إن الاعتداء على كنيستى طنطا والإسكندرية يوم أحد الشعانين (٩ أبريل الجارى) المعروف شعبيا بـ»أحد السعف»، حيث يحتفل الأقباط بمقدم عيد القيامة المجيد (١٦ أبريل)، ليس الأول من نوعه، بل إنه حلقة فى سلسلة طويلة من أحداث الفتنة الطائفية، التى بدأت تطل برأسها على مصر منذ مطلع سبعينيات القرن الماضى (العشرين) مع حكم الرئيس السادات بعد أن كانت قد اختفت طوال فترة رئاسة عبد الناصر، وكلما نجح المصريون فى تجاوز المحنة وتمكنوا من إفشال خطة تدمير البلاد، تعود الفتنة من جديد، ولا يجد مثيروها من أسلوب لإنجاحها إلا بالهجوم على الكنائس وفى ذهنهم إشعال الحرب الأهلية حتى تتدخل القوى الخارجية الممثلة فى العالمية الجديدة، برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، التى لن تجد حلا إلا بتقسيم مصر إلى دولتين: واحدة للمسلمين وأخرى للمسيحيين كمقدمة لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذى صاغته إسرائيل (عام ٢٠٠٤) وتبنته أمريكا فى العام التالى (٢٠٠٥) على يد كوندوليزا رايس، وزير خارجية أمريكا، فى إدارة الرئيس بوش الابن، التى صاغت مبدأ «الفوضى الخلاقة»، واتضحت معالمه مع أحداث الربيع العربى (يناير ٢٠١١).
جثامين الشهداء ولحظات الحزن العميق
وهذه المحاولة لم تكن الأولى من نوعها تاريخيا، وإنما سبقتها محاولات كثيرة مع وقوع مصر تحت الاحتلال الفرنسى (١٧٩٨-١٨٠١) ثم الإنجليزى فى سبتمبر١٨٨٢، حيث كانت سلطة الاحتلال وراء إثارة الفتنة بين المسلمين والأقباط حتى يتعاركوا فتتدخل للصلح بينهم، ومن ثم تنعم بالاستقرار، ويشعر الجناة بأن بقاء الاحتلال فى صالحهم.. ورغم أن كل محاولة لتفريق أمة المصريين على أساس اختلاف العقيدة باءت بالفشل، إلا أن سلطة الاحتلال لم تكن لتيأس، حيث ظلت تعمل على تكرار المحاولة مرة بعد مرة وبطريقة أو بأخرى.. ولما تحررت البلاد من سلطة الاحتلال بقيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، تولت أمريكا الأمر اعتمادا على مناخ الفتنة، الذى صنعه السادات، كما سوف نرى، هذا المناخ الذى ظل قائما ويستثمره النظام العالمى الجديد حتى الآن.
***
ولبيان حقيقة هذا الأمر وصحة هذا التحليل علينا أن نتابع وقائع ما جرى فى التاريخ باختصار شديد وبغرض الدلالة فقط، وكيف أن المصريين كانوا يتجاوزون المحنة استنادا إلى موروث ثقافى يجمعهم عبر التاريخ، وفى ظل وجود حكام وأشخاص مستنيرين قل أن يجود الزمان بمثلهم.. وفى الحقيقة أن الحملة الفرنسية فى مصر (١٧٩٨-١٨٠١) هى أول من أثار الذات الدينية عند المصريين (مسلمين وأقباطًا)، ذلك أن بونابرت فى تشكيله للديوان العمومى، الذى كان مجرد مجلس استشارى يساعده فى إدارة شؤون البلاد، حرص على أن يدخل فيه أربعة أعضاء يمثلون الأقباط، وفى الديوان الخصوصى كان هناك خمسة أعضاء من العلماء (يمثلون المسلمين) واثنين من الأقباط.. ويبدو واضحا أن وضع النسبة بهذا الشكل جاء بناء على تقدير علماء الحملة عن عدد الأقباط بالنسبة للمسلمين فى مصر.. ومع ذلك ففى كتاب «وصف مصر» يشهد علماء الحملة الفرنسية بأنه لا يمكن التمييز بين المسلمين والأقباط فى مصر على أساس الدين فجميعهم أبناء ثقافة واحدة.
وعندما تولى محمد على باشا حكم البلاد (١٨٠٥) نجده يأمر بإصلاح الكنائس وترميمها على نفقة الدولة واهتم بأمر التعليم فى كتاتيب الأقباط.. وعندما فرض نظام «العونة»، الذى يعنى إسهام الفلاحين إجباريا فى شق الترع والمصارف والقنوات استثنى منهم سبع فئات من بينهم القسس والرهبان والحاخامات وخدم الكنائس والمعابد وسائر الأديان.. وأمامنا ثلاث شهادات رسمية لأجانب عن وضع الأقباط فى مصر زمن حكمه: أولها تقرير فى يوليو ١٨٣٧ رفعه لحكومته دوهاميل القنصل العام لروسيا جاء فيه «أما الأقباط الذين ظلوا على دينهم فيكادون جميعا يشتغلون فى كل المصالح كتبة ومحاسبون ومنهم من تفرغ للزراعة».. والشهادة الثانية ما أورده جون باورنج مبعوث الخارجية البريطانية لمصر فى تقريره بتاريخ مارس ١٨٣٩ جاء فيه «.. ليس هناك من يتعرض لأقل مضايقة بسبب عقيدته الدينية، ويؤدى الأقباط شعائرهم الدينية فى حرية تامة، ولا فرق بينهم وبين المسلمين فى أسلوب الحياة المنزلية..». وثالث هذه الشهادات جاءت فى تقرير اللورد باتريك كامبل إلى الخارجية البريطانية فى يولية ١٨٤٠ حيث قال «إن الأقباط يشغلون مناصب فى خدمة الباشا ويؤدى لهم الحرس ومن إليهم نفس ما يؤدونه من تحية وتبجيل لنظرائهم الأتراك.. والحقيقة أنه لا يوجد بلد أكثر تسامحا من مصر ..».
وفى عهد سعيد باشا (١٨٥٤-١٨٦٢) وفى عام ١٨٥٥ تم إلغاء ضريبة الجزية المفروضة على أهل الذمة وصدر قرار بتجنيدهم فى الجيش.. وفى عهد الخديو إسماعيل (١٨٦٣-١٨٧٩) تبرع للبطريركية القبطية ببعض التفاتيش الزراعية لتنفق منها على تثقيف رجال الكنيسة، وأمر ممثلى الحكومة فى الأقاليم باستقبال البطريرك عند طوافه بالبلاد استقبالا لائقا.
***
ثم وقع الاحتلال البريطانى لمصر (سبتمبر ١٨٨٢) وبدأ الإنجليز يمارسون لعبة الطائفية، التى مارسوها فى الهند وأدت أغراضها فى الصراع الطائفي، فأخذت الفرقة تدب فى الصفوف، وأخذ كل فريق يتنبه إلى ذاته الدينية أكثر وأكثر، وأخذ الانتماء إلى الأرض والوطن يتهاوى ويعلو عليه الانتماء إلى العقيدة.. لكن مصطفى كامل فى خطاب تشكيل الحزب الوطنى (ديسمبر ١٩٠٧) قال «.. وما المسلمون المصريون إلا أقباط غيروا عقيدتهم.. وتغيير العقيدة لا يغير الدماء..» وتحت تأثير سلطات الاحتلال قامت صحيفة «مصر»، التى كان يصدرها تادرس المنقبادى بحملة عنيفة لإثارة التفرقة سنوات ١٩٠٨-١٩١١. وكتب قرياقص ميخائيل مراسل صحيفة الوطن بالإسكندرية كتابه عن مطالب الأقباط عام ١٩١٠ فى أعقاب اغتيال بطرس غالى رئيس وزراء مصر.
ولقد أسفرت هذه المواقف عن إيحاء بريطانى بمراعاة تمثيل الأقباط عند إنشاء الجمعية التشريعية (تمت انتخاباتها فى يولية ١٩١٣ وعقدت أول جلساتها فى يناير ١٩١٤ ثم توقفت مع اندلاع الحرب العالمية الأولى فى أغسطس ١٩١٤). وفى أواسط نوفمبر ١٩١٨ قدم برونييت المستشار الإنجليزى بالمحاكم المختلطة مشروعه للإصلاح السياسى فى مصر على أساس التمثيل الطائفي. وبلغت هذه الأفكار قمتها فى تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ بشأن استقلال مصر حين احتفظت إنجلترا لنفسها بحق حماية الأقليات رغم وحدة الأمة فى ثورة ١٩١٩ خلف سعد زغلول فى مواجهة الإنجليز تحت شعار «الدين لله والوطن للجميع».
ومع بداية عمل اللجنة العامة لوضع مبادئ الدستور فى أبريل ١٩٢٢ (دستور ١٩٢٣) تقدم الشيخ محمد بخيت مفتى الديار المصرية، وعضو اللجنة بإيحاء من المندوب السامى البريطانى باقتراح بأن يتضمن الدستور مادة تنص على أن دين الدولة هو الإسلام، فاحتجت صحيفة «الوطن» وقالت «.. إن هذا النص عامل من عوامل التفريق كنا فى غنى عنه لأنه إذا كانت أغلبية البلاد من المسلمين ففيها عدد وافر من غير المسلمين ..»، ومع ذلك صدر الدستور فى أبريل ١٩٢٣ متضمنًا كفالة المساواة فى الحقوق للمصريين جميعا بصرف النظر عن الدين أو الجنس مع حرية الاعتقاد الدينى وحرية ممارسة الشعائر الدينية.
ومع هذا حدت على ساحة العمل السياسى عوامل أسهمت فى الانقضاض على روح الدستور، ونالت من حقوق المواطنة، وأخذت تشق صفوف الأمة على أساس اختلاف المذاهب، فقد تشكلت جمعية الشبان المسلمين فى ١٩٢٧ ثم جماعة الإخوان المسلمين فى ١٩٢٨ وجماعة أنصار السنة المحمدية، وتكونت من قبل جمعية الشبان المسيحية، وإن اختلفت عن نظيرتها الإسلامية لأن عضويتها من الاسم لا تقتصر على الأقباط، بينما جمعية الشبان المسلمين تقتصر على المسلمين.
وأخذت جماعة الإخوان المسلمين تدعو صراحة لإقامة الحكومة الإسلامية، وساد شعار»لا ولاية لغير المسلم على المسلم».. «ولا شهادة لغير المسلم على المسلم» يرسها عادة أحد شيوخ المسلمين. و.. وازدادت نغمة الإخوان المسلمين الطائفية عندما طالبت كل المسلمين بالحرص على عدم التعامل مع غير المسلمين بقولهم: احرص على القرش فلا يقع فى يد غير إسلامية مهما كانت الأحوال.. ولا تأكل ولا تلبس إلا من صنع وطنك الإسلامي، والتأكيد باستمرار على أن دستور الجماعة هو: الإسلام أو الجزية، أو السيف.. وعندما بدأت تعبئة الجهود ضد الصهيونية فى فلسطين فى مطلع مايو عام ١٩٤٨ طافت مظاهرات الإخوان المسلمين تقول: اليوم يوم الصهيونية وغدا يوم النصرانية.
والحال كذلك.. لم يكن من قبيل المصادفة أن يتبلور فى مطلع أربعينيات القرن العشرين تيار «الأمة القبطية»، الذى تزعمته جريدة «مصر»، الذى دعا أصحابه إلى المحافظة على اللغة والتقاليد القبطية وتوطيد الرابطة الطائفية وتدعيم كيان الأقباط كشعب له ماض مجيد يرغب فى الاحتفاظ بمقومات الارتقاء، وتم توزيع منشورات تطالب بالحكم الذاتى للأقباط.
***
ثم قامت ثورة يوليو ١٩٥٢ وتم التخلص من الإنجليز الذين طالما نفخوا فى نار الطائفية حتى آخر وقت، حيث اعترف انتونى إيدن فى مذكراته أنهم، أى الإنجليز، كانوا يعتمدون على الإخوان المسلمين فى إثارة الفتنة أثناء التفاوض مع جمال عبد الناصر بشأن الجلاء (أبريل ١٩٥٣- يوليو ١٩٥٤) حتى يتعللوا بإيقاف التفاوض ومن ثم البقاء، لكن خاب أملهم.. وبعد التصديق على اتفاقية الجلاء فى ١٧ أكتوبر ١٩٥٤ ومحاولة الإخوان قتل عبد الناصر (٢٦ أكتوبر بميدان المنشية بالإسكندرية) تم اعتقال الإخوان، وفتح الباب واسعا أمام الإصلاح السياسى والإدارى بما يعيد الوحدة إلى الصفوف وتماسك المواطنين، وعادت مصر إلى منهج التماسك الوطنى، الذى كان سائدا قبل الإحتلال البريطاني.. وفى هذا الإطار قررت حكومة الثورة إعمال مبدأ تكافؤ الفرص فى التقدم للوظائف من خلال ديوان الموظفين، ومبدأ الأقدمية المطلقة فى الترقى للوظائف الأعلى ودون تفرقة دينية أو نوعية بين المرأة والرجل. وفى سبتمبر ١٩٥٥ صدر قانون إلغاء المحاكم الشرعية والمجالس الملية (القانون رقم ٤٦٢ لسنة ١٩٥٥) وإحالة اختصاصاتها (دعاوى الأحوال الشخصية والأوقاف) إلى المحاكم الوطنية اعتبارًا من أول يناير ١٩٥٦.. وتم إلغاء كثير من المدارس التبشيرية والأجنبية وإخضاع الباقى لرقابة الدولة، وتحقق قدرًا كبيرًا من المساواة فى فرص التعليم بالتوسع فى مجانيته فى جميع المراحل حتى شمل الجامعة فى عام ١٩٦٢، وتم تنظيم الالتحاق بالجامعة عن طريق مكتب التنسيق على أساس الدرجات، ثم تولت الدولة مهمة تعيين جميع خريجى الجامعات وحملة الدبلومات المتوسطة ابتداء من يناير ١٩٦٢ بعد تكوين القطاع العام.
ومن الإجراءات أيضًا التخفيف من العشرة شروط لبناء الكنائس إذ وافق جمال عبد الناصر على طلب البابا كيرلس (تولى كرسى البابوية فى ١٩٥٩) ببناء ٢٥ كنيسة سنويا يحدد البطريرك أماكنها. وصدر مبدأ دستورى يمنح رئيس الجمهورية حق تعيين عشرة أعضاء بمجلس الأمة (بدأ أول مجلس فى ١٩٥٧ بعد دستور ١٩٥٦) استخدمه جمال عبد الناصر فى تعيين شخصيات قبطية لها مكانتها.. وكانت البلاد آنذاك منشغلة بمعارك التنمية وتعبئة الجهود ضد الاستعمار العالمى والصهيونية وتحقيق حلم العروبة فانحسرت الذات الطائفية وذابت فى نسيج الوطن وأصبح الكل فى واحد.
***
فلما جاء السادات إلى الحكم رفع شعار «دولة العلم والإيمان» فتلقفته العناصر الإسلامية، التى أخرجها من المعتقلات (مايو ١٩٧٢) ووظفته عمليا فى تكوين قيادات إسلامية للمستقبل.. وفى هذا المناخ الجديد بدأ الخطاب الإسلامي، وكثرت الكتابة بشكل ملحوظ فى التوجه الإسلامى والشخصية الإسلامية. وتكونت بكليات الجامعات المصرية جماعات إسلامية تنشط للسيطرة على الاتحادات الطلابية.. كما نشطت العناصر الإسلامية للسيطرة على النقابات المهنية وأندية أعضاء هيئة التدريس بالجامعات تحت عين وبصر الحكومة ودون ملاحقة أو مؤاخذة.
وعندما كان الرئيس السادات يصرح بأنه حاكم مسلم لدولة إسلامية اعتبرته الجماعات المتطرفة إشارة خضراء لممارسة التعصب، وإثارة الفتنة، وفرض ذاتيتها على كل المجتمع.. وعلى هذا بدأت مشاعر الفتنة تتصاعد، حيث أحرقت كنيسة الخانكة (١٩٧٢)، ثم كنيسة سمالوط (١٩٧٩)، ثم حوادث الفتنة والشغب الكبرى فى الزاوية الحمراء (يونيه ١٩٨١).
وهكذا انشطرت الهوية المصرية إلى هويتين: واحدة إسلامية للأغلبية، وأخرى مسيحية.. وعاد من جديد استخدام مصطلح أهل الذمة، الذين عليهم دفع الجزية عن يد وهم صاغرون.. وعاد القول بأن الدين عند الله الإسلام ومن ابتغى غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين. ومن ناحية أخرى طالب التيار الدينى بضرورة أن يتضمن دستور الدولة نصا بأن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع.
ومن ناحية أخرى وجدنا أن الجماعات الإسلامية فهمت شعار الرئيس السادات على أنه إقامة الحكومة الإسلامية.. ومن هنا تغلغلت فى البرامج الإعلامية واخترقت النقابات المهنية والاتحادات الطلابية، وهيئة التدريس بالمدارس والمعاهد والجامعات لتدفع المجتمع فى طريق التعصب والطائفية، والحكومة فى غفلة مما يحدث.. ولهذا لم يكن غريبا أن نسمع فى السبعينيات بعض أساتذة الجامعات يطالبون بـ»أسلمة العلوم»، أو تدريس مقرر عام باسم «الثقافة الإسلامية»، أو إنشاء جمعية طبية إسلامية داخل نقابة الأطباء مع أن مهنة الطب لا تميز بين جسد المسيحى وجسد المسلم.. ووصل التدهور فى الفقه والفتوى أن الصفحة الدينية فى أهرام الجمعة تنشر سؤالا ورد إليها بشأن مدى مشروعية أن يأخذ مسلم دم مسيحى فى حالة إجراء عملية جراحية، وبدلا من تسخيف السؤال وصاحبه تجيب الصحيفة قائلة: الضرورات تبيح المحظورات.
***
وفى الثمانينيات تقوى الجماعات الإسلامية وتستوى على عرشها وتفعل فعلها فى شطر الذات المصرية إلى ذاتين دينيتين (إسلامية ومسيحية).. وعادت الأقلام «الإسلامية» من جديد.. وعلى سبيل المثال يكتب جمال البنا فى ١٩٨٨ «الإسلام هو الحل»؛ ويكتب أنور الجندى «إسلامية الثقافة»؛ وفى ١٩٨٩ يكتب مصطفى حلمى «الصحوة الإسلامية عودة إلى الذات».
وتنتهى الثمانينيات بحوادث الفتنة فى أبو قرقاص (محافظة المنيا) ويتجدد الحديث عن الوطن الواحد، وحقوق المواطن ووضع الأقليات.. وتسارع السلطات باستحضار وحدة الهلال والصليب أثناء ثورة ١٩١٩، وتنظم الاجتماعات المشتركة بين رجال دين مسلمين ومسيحيين وتؤخذ الصور التذكارية والابتسامة على وجوههم وكل منهم يحتضن الآخر.. وبهذا يتم إبراء الذمة الرسمية من جرم الفتنة الطائفية.
وطوال التسعينيات تنشط الكتابات الإسلامية لتضخم من الذات الإسلامية دون اعتبار لطبيعة المجتمع وتاريخ المصريين المشترك، مع إهمال تام للحقيقة القائلة بأن ما يجمع المصريين على مستوى التقاليد والعادات المشتركة أكثر مما يفرقهم على مستوى العقيدة.. وفى المقابل دخل الأقباط معمعان معركة الهوية والمواطنة، فيكتب ميلاد حنا فى يناير ١٩٨٩ فى أعقاب حوادث الزاوية الحمراء «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية»، وقبل ذلك بتسع سنوات كتب يقول «نعم: أقباط ولكن مصريون» مستهدفا إبراز ما يجمع بين المصريين على مدى حلقات التاريخ المصرى من الفرعونية، واليونانية- الرومانية، والقبطية- المسيحية، والإسلامية.
ويكتب القس باخوم عطية شحاتة الكاهن بمطرانية بنى سويف فى نوفمبر ١٩٩١ وفى عقب حوادث أبو قرقاص «لماذا الوحدة الوطنية»، ويضع برنامجا لتدعيم الوحدة الوطنية عن طريق إعلاء قيمة المحبة، وبالكتابة الدينية المشتركة فى مواضيع وحدانية الله وصفاته والفضائل الكبرى والوحدة الوطنية، وبالتوعية الدينية بالمساجد والكنائس للوقوف ضد التيارات المعادية، وتشكيل مجلس دائم للتعاون الإسلامي- المسيحي.
ويفتتح رفيق حبيب الإنجيلى المذهب ملف التيارات المسيحية والإسلامية فى مصر (ديسمبر ١٩٩١)، ويقدمه الناشر (الدار العربية) بكلمات دالة على ما وصلت إليه مشكلة الهوية المصرية والمواطنة إذ يقول: إن رفيق حبيب ارتكب خطايا أربع فهو باحث عقلانى يعيش فى مجتمع يؤمن بالخرافة، وهو من أقلية دينية فى بلد سيطر على الأغلبية فيه التطرف والتدين السطحي، وهو من أقلية داخل الأقلية (إنجيلى وسط محيط أرثوذكسي)، والخطيئة الرابعة أنه يشعر بالأمل فى بلاد سيطر عليها الإرهاب بكل أنواعه فى حماية قانون الطوارئ.. ويكتب سعد الدين إبراهيم: «تأملات فى مسألة الأقليات»، داعيا إلى مؤتمر موسع لمناقشة أوضاع الفتنة الطائفية، لكنه لا يتمكن من عقده فى القاهرة فيضطر إلى عقده فى قبرص.
وفى أعقاب الهجوم على برجى نيويورك الشهيرين فى ١١ سبتمبر ٢٠٠١ أعلن الرئيس الأمريكى (جورج بوش) الحرب على الإرهاب المتمثل فى التيار الإسلامى وجماعاته فيزداد التشدد الإسلامى تماسكا وقوة.. وحين أعلنت الإدارة الأمريكية تدمير القوميات أو تفكيكها على أسس أنثروبولوجية عرقية أو مذهبية أو لغوية بدعوى العالمية، أخذ نفر من المصريين من الأقباط أساسا ومن بعض المسلمين المعادين للعروبة والمتحفظين على تيار الحكومة الإسلامية يسعون لإعلان حزب سياسى باسم «مصر الأم» (أواخر ٢٠٠٤) ليقولوا بمصريتها فقط، ويطالبوا بنزع كلمة «العربية» من اسم جمهورية مصر العربية، والاكتفاء بالقول بأن مصر دولة حرة، وإحياء لغة المصريين القدماء.
***
فى ضوء هذا العرض المتعمد للعلاقة بين الأقباط والمسلمين فى مصر عبر التاريخ من التسامح إلى الفتنة وروح الطائفية يتبين لنا أن أسبابها تراكمت عبر حكومات ونظم سياسية مختلفة بدرجات متفاوتة ابتداء من سيادة مصطلح «أهل الذمة» إلى انحياز إدارات الدولة منذ حكم الرئيس السادات للتيار الإسلامى وتغلغل عناصره فى مختلف المصالح والإدارات والهيئات، الذين يلعبون دورا غير مباشر فى زيادة التوتر والاحتقان فى إطار خطاب تكفير الدولة. ووجدت القوى الغربية فى هذا المناخ فرصتها لتدمير القوة الذاتية محليا بتوظيف الدين فى لعبة التوازن السياسي.
وقامت الولايات المتحدة بتغذية التيار الإسلامى لمواجهة الشيوعية زمن الحرب الباردة، فلما تفكك العالم الشيوعى بدأت الولايات المتحدة الأمريكية فى إثارة الطوائف والأقليات لإرهاب الحكم فى مصر وتخويفه طلبا للحماية والمساندة.
وفى هذا الإطار تأتى رعاية الولايات المتحدة الأمريكية لأقباط المهجر بدعوى حقوق الإنسان والحريات، واستقطاب جماعات التطرف والتشدد الإسلامى فى مصر وغيرها لإشعال الحرب الأهلية، ومن ثم التدخل بتقسيم البلاد، أو إجبار الإدارة المصرية على الالتزام بالأجندة الأمريكية، التى وضع السادات مصر فيها، ويبدو واضحًا أن المسؤولين فى بلادنا فى غفلة من أمر هذا المخطط البعيد المدى.
وعندما تستثمر قوى الغرب الأوربى- الأمريكى هذه التوترات الطائفية فإن معناه أننا نساعدها على التدخل فى شؤوننا الداخلية تحت دعاوى عامة وإنسانية، وبعبارة أخرى أننا نمد لهم الحبل الذى يشنقوننا به.. ويؤكد من ناحية أخرى انهيار المواطنة فى مصر، بل وتآكل ثقافتها بين المفكرين وما يمثله هذا الانهيار من خطورة على تماسك أبناء الوطن الواحد، الذى أصبح مرتعًا لثقافة الانحياز وتقديم العقيدة على الوطن.. وعلى هذا فلابد من تصويب المسار لأن الوطن يحتاج إلى كل السواعد والكفاءات ولا يصح أن تكون العقيدة فيصلا فى الأخذ والعطاء.. وإذا كان أغلبية المصريين من المسلمين فهذا لا يعنى أن تقهر الأغلبية الأقلية.. وإذا كان الدستور ينص على أن الإسلام دين الدولة، فإن الدستور نفسه ينص على أن المواطنين متساوون.. وفى كل بلاد العالم المتقدمة أثبتت الدلائل أن التفكير الدينى يجنح إلى السلم ويميل إلى الاقتصار على رسالته الأصلية من حيث إقامة معنى ومغزى للوجود الإنسانى فى الكون ولا ينبغى أن تكون مصر بدعا بين البلاد المتقدمة.
***
والحل.. يكمن فى جملة واحدة ألا وهى إقامة دولة القانون الوضعى، الذى لا يستمد نصوصه من آية شريعة دينية، وذلك لتحقيق التوازن الاجتماعي؛ وإسقاط الحاجز الطائفي- الدينى من كافة المعاملات؛ وعدم تغليب ثقافة دينية على أخرى وخاصة فى وسائل الإعلام، وليكن القانون فوق الجميع، وتبقى رسالة الدين قائمة فى المساجد والكنائس والمعابد دون إقحامها فى التعليم. وهذا يحتاج إلى اعتبار الانحيازات الطائفية فى العمل وفى الإجراءات وفى اللوائح جريمة خيانة عظمى تطبق على مرتكبها أقصى درجات العقوبة بشكل نهائى ولا يجوز الاستثناء فيها أو الاستئناف ليكون عبرة لغيره. وأن نضع تجربة الحكم قبل الاحتلال البريطاني، وتجربة جمال عبد الناصر أمامنا نتعلم منها لإخماد نار الفتنة واجتثاث الإرهاب من جذوره.
ومع اليقظة فى المتابعة سوف لا يجد النظام العالمى فرصة للتدخل فى الشأن المصرى باسم حقوق الإنسان والحريات وبحجة مواجهة التعصب والطائفية. وبإقامة دولة القانون على هذا الأساس سوف تنسد الثغرات، التى تتسلل منها أصابع الأعداء، وتبقى مصر للمصريين.