي التوحيد، وهو أول من درس «ذر القمح في الهواء»، وأول من درس «أقام الفصول للدراسة»، ليس في مصر وحدها ولكن في العالم بكامله.
كان النهر هو الحاكم الحقيقي لمصر بمعنى أنه هو الذي حدد النظرية العامة للسلطة السياسية، وهو الذي وضع الإطار الفلسفي للإدارة السياسية، وهو الذي منح الحاكم صلاحياته. نجد ذلك واضحاً في عهد الأسرة الرابعة، عندما وضحت خرطوشة «اتحاد الملك والنهر وماعت» وبمعنى آخر، فإن الملك يوزع ماء النهر استناداً إلى العدالة التي تمثلها ماعت. ومعنى ذلك أن الصلاحيات المطلقة تخص توزيع ماء النيل وتقسيمه على المواطنين بالسوية، فلا يحرم منه مزارع أو مواطن مهما كان وضعه من حيث الغنى والفقر والصحة والمرض- يحتاج الإنسان من حيث هو إنسان- مصريا كان أو غير مصري، متعلما أو جاهلاً أن يعكف على متون الأهرام كي يقرأ الحكمة وفلسفة الحياة؛ ليعلم أن الفرعون أو الحاكم المصري لم يكن جبارا في الأرض، وإن ظهر من بين الحكام «فرعون» إلا أنه كان مساراً عابراً في تاريخ مصر التي بنيت على العدل وعلى الأمن وعلى الاستقرار وعلى أنها مفتوحة لكل جوارها، فكم من شعوب الأرض جاءت إليها وكم من أبنائها خرجوا إلى هذه الشعوب.
وفي تاريخ الحضارات تبدو مصر درة مكنونة، وقاعدة للإنسانية مصونة، يكفيها أنها لم تعرف الرق في تاريخها منذ نشأة الدولة، بينما تقسيم العلماء للعصور التاريخية قام على عصور ثلاثة: عصر الرقيق، وعصر الإقطاع، وعصر الثورة الصناعية، ولقد مرت مصر بالتطورات كلها إلا أن يكون فيها عبيد أو رقيق. ولقد كانت مصر في قلبها الحضاري الواعي والواسع والمفتوح تقيم الوزن للإنسان من حيث هو إنسان، لم يشر تاريخها إلى اللون الأبيض واللون الأسود، إنما أشارت نصوصها إلى لفظين متحضر و»جلف» لا صلة له بالحضارة. ولقد عاشت مصر منذ تاريخها الأول معلمة وناشرة للثقافة وناقلة للأفكار والأدوات وحاملة للقيم، بل إنك تكاد عندما تقرأ متون الأهرام تشعر بالأصول الأولى لليهودية والمسيحية، وتقف أمام نفس الروح التي تحملها الآيات القرآنية من تجسيد لعظمة الخالق وقدرته ومن تواص بالحق ومن دعوة إلى الرحمة ومن عون للبشر وصلة للرحم، إنك تجد حضارة إنسانية لو رفع منها اسم مصر لجاز أن تجد نفس المبادئ في الصين وقلب أفريقيا وفي شمال أوروبا وفي البرازيل.
ولا يكفي أن تقول إن مصر هي الصفحة الأولى في تاريخ العالم، فإن لديك من الفلاسفة والمفكرين من اعتبر أن لكل إنسان على وجه الأرض وطنين: الوطن الذي ولد به، والوطن الذي أسس الحضارة الإنسانية، أي مصر. ومن هنا فإن كلمة أم الدنيا التي راجت بين المصريين هي كلمة حقيقية يعلمها العلماء والمفكرون والفلاسفة، فإن جهلها جاهل أو تعامى عنها غبي أو تغافل عنها حاقد ناهيك عن أن يلمز مصر هذا أو ذاك، فما القضية إلا أن العلم غير كاف، وأن الجهل مستحكم. وأن الذي يستهدفها إنما يغيب عنه إدراكه لذاته.
أليس نابليون المعتدي الذي استهدف مصر بجيش احتلال هو الذي قال لجنوده إن أربعين قرناً (هكذا ظن) تنظر إليهم وهم يغزون مصر. والحقيقة الكبرى في تاريخ مصر هي هذه المشاركة الإنسانية الواسعة لشعوب من الشمال والجنوب والشرق والغرب في أدائه الحضاري، فلا غرو أن كانت هي المدرسة التي علّمت الجميع، ولا غرو أن كانت نماذجها العمرانية تقتبس لتظهر في مروى أو في زيمبابوي أو على جبال أكسوم أو تظهر في قرطاج، ومن قبلها في فينيقيا. ولا غرابة أن تجد للمصريين القدماء شركاء تجاريين كالفينيقيين وهم إلى اليوم شركاء، أو شركاء جنوبيين في اليمن وبونت، وهم إلى اليوم شركاء أو تجد رحماً في فلسطين، ورحماً في ليبيا ورحماً في النوبة. وهي أرحام عجز الزمان عن تفكيكها، وعجز الحاقدون عن تقطيعها، واستمرت مصر مصونة محمية بجوارها الآمن النقي الأبي الذي إذا جاع وجد مصر مفتوحة وإذا مرض وجدها تعالج وإذا فزع فزعت معه منقذة منجدة.
ائتوني في الزمان بجيش مصر خرج إلا للدفاع، وعلى أسنان رماحه حطم الحيثيين وشعوب البحر والتتار والصليبيون وكسر ناصر المستعمرين جميعاً.
ولم تكن معجزة ناصر هي أنه بدأ الكفاح ضد المستعمرين، لكن معجزته أنه كان الذي جمع قادة التحرر ونسق بينهم، وأدار معهم معركة ضد القوى الكبرى. ولقد شعرت شخصياً بمعنى أن تكون مصرياً داخل البرلمان الأفريقي، فقد وجدت مشاعر الاحتضان والتفاعل من كل زملائي النواب، مما اعتبرته إقراراً بأن لمصر في هذه القارة الحبيبة أنصاراً لا حد لهم، ولا إحصاء لأعدادها. ولقد اعتادت مصر كل حين أن يشغب عليها من يريد المكان من القوى الاستعمارية، لكن أحداً مهما نجح لم يستطع أن يشغل المكانة، فمصر ليست موقعاً جغرافيا لكنها مكانة حضارية وقيمة إنسانية. وقد يكون من نوائب الدهر أن تعاني مصر بعض التراجعات الاقتصادية، لكنها تستطيع أن تدير أمورها بذكاء وحضارة بأقل القليل، وتستطيع أن تربط حزاماً على وسطها ولا تمد يدها لخسيس، ولا تمكن غبياً من قرارها، وقد يناطحها الرأي والحجة غليم هنا أو هناك، لكن هؤلاء جميعاً بعد حين من الدهر يدركون أحجامهم، وينقضي زمانهم ويتجدد زمان مصر.
وكيف لا تكون مصر على ما ذكرت وقد كان نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) يربط حجراً على بطنه ولا يتكفف الناس، وكيف لا تكون مصر كذلك ومن منشأ تاريخها عرفت مينا وعرفت أحمس وعرفت حورمحب من القادة العظام، وكيف لا تكون مصر كذلك ولديها شعب عند الشهادة مقدام وعند الصدام قتال، وعند الرحمة طبيب، وعند الجهل معلم.
تستطيع الأمة العربية والأشقاء جميعا أن يراجعوا ما كانوا عليه عند نهاية الحرب العالمية الثانية وما أصبحوا عليه بعد ثلاثين عاماً. لقد كانت مصر تقدم المعلم والكراس وقلم الرصاص، وفي وثائق رئاسة الجمهورية أحد الملوك يطلب إلى ناصر أن يرسل الأقلام ذوات الممحاة لأن الشباب إذا كتبوا يحبون أن يمسحوا ويعيدوا استخدام الصفحة مرة أخرى.
وفي تراثنا أن مصر إذا كانت جنة فيحاء فإن عين مائها هي السودان، يقول شوقي:
فمصر الرياض وسودانها عيون الرياض وخلجانها
ولقد رد على هذا محمد سعيد العباسي الذي دعوت وزارة التربية والتعليم إلى إعادة طبع دواوينه وتقديمها للقارئ المصري والعربي لأنه الرجل الذي قال: «مصر يا شقيقة بلادي» يجب أن يستمع إليه الشعب وكل الناس في وادي النيل بعدما عم الجهل والحقد والمشاعر السلبية كي نحيي رابطة ران عليها ما كسبت أيدي الحكام.
ومن المسائل التي يجب الوقوف عليها ذلك الالتزام بالحفاظ على مصالح مصر في نهر النيل وفقا للمعاهدات الدولية. وما هذه المعاهدات إلا كاشفة عن حق مارسته مصر منذ ما قبل التاريخ فهذا حق أصيل في الحياة، وهذا الماء الوافد إلى مصر لم يجره نظام سياسي معين، إنما صنعه المولى عز وجل مستهدفا به الكنانة واصلا إليها بهبة من الرحمة، وبعطاء من الحياة، فمن يقدح فيه إلا قاتل يبغي شعبنا بالعطش والموت جوعاً. فمن يواجه إذن؟ هل يواجه المصريين أم يواجه الله عز وجل الذي أنشا النهر على هذا النحو؟ ومن خصمه؟ هل هو الجيش المصري أم رب الأرض والسماء، ومن يعادي؟ هل ثورة ٣٠ يونيه أم الشعب المصري؟ ومن يخدم هل إثيوبيا أم إسرائيل؟.
ولقد كنا في وادي النيل على عهد مستمر بالتواصل والتعايش والتكاتف والتراحم فمن يبغينا أن نسير في طريق التباغض؟
وبعض الحكام جربوا استهداف مصر في أوقات الأزمات، أحدهم عندما أرادت مصر بناء السد العالي وعندما أممت قناة السويس، بدأ يعبث ويتصل بالإمبراطور هيلاسيلاسي، ويتحدث إلى السفير البريطاني في بلاده، وفتح بلاده أمام الخبراء الأجانب يدعون الناس ضد السد العالي ويحرضون على بنائه، ولم يكتف بهذا إنما عرض أن يطرح قضية تدويل قناة السويس من بعد أن أممها عبد الناصر، كما أثار مسألة حلايب وشلاتين على نحو أدى إلى نوع من البغضاء والهجوم ليس فقط على الرئيس عبد الناصر وإنما على المصريين من حيث هم مصريون إلى أن وقعت كارثة العدوان الثلاثي.
عند هذا الحد أفاق الحاكم على صوت الجماهير السودانية تطوح به خارج القصر، وتلعن الإنجليز، وتجمع الشباب لإرسالهم في مسيرة أولها في الخرطوم وآخرها في القاهرة للتطوع والانضمام إلى جبهة القتال في قناة السويس. والشيء المذهل أن بريطانيا صديقة هذا الحاكم تخلت عنه بسهولة ولم ترحمه إنما تركت الوثائق تكشفه وتشير إليه إشارة واضحة كسياسي كان على طرف نقيض مع جماهير شعبه.
وأما جماهير السودان فإنها شأن جماهير مصر تتوق إلى ألفاظ الحياة الأزلية، تتجسد طرقاً ووسائل نقل وبنية عمرانية وبنوكاً مشتركة ومزارع واحدة وتنمية متكاملة، فمن ذا الذي يردنا إلى الحقد والبغضاء؟ ما شأنه بين مواطنينا وما مكانته وما منزلته؟ ومن فضل الله على هذه الجماهير أن الحب الذي يجمعها ليس مما يخضع للقرار السياسي وليس مما ينتزع بحكم تشريعي أو بنص دستوري أو بقرار حكومي. ولو تابعنا كل متكلم يسير عكس الجماهير في توجهاته الفكرية واتجاهاته العملية وإجراءاته التآمرية لتخيلنا أن الشعبين لم يعودا موجودين فقد قتل كل مصري كل سوداني، وقتل كل سوداني كل مصري رآه، إنما الواقع أن الجماهير تتدفق في طريق الحب ولا تزال تؤمن بوحدة وادي النيل، ولا تزال تثق بأن النهر الواحد خلقه رب واحد ويعيش فيه شعب واحد. قد يكون المستعمر قد فرض في النهر الواحد أنظمة متعددة، لكن الشعب لا يزال واحداً، والشعب لا يقبل التقسيم ولا التجزئة، فإن كان هنالك من يظن أنني أتوهم فإن الذين يقرأون الوثائق إنما يعيشون الحقائق، وليسوا إطلاقا ممن يسمحون لعقول في العلم راسخة أن تهتز نتيجة لتصريح أو لصراخ أو عويل، لا من سياسي فاهم ولا من سياسي عميل. اقرأوا إن شئتم موقف جماهير السودان في ١٩٦٧ وانظروا كيف حملت سيارة الزعيم عبد الناصر المهزوم في أحلك اللحظات لتنطلق من الخرطوم لاءات رفض الهزيمة الثلاث. هذه هي حقيقة التاريخ فمن أدركها كان له فيه مكان ومن جهلها فإنه إلى خارج التاريخ يسير.
ولقد صنع المصريون والسودانيين التاريخ معاً، ومن غير المنطقي، وقد فشلت المؤامرة على الأمة العربية، واعترفت الدنيا كلها بثورة مصر واستقبل البيت الأبيض رئيس مصر، وصار جيش مصر يضم السلاح الأمريكي والروسي والفرنسي والألماني والصيني، في توافق دولي هو الأول على مدار العصور، الذي يؤكد أن مكانة مصر محفورة في التاريخ مزروعة في قلب هذه المنطقة راسخة في عمق أفريقيا، فمن هو دون كيشوت وأي عصا خائبة يستخدمها هذا أو ذاك في وسط هذا الزخم.
إن شعب وادي النيل كان واحداً ويبقى واحداً وسيبقى واحداً، شاء من شاء وأبى من أبى، لا شأن لهذه الحقيقة بمناورة في هذه العاصمة أو مؤامرة في هذه العاصمة. هذه الروح السودانية هي التي أثق فيها، وهي التي أعرفها ولست أتخيل أن شعباً أبياً عرف علي عبد اللطيف وعرف عبد الرحمن المهدي والميرغني، وعرف الضباط والجنود المصريين الذين لم يبرحوا مصر من بعد «استقلال» السودان واستمروا في خدمة الجيش المصري، كما أعرف ضابطاً سودانياً كبيراً له شقيق مصري في أعلى المناصب العسكرية، هذا الذي أعرفه، وأما أن أمن مصر لم يعد يهم صانع القرار في قصر الحاكم العام، فذلك وهم وتحالف هلامي نتيجته معروفة، وأرى بعيني هذه الساعة ما يمكن أن يقع بعد شهور قلائل من جماهير الخرطوم ومدني ودنقلة وكردفان والأبيض ودارفور من الطينة إلى الجنينة. إن الذين تركوا ملياراً ونصف المليار من الأمتار المكعبة من المياه تهطل على أراضيهم الزراعية دون أن يستفيدوا منها لا يحق لهم أن يتكلموا عن كوب الماء المصري، فكوب الماء المصري أوسع مدى من هذا المليار ونصف المليار من الأمتار المكعبة من الأمطار الهاطلة. ونحن في انتظار الشعب الذي نعرفه.