كنت أسير فى الشارع فى اتجاه ميدان سانت فاتيما بمصر الجديدة، وأنا منشغل بالرد على مكالمة تليفونية تلقيتها، وإذا بشخص لا أعرفه يستوقفنى ويطالبنى بالتوقف عن الكلام فى التليفون المحمول لكى أنتبه إلى أن سعر كيلو البرتقال ارتفع إلى ١٢ جنيهًا للكيلو، متعجبا لذلك الأمر ومستنكرا إياه.. وحتى عندما قلت له ربما لأن هذه هى نهاية موسم البرتقال لم يتقبل تبريرى، معتبرا أن الانفلات فى الأسعار، خاصة أسعار السلع الغذائية فاق كل الحدود، وتجاوز قدرة عموم الناس، من أصحاب الدخول المحدودة والمتوسطة، على التحمل.
حال هذا الشخص، الذى لا أعرفه واستوقفنى هو حال كل أصحاب الدخول المحدودة والمتوسطة، الذين داهمهم ارتفاع كبير وضخم فى الأسعار، خاصة أسعار السلع الغذائية، التى تستأثر قرابة نصف دخولهم فى المتوسط.. وهو الارتفاع الذى بدأ منذ عدة سنوات مضت، لكنه صار ارتفاعًا منفلتا منذ الخطوة، التى اتخذها البنك المركزى بتعويم الجنيه، وهى الخطوة، التى خفضت قيمة وسعر الجنيه بأكثر من النصف.. فمند شهر نوفمبر الماضى، الذى أعلن فيه البنك المركزى تعويم الجنيه ومعدل التضخم يزداد بنسبة كبيرة شهرًا وراء آخر حتى وصل فى شهر فبراير الماضى إلى أكثر من ٣٣٪.. وإذا كان قد طرأ عليه فى شهر مارس الماضى انخفاض طفيف، فإنه هذا المعدل ما زال مرتفعًا مسجلا أكثر من ٣٢٪ .
وهذا أمر لا يثير دهشة المواطنين العاديين وحدهم، وإنما يثير تعجب حتى الخبراء الاقتصاديين.. فقد كان أمرًا مفهومًا ومنطقيًا أن يترتب على خطوة تعويم الجنيه، التى تمخضت عن انخفاض فى قيمته تجاه العملات الأجنبية ارتفاع فى كل الأسعار سواء.. أسعار السلع المستوردة من الخارج، وهى كثيرة التى زادت تكلفة استيرادها بين الطبيعى أن يحمل المستوردون والتجار المستهلكين فى نهاية المطاف هذه التكلفة للحفاظ على حجم أرباحهم، كما هى غير منقوصة، أو سواء حتى السلع غير المستوردة لأن تجارها وبائعيها، ومن فيهم بائعو الفجل والجرجير، ولأن مقدمى الخدمات (سباكين وكهربائية وحلاقين وغيرهم).. سوف يسعون إلى تعويض النقص فى دخولهم الحقيقية الناجم عن ارتفاع أسعار السلع المستوردة، خاصة الغذائية، بزيادة أسعار ما يبيعونه من سلع، ويقدمونه من خدمات.. أما غير المفهوم، وأيضًا غير المقبول أن يستمر معدل التضخم فى الارتفاع، وأن تنفلت الأسعار بهذا الشكل الذى صار لا يطاق من الأغلب الأعم من المصريين أصحاب الدخول المحدودة والمتوسطة.. فعلى مدى أكثر من خمسة أشهر والأسعار تسير فى اتجاه الارتفاع وبانفلات.. اليوم تشترى السلعة بسعر، وغدًا بسعر آخر يزيد عن سعارها أمس.. والتبرير الجاهز هو تعويم الجنيه وارتفاع سعر الدولار، رغم أن سعر الدولار ثابت منذ شهور ١٨ جنيها، بل إنه انخفض لبضعة أيام إلى أقل من ١٦ جنيهًا، ورغم أيضا تخفيض سعر الدولار الجمركى بنحو جنيهين عن سعره غير الجمركى.. وهذا أمر يثير الدهشة والعجب والتساؤل لدى الخبراء الاقتصاديين ولا يجد له تفسيرًا لديهم، بل إنه لا يجد أيضًا تفسيرًا لدى المسئولين عن إدارة اقتصادنا القومى، والذين كانوا يتوقعون انحسارًا وتراجعًا لهذه الموجة التضخمية بعد الشهر الرابع من اتخاذ قرار تعويم الجنيه المصرى، بل وكانوا ومعهم مسئولون فى صندوق النقد الدولى، الذين رحبوا بهذا التعويم لا يتوقعون أن يكون الانفلات فى معدل التضخم على هذا النحو الذى عانى منه المصريون بعد تعويم الجنيه.
ويزيد من الدهشة والعجب أيضًا لدى الخبراء الاقتصاديين أن الأغلب الأعم من المصريين قد خفضوا من استهلاكهم مضطرين، حتى من السلع الغذائية نتيجة ارتفاع أسعارها بهذا المعدل المنفلت.. فى أن حجم الطلب على السلع قد انخفض.. وبالتالى كان متوقعًا - طبقا لقاعدة العرض والطلب- أن يتوقف هذا الانفلات فى معدل التضخم، وارتفاع الأسعار.. لكن رغم انخفاض الطلب، وهو انخفاض اضطرارى من قبل عموم المستهلكين، خاصة أصحاب الدخول المحدودة والمتوسطة منهم، ظلت الأسعار ترتفع ولم تتوقف عن الارتفاع، وبمعدلات كبيرة.. وهذا يشير بجلاء إلى الخلل الكبير، الذى تتسم به أسواقنا، وإلى أن قانون العرض والطلب لا يعمل إلا فى اتجاه واحد فقط، وهو اتجاه الارتفاع.. إذا زاد الطلب زادت الأسعار.. وإذا انخفض الطلب زادت أيضًا الأسعار.. كذلك إذا ارتفع الدولار الجمركى زادت الأسعار وإذا انخفض الدولار الجمركى تزيد أيضا الأسعار!
نحن نعانى من فوضى عارمة تسود أسواقنا وتسيطر على التجارة الداخلية والخارجية أيضًا.. ولذلك ترتفع الأسعار فى هذه الأسواق لأسباب غير اقتصادية.. فنحن لدينا احتكار مهيمن على أسواقنا.. كل سلعة يتم إنتاجها فى الداخل أو استيرادها فى الخارج يحتكر إنتاجها أو استيرادها أو تجارتها عدد محدود من المنتجين أو المستوردين أو التجار.. هؤلاء هم الذين يتحكمون فى تحديد أسعارها، ويغالون فى هذه الأسعار، ويحددون هوامش ربح كبيرة لا تقارن بهوامش الربح المعمول بها خارج مصر، التى لا تتجاوز ٢٠٪ بينما تصل هوامش الربح لدينا إلى أكثر من ١٥٠٪ فى المتوسط.. وهكذا فإن تكلفة إنتاج ونقل وتخزين كيلو البرتقال، حتى فى نهاية الموسم، لا يمكن أن تصل إلى ١٢ جنيهًا، بينما كان يباع فى ذروة الموسم بثلاثة جنيهات فقط، وربما أقل فى بعض الأسواق الشعبية.. فإن المنتج والمزارع كان يبيع كيلو البرتقال بأقل من نصف هذا المبلغ، مثلما كان يبيع كيلو العنب بنحو جنيه، ونصف بينما كان يصل إلى أيدى المستهلكين بما يتراوح ما بين ثمانية و١٤ جنيهًا حسب المواقع الجغرافية المختلفة للأسواق!.
تلك هى المشكلة الأساسية، التى تسهم فى انفلات التضخم والارتفاع المستمر فى الأسعار لدينا، الذى فاق قدرة عموم المستهلكين، خاصة أصحاب الدخول المحدودة والمتوسطة، على تحمله.. وبدون إيجاد حل حقيقى وحاسم لها سوف نظل نعانى من هذا التضخم الكبير، وهذا الانقلاب المجنون فى الأسعار.
ولعل هذا يفسر لماذا لم تحقق كل الجهود، التى قامت بها الحكومة من أجل تخفيف وطأه وحدة معاناة أصحاب الدخول المحدودة والمتوسطة من ارتفاع الأسعار.. لقد سعت الحكومة إلى طرح كميات من السلع فى الأسواق، لحوم ودواجن - سكر - زيت - أرز.. وبأسعار تقل عن الأسعار السائدة فى الأسواق، وقامت بزيادة دعم سلع البطاقات التموينية مرتين، ومع ذلك لم يغير ذلك من أوضاع وأحوال أسواقنا.. لقد ظل الخلل فى هذه الأسواق مستمرًا وبقيت أسعار السلع ترتفع وتتزايد يومًا بعد الآخر وبمعدلات كبيرة وضخمة.. وبالتالى لو استمرت الحكومة فى ذات هذا النهج، وحتى لو زادت مجددًا دعم سلع البطاقات التموينية، وكميات السلع التى تطرحها فى الأسواق بأسعار تقل عن أسعارها السائدة فى الأسواق لن تسيطر على معدل التضخم ولن توقف هذا الانقلاب المجنون فى الأسعار، الذى صار هو الهم الأول للأغلب الأعم من المصريين، وشكواهم اليومية الدائمة، وهى الشكوى التى دفعت رجلا ينتمى مثلى للطبقة المتوسطة يستوقفنى فى الشارع ليستنكر بصوت عال هذا الارتفاع الصارخ فى الأسعار، الذى ترتب عليه انخفاض فى مستوى معيشة القطاع الأكبر من المصريين، الذين ينتمون للطبقة الفقيرة والمتوسطة، عندما تنازلوا عن استهلاك بعض السلع والخدمات، أو قللوا وخفضوا استهلاكهم من بعض السلع، وفى مقدمتها السلع الغذائية، التى كان الارتفاع فى أسعارها موجعًا جدًا ومؤلمًا للغاية بالنسبة لهم.
سوف يحالف الحكومة التوفيق فى مواجهة التضخم، وسوف تنجح جهودها للسيطرة على الانفلات فى الأسعار، وسوف تخفض حقا من معاناة أصحاب الدخول المحدودة والمتوسطة من هذا الانفلات فى الأسعار، عندما تتصدى حقا وبشكل جاد وصارم لإصلاح هذا الخلل، الذى يسود أسواقنا.. أى عندما تواجه بقوة الاحتكار والمحتكرين الذين يتحكمون فى تحديد أسعار السلع، وعندما تعيد الاعتبار لقانون العرض والطلب وتجعله يعمل فى كل الاتجاهات، وليس فى الاتجاه الوحيد الراهن حاليًا، الذى يرفع الأسعار فقط وبمعدلات كبيرة، وأيضًا عندما تحدد هوامش الربح بنسبة ومعدلات مقبوله كما يحدث فى أغنى الدول الرأسمالية وأكبرها.
وهذا يقتضى حزمه من القرارات والإجراءات يجب أن تتخذها الحكومة تتجاوز إبرام بروتوكول بين وزارتى التموين والأوقاف لتوزيع سلع رمضان على الفقراء، أو مناشدة التجار على تخفيض الأسعار.. قرارات وإجراءات تبدأ بصياغة قانون جديد لمواجهة الاحتكار والتصدى للمحتكرين.. وتشمل توسيع قاعدة المنتجين والمستوردين والتجار للسلع الأساسية، خاصة الغذائية لضمان أعمال المنافسة.. ولا تنتهى بتحديد هوامش الربح فى أسواقنا بوسائل شتى من بينها إعلان قوام الأسعار الاسترشادية للسلع فى أسواقنا.. بدون ذلك سوف يستمر التضخم وسوف تستمر معاناة عموم المصريين، وسوف تستمر محاولات استثمار هذه المعاناة سياسيًا.