الأحد 5 مايو 2024

قصة الخوف كاملة.. مقال كتبه الموسيقار عبد الوهاب من 58 سنة

18-4-2017 | 15:17

إعداد الكاتب : عادل عبد الصمد 

الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب عاد من رحلته الأخيرة لأوروبا.. عبد الوهاب لا يصدق أنه عاد إلى وطنه الحبيب . 
فقد تعرض فى رحلته الى مأزق ومخاوف يذكرهما  هنا بالتفصيل: 
أن الموسيقارالفنان يقبل يديه ظهرًا وبطنا، لأنه عاد إلى أرض الوطن.. إلى الشيء الذى فقده فى نفسه عندما وضع قدميه على سلم الطائرة فى حذر وخوف وعدم اطمئنان! 
أكاد لا أصدق أننى عدت إلى وطني الحبيب .. لقد عشت شهرين فى أوروبا فريسة للخوف.. الخوف من أظافر حادة، كانت تقترب مني  لتنهشني..  يالها من رحلة رهيبة،  تلك التى غرست فى نفسي جذور الخوف، وأفقدتني  كل ثقة فى العودة إلى الوطن الغالي! 
 والرحلة الرهيبة بدأت مخاوفها  معي على  أول  الطريق. 
لقد ركبت الطائرة  مع السيدة زوجتى، كنت خائفا وأنا أركب لأول مرة، من طائرة نفاثة حاولت (نهلة) ان تملأنى بالطمأنينة، والشجاعة  ومع هذا فشلت محاولاتها،  كانت  شفتاى ترتعشان بالآيات القرآنية، وأنا أتسلق سلم الطائرة بقدمين مترددتين؛ حتى عندما جلست  فى مقعدي، كنت  لاأزال غارقا  فى موجة الخوف من شيء مجهول، أخشاه دائما  كلما عشت  لحظات بين السماء والأرض.  
أيقظت كل حواسي لوضعها فى أذنى فأنا أستعمل أذني دائما  فى حمايتي من أخطار  الطائرات، التي أرهفت سمعي  إلى صوت  محرك الطائرة، وكأننى أقيس بها درجة حرارة الموتور،  أحاول بأذني دائما أن أتتبع أنغام الموتور؛ حتى أقف أولا على سلامة أرواح الركاب جميعا، وانا وزوجتي منهم. 
 وكدت أقفز من نافذة الطائرة  حين التقطت أذناي تغيرًا ملحوظا فى نغمات الموتور، فمعنى هذا أن خللا فى الموتور يهدد حياتي وحياة زوجتي، ولم أستطع السكوت على هذه الحالة، وحاولت نهلة  أن تهديء من روعي،  وتجلدت حتى هبطت الطائرة فى بودابست.

 
تهديد  
وفى بودابست كنت غارقا لشوشتي في لحظات الخوف، وارتفعت حرارة خوفي أكثر من ذي قبل، وفي زحمة هذه المشاعر الرهيبة،  شاهدت أربعة من ركاب الطائرة، يقتربون مني رويدا رويدا.. لقد أصبحوا أمامي وجها لوجه .
انت عبد الوهاب ؟ 
 أيوه يا فندم ..  
أريد منك أن تجيب على سؤالى بكل أمانة وإلا...
 هل أمرت بإقحام “الكوبليه” إياه  عن العراق فى أغنيتك (بطل الثورة)؟  قل نعم، أم لا؟...  
 وهل سمعت مني  هذه الأغنية بدون الكوبليه (إياه)؟ 
 لا ..  
 إذن، فألاغنية كتبت هكذا مرة واحدة  
بنقول لك: هل أمرت بإقحامه؟ 
 لا ...  
وتطلع الأربعة إلي باحتقار شديد ثم تركوني،  قلت لنهلة:  كان خوفي من الطائرة وحدها أما الآن فهناك مبعث آخر للخوف لن أسافر في هذه الطائرة، التي يهددني فيها موتور وزبانية قاسم..  
أجابت نهلة: لابد من السفر،  فنحن لا نملك ( فيزا ) لدخول بودابست.
ولو.. سأبقى هنا ليحدث ما يحدث، وصاح موظف الطائرة: يللا يا أستاذ عبد الوهاب، ومن الغريب أنني جاءني السبب الذي لم  تخطئه أذناي، لقد أصيب موتور الطائرة بعطب يحتاج إلى إصلاح.

 
 ياما انت كريم يارب 
ومرة أخرى أكدت لزوجتي أننى  لن أسافر بالطائرة  ولو شنقوني، وقمت إلى التليفون اتصلت  بسفار مصر  فى بودابست، وقصصت على المسئولين قصتي،  وحصلت على إذن بالإقامة  فى بودابست 24 ساعة  ثم طمأننى موظف السفارة المصرية بأنه سيجئ إلي ليحميني من زبانية قاسم  الذين أفزعوني،  وعندما تم إصلاح الطائرة،  بح صوت المذيع من النداء علي أنا وزوجتي.

  
حريق في حجرتي 
 وقضيت ليلتي في بودابست، وفي اليوم التالي، ركبنا إكسبريس الشرق؛  لنواصل به الرحلة وأدركت أننى كنت عبيطا،  حين ركبت الطائرة، وعندما وصلت إلى باريس كنت فى حاجة إلى السكينة،  والهدوء لأبدأ فى تلحين أوبريت (مهر العروسة)،  وبعض الأغاني الدينية التي كلفتني بها الإذاعة، ولحنت بعض الألحان، ولكنني فوجئت، وانا فى حجرتي (بطقطقة) أخشاب تحترق من حولي، والتفت حولي  فوجدت النيران تحيط بنا من كل جانب،  كنت خالعا نظارتي،  ومعنى هذا أنني لا أستطيع أن أصل إلى باب الحجرة، وكنت حافيا ومعنى  هذا أنني لا أستطيع التحرك، وكانت النوتات الموسيقية فى الحجرة،  ولا يمكن أن أخرج  بدونها، وصحت كالمجنون  يانهلة هاتى النظارة، والشبشب،  والنوت الموسيقية، ورحت أصيح وأجري،  حتى كتب الله لي النجاة، وعدت مرة أخرى إلى وطني الحبيب 
يالها من رحلة مخيفة.
( الاثنين والدنيا 22 نوفمبر 1959 )