كتب: خليل زيدان
حدثت مناوشات جميلة بين قطبي الغناء والشعر، فهي سيدة الغناء العربي بلا منازع على مر العصور، وهو شاعر لن نجد من الكلمات ما نصفه بها، مهما قُلنا لن نفي أم كلثوم والشاعر المبدع طاهر أبوفاشا حقهما.. يكفي فقط أن تقرأ أو تستمع إلى قصائده ـخصوصاً الدينيةـ، ثم تجلس مذهولاً من أين أتى الرجل بتلك المفردات؟!
شاركت أم كلثوم بالغناء فقط في الصورة الغنائية أو البرنامج الغنائي (عازفة الناي) رابعة العدوية.. والبرنامج من تأليف الشاعر طاهر أبو فاشا، ولم تكن تلك فقط هي الصورة الغنائية التي ألفها أبو فاشا، بل وضع العديد من روائع الصور أو البرامج الغنائية وسوف نرصدها تباعاً في ذكراه .
كتب أبوفاشا سيرة السيدة رابعة العدوية وأعد الحوار وكتب ست أغانِ، تم عرضها على كوكب الشرق لكي تقوم بغنائها، وبالطبع كعادتها قامت بتعديل عدة مقاطع في القصائد واستبدال كلمات بأخرى، وكل ذلك بموافقة الكاتب والشاعر طاهر أبوفاشا، جمعتهما صداقة قوية، وكان يجلس معها وزوجها الدكتور حسن الحفناوي في منزلهما أثناء القراءة والمراجعة.. وقصائد الست حسب تسلسل الأحداث هي: لغيرك ما مددت يدا، يا صُحبة الراح، حانت الأقدار، غريب على باب الرجاء، عرفت الهوى مُذ عرفت هواكَ، الرضا والنور.
تم الاتفاق على بدء التسجيل في الإذاعة بعد تحديد الشخصيات التي ستقوم بالآداء الصوتي، وهم: حسين رياض وعلوية جميل وعباس فارس وصلاح منصور وفؤاد شفيق وفاخر فاخر وهدى فريد وعايدة كامل وعبد الرحيم الزرقاني وحسن البارودي ومحمد السبع، وقامت بدور رابعة العدوية تمثيلاً فقط سميحة أيوب.. ونأتي إلى دور أم كلثوم وهو المشاركة بالغناء، وزعت أم كلثوم القصائد الست على ثلاثة من عباقرة التلحين، وهم: رياض السنباطي ومحمد الموجي وكمال الطويل، على أن يقوم كل ملحن بتلحين أغنيتين.
وبالفعل أبدع كل ملحن فيما تم إسناده إليه، وبعد البروفات بدأت أم كلثوم تسجيل الأغاني والمشاركة في العمل بحضور أبوفاشا ومخرج البرنامج عثمان أباظة، وأتمت أم كلثوم غناء القصائد بشكل رائع كعادتها، ولكن عند الانتهاء من أغنية غريب على باب الرجاء، من ألحان الموسيقار كمال الطويل، اقترب منها مخرج العمل عثمان أباظة وأخبرها بعدم مناسبة جزء صغير في اللحن مع سياق القصة، فالمفروض أن تغني رابعة هذه الأغنية أثناء تعذيبها وجلدها، وفي المقطع قبل الأخير استخدم الملحن المزاهر والدفوف، وهو ما لا يتفق مع موقف الجلد، هنا لم تشأ أم كلثوم أن تطلب من الطويل أن يعيد تلحين الأغنية بعد أن اقتنعت برأي المخرج، ولكنها ومن حسن حظنا اتجهت للكاتب كي يصيغ قصيدة أخرى ليتم تلحينها ليكتمل العمل بعد أن تم استبعاد غريب على باب الرجاء.
طلبت أم كلثوم من طاهر أبو فاشا قصيدة جديدة بعد أن توقف العمل ، لكنه رفض ، وقال لها : أنا بنيت لك بيتاً وأنت أحضرت نقاشاً لطلاء البيت، إن لم يعجبك الطلاء فعليك بإحضار نقاشاً آخر، ولا تطلبي مني أن أبني لك بيتاً جديداً لأن الطلاء لم يعجبك، فطنت أم كلثوم إلى حجة أبوفاشا المقنعة، وتوقف العمل ثلاثة أشهر، وظلت تطارده وتتصل به كي يؤلف قصيدة حتى يخرج العمل للنور وهو يرفض، ويذكر أبو فاشا ضاحكاً إحدى اتصالات أم كلثوم به تناوشه، حيث رن جرس الهاتف فأجاب: ألو.. مين؟.. ردت أم كلثوم: سِتك.. فرد أبوفاشا: أنا ماليش غير سِت واحدة، ساكنة في شارع أبوالفدا، فضحكت أم كلثوم طويلاً ثم طلبت منه أن يُنهي العمل المعلق ويؤلف القصيدة، فقال لها أبداً.
وبعد مناوشات وتصريحات أم كلثوم في الصحف بأن أبو فاشا مقل، أو كسول، لكي تحفزه على الكتابة، كتب أبوفاشا القصيدة المطلوبة، وأخبر أم كلثوم التي فرحت كثيراً بها، وتقول كلماتها: على عيني بكت عيني، على روحي جنت روحي.. هواك وبُعد ما بيني وبينك سر تبريحي، وأعطتها أم كلثوم هذه المرة للموسيقار رياض السنباطي لتلحينها بلحن يناسب سياق القصة وخرجت الصورة الغنائية عازفة الناي للنور وحققت نجاحاً مبهراً .
بعد نجاح العمل إذاعياً بمبدعيه أم كلثوم وكبار الملحنين وأشعار طاهر أبوفاشا، تناوله المخرج حلمي رفله، وقام بإنتاجه سينمائيًا، وأسند البطولة إلى عماد حمدي وفريد شوقي وحسين رياض وقامت بدور رابعة العدوية نبيلة عبيد، في أول بطولة سينمائية لها، وتم دمج أغاني أم كلثوم بأشعار أبوفاشا في الفيلم الذي أخرجه نيازي مصطفى وعرض في 10 فبراير 196، ومن الطريف أن شارك الكاتب والشاعر طاهر أبو فاشا بالتمثيل في فيلم رابعة العدوية في الجزء الأخير عند توبة رابعة، وتوافد الناس إليها في الجبل، فكان هو الرجل الذي يتعجب من سحر رابعة للناس في أول حياتها بالجمال والنغم وكيف تسحرهم اليوم بالزهد والتقوى، وكان إسمه في الفيلم طاهر.. وشارك في عدة مشاهد حتى صعدت روح رابعة إلى الخالق ليشهد أبو فاشا بعينيه ما طاف بخاطره وما كتبت يداه عن محبوبته عازفة الناي رابعة العدوية.