الأحد 19 مايو 2024

تجديد الخطاب الدينى.. شفرة لها مفتاح

19-4-2017 | 12:36

بقلم –  د. ناجح إبراهيم

الكل يتحدث عن ضرورة تجديد الخطاب الديني ،والكل حائر لا يرى كيف يكون التجديد وما هي عناصره وكيف يتم ؟ وفي البداية يحتاج تجديد الخطاب الديني إلي بيئة صحية،ولن يتم في مجتمع مهتريء،ولن يتم إلا في ظلال تصويب الخطاب الإعلامي والتعليمي والثقافي والسياسي والاجتماعي وإقامة العدل السياسي والاجتماعي معاً.

 

لقد أصبح تجديد الخطاب الديني أِشبه باللوغاريتم أو الشفرة التي يعجز القوم عن فكها مع أنها غاية في البساطة واليسر،وتتلخص في أمرين هما:حذف الخطاب الديني المتطرف والمتشدد ، وإحلال آخر وسطي صحيح يجمع بين ثوابت الدين ومتغيرات الحياة,وبين الواجب والواقع ، والدين والحياة بحيث نقدم بحق وصدق “فكراً متجدداً لعالم متغير” ويمكننا تطبيق هذه النظرية كالآتي:-

أولاً: خطاب الإحياء لا القتل:-

كل الأنفس معصومة لا يجوز الاعتداء عليها بأي شكل أو لون وذلك لإطلاق كلمة نفس في قوله تعالى:» مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا”وكل النفوس سواسية في العصمة نفس المسلم والمسيحي واليهودي والهندوسي والصيني والأمريكي والسني والشيعي كلها معصومة.

والإسلام جاء للإحياء ومعه كل الأديان ، فمن قتل نفساً واحدة فكأنما قتل الناس جميعاً لأنه بدأ المتوالية الهندسية للقتل والدماء»وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً “سواء كان الأحياء مادياً كالطبيب أو معنوياً بالدين أو العلم أو الفكر الصحيح

ثانياً :خطاب السلام لا الحرب :-

الأصل في الإسلام السلام , والحرب هي استثناء من هذا الأصل , وعلة الحرب هي الدفاع لا العدوان وهي واضحة في قوله تعالى» وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا « فليست العلة في الحرب اختلاف الدين أو العرق أو المذهب , فعلة القتال هي المقاتلة” لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ “ والسلام أقوى من الحرب , كما أن العفو أقوى من الانتقام .

ثالثاً :خطاب التعايش لا الإقصاء:-

ليس هناك سبيل سوى أن يعيش المسيحي إلي جوار المسلم , والمسلم إلي جوار اليهودي,والعسكري إلي جوار المدني والإسلامي,والسني إلي جوار الشيعي , والمسلم إلى جوار البوذي أو الهندوسي أو السيخى , فلن يستطيع دين أو مذهب أو عرق أن يمحو الدين أو المذهب أو العرق الآخر .

وقد أوضح القرآن هذه القضية «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا « فالعلة هي التعايش والتلاقي والتعاون والتعارف وليس التقاتل والإقصاء والإفناء.

لقد تقاتل الكاثوليك والبروتستانت أربعين عاماً كاملة في أوربا فأنتج هذا الصراع آلاف القتلى والجرحى والدمار واليتم , ولم يجدوا وسيلة لحل هذا الصراع سوى»نظرية الحقيبة السوداء»وتعني أن نضع أحقادنا وثاراتنا وصراعاتنا ونزاعاتنا السابقة في حقيبة سوداء وندفنها ثم نلعن ونحارب من يخرجها مرة أخرى .

فلنكن سواءً أمام القانون ولنفكر في الجوامع المشتركة المعيشية التي تجعلنا سعداء سوياً ,ونترك لكل واحد منا دينه ومذهبه وعرقه ولا نكرهه علي تغييره طالما لم يخرق القانون العام أو يستخدم العنف .

وقد أيد الإسلام الكرامة الإنسانية لكل أحد مهما كان دينه أو عرقه «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» , فكلهم مكرمون مهما اختلفت أديانهم أو مذاهبهم أو أعراقهم وحسابهم عند الله.

رابعاً :خطاب الهداية لا التكفير:-

فالله سبحانه تعبدنا بهداية الخلائق وليس تكفيرهم أو تفسيقهم ، والدعاة مهمتهم الهداية وليس الحكم على الناس , أما القضاة فمهمتهم الحكم على الناس , فلن يسأل الله أحدنا: كم كفرت أو فسقت , ولكنه سبحانه سيسأله : كم هديت وكم رغبت الناس في الحق والخير وكم قربتهم من الله , فنحن دعاة لا قضاة ودعاة لا ولاة ودعاة لا بغاة ودعاة لا قساة.

خامساً : خطاب الإخوة لا العداوة:-

وخطاب الإخوة هو خطاب الرسل جميعاً “ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا «, “ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا “ وهكذا.. فقد وصف الرسل بأنهم إخوة لأقوامهم حتى قبل أن يسلموا ويؤمنوا , فهو منهم وهم منه , وهو حريص عليهم محب لهم , والداعية بحق يحب كل الناس المسلم, المسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي والسني والشيعي , والداعية الذي لا يحب الناس عليه أن يغادر ميدان الدعوة , لأنها في المقام الأول والأخير”حب الناس»وإرادة الخير لهم جميعاً , أما الداعية الذي يكره الناس فعليه أن يصحح إيمانه , فالداعية بينه وبين الناس جميعاً رحم لا يقطع أبداً.

سادساً : خطاب الثبات والمرونة:-

بعض الإسلاميين يريدون تحويل المتغيرات إلي ثوابت وبعض غلاة العلمانيين يريدون تحويل ثوابت الإسلام إلي متغيرات سائلة لا معني لها, ولكن الصحيح هو أن نكون مع ثوابت الإسلام في صلابة الحديد ومع متغيراته في مرونة الحرير.

سابعاً : ندعو للناس ولا ندعو عليهم :-

فأسوأ ما أصاب الخطاب الإسلامي في الفترة الأخيرة الدعاء على المخالفين في الدين أو المذهب أو الموقف السياسي لا الدعاء لهم , فيمكن لخطيب الجمعة أن يدعو على الأمريكان والإنجليز والفرنسيين واليهود والروس والشيعة إن كان سنياً ,أو يدعو على السنة والشيعة والوهابيين والسلفيين واليهود إن كان شيعياً،فترى خطيب الجمعة يكاد يدعو على نصف الكرة الأرضية مع أن الرسول «ص» رفض أن يدعو على «ثقيف» أو «دوس “أو “أم أبي هريرة” رغم ما كان منهم جميعاً ولكنه دعا لهم.

وعندما دعا على قبائل «رعل وذكوان” لجرائمهم الفظيعة وقتلهم للصحابة غيلة وغدراً نهاه الله عن ذلك قائلاً : « لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ « فمهمة العلماء والدعاة والإسلاميين جميعاً الدعاء للناس لا الدعاء عليهم.

ثامناً :خطاب العفاف لا التفحش :-

أسوأ ما أصاب الحركة الإسلامية بعد ثورات الربيع العربي ظهور خطاب التفحش , وإذا جاز التفحش من كل أحد فإنه لا يجوز ممن نسب نفسه إلي الدين الذي يناشد المسلمين في القرآن « وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا “ أو ممن يتبع الرسول «ص» عف اللسان القائل « إن الله يكره الفاحش البذيء»,ويروى عنه «ما كان رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً “وإنني لأعجب حينما أرى بعض الإسلاميين يستخدم كلمة «عرص» في مواجهة خصومه السياسيين دون حياء أو خجل،مع أن هذه الكلمة كان البلطجي قديماً يستحى من استخدامها .

وأسوأ من الفحش من يبرر الفحش , وقد رددت على ذلك كثيراً بأدلة طويلة , والخلاصة لا يمكن لدين يُمدح رسوله بـ” وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ” ثم يبيح لأتباعه أو دعاته استخدام التفحش في مواجهة خصومه , وقد أدى هذا التفحش إلي تفحش مضاد أسوأ منه يطعن في أعراض الأمهات بشكل غير مسبوق في تاريخ العرب والمسلمين.

تاسعاً: خطاب لا يخلط بين السماوى والبشري ، والدعوي والحزبي :

في السنوات الماضية تم الخلط المعيب بين العقائدي الثابت والسياسي المتغير وبين السماوي الغيبي الذي لا يعلمه إلا الله والبشرى الذي يخضع لأسباب الدنيا , وبين الدعوى الثابت والحزبي المتغير،مثل الذي قال على منصة رابعة « الذي لا يؤمن بعودة مرسي عليه أن يشك في إيمانه»وأن الملائكة نزلت في رابعة وأمثلة أخرى كثيرة تحول النسبي إلى مطلق , والمختلف فيه إلى متفق عليه والسياسي إلى عقائدي والمتغير إلى ثابت.

هذه بعض رؤيتي في تجديد الخطاب الديني ، وأكرر مرة أخرى إن الخطاب الديني لن يتجدد بمعزل عن تجديد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والتعليمية والفكرية والثقافية ، ولن يتم بحق إلا في مجتمع قوى نابض فتي يستطيع التفريق بين الثوابت والمتغيرات فيتغير ويتجدد ويتطور فيما هو قابل لذلك .