بقلم – لواء. د. نصر سالم
ملخص ما نشر
فى الحلقات السابقة تعرضت لأحداث مثيرة جرت فى تلك الليلة التى سبقت الحرب وكيف دارت بيننا نحن الضباط قادة المجموعات بعض الخواطر على سبيل المزاح.. والغريب أن كل هذه الخواطر حدثت لنا بحذافيرها .. حيث وقع فيصل فى الأسر ونال عبدالهادى الشهادة وأنا تمت ترقيتى ومنحى النجمة العسكرية .
فى الليلة الأولى من الحرب وصلت مجموعتى إلى المكان المحدد لها خلف خطوط العدو بعد تعرضنا للعديد من المواقف الصعبة التى كادت أن تدمرنا . وتبدأ المجموعة عملها بإرسال أول بلاغ عن لواء مدرع للعدو فتقوم طائراتنا بتدمير العدد الأكبر من دباباته يوم ٧ أكتوبر فيتأخر تحركه فى اتجاه جبهة القتال لليوم التالى ٨ أكتوبر بعد استعواض الخسائر التى لحقته به، و أثناء استعداده للتحرك تمر من فوقه طائرتان فتنتشر الدبابات بطريقة عشوائية تؤدى إلى اصطدامها ببعضها البعض وانفجار عدد منها. ونكتشف أن هذه الطائرات للعدو وليست طائراتنا .
وتمر الأيام والمجموعة مستمرة فى استطلاع محورين رأسيين ومحور آخر عرضى وإبلاغ جميع المعلومات عنها حيث تقوم قواتنا الجوية بالتعامل معها أولاً بأول .
وبعد مرور أكثر من عشرين يوماً ينتهى كل الطعام الذى مع المجموعة حيث كان كل فرد يتناول مالايزيد عن ٢٠٠ جرام يومياً ومثلها من الماء. فتأمرنا القيادة بالتوجه إلى بئر على مسافة سبعين كيلومترا نفاجأ بعد الوصول إليها باستحالة إخراج الماء منها بعد أن قطعنا الرحلة فى ثلاثة أيام. فتكلفنا القيادة بالبحث عن إحدى المجموعات التى ضلت طريقها وتتواجد فى هذه المنطقة فنظل يومين آخرين فى البحث عنها وبعد العثور عليها نكتشف وجود طعام وماء معها . ولكن الموقف الجديد الذى عرفناه من جهاز الراديو الموجود مع المجموعة الأخرى ، هو عبور العدو غرب القناة وتمكنه من حصار مدينة السويس، فأقرر الاستمرار فى مهمتى حتى يتم جلاء موقف الجيش الثالث نظراً لأن المحور الذى أتواجد عليه هو الذى يتحرك عليه العدو للوصول للجيش الثالث وأستمر فى مهمتى بعد انضمام المجموعة الثانية تحت قيادتى .
فى أحد الأيام تم تكليفى بالتحرك لمنطقة تبعد عن مكاننا بحوالى ٥٠ كم لاستطلاعها فأصل إليها لأفاجأ بعد وصولى للنقطة المحددة للاستطلاع أنى داخل موقع العدو ولم أكتشف ذلك نظراً لتحركى داخل سحابة داكنة طوال الليل أخفت عنى ضوء الشمس حتى الثامنة صباحاً فأقرر إبلاع المعلومات بأقصى سرعة قبل أن يتمكن منى العدو وأنا على مرأى ومسمع منه.
فوق هذه السلسلة الصخرية الجرانيتية من أعلى جبل فى سيناء الوسطى ...
جلست بكل الرضا بعد أن أبلغت جميع المعلومات الخاصة بالعدو الموجود فى المعسكر ....
وكانت عبارة عن لواء مدرع ... وبدأت الظنون تقفز إلى رأسى وأنا أتأمل وجوه جنود العدو
الذين يتحركون فى المعسكر من خلال نظارة الميدان الموجودة معى – إنهم يستطيعون قطع طريق العودة الوحيد خلفى ويمنعونى من الانسحاب، فأنا تقريبا متوغل داخل المعسكر لمسافة لا تقل
عن خمسمائة متر .. وقد يقومون بالنداء على وطلب الاستسلام لهم قبل أن يطلقوا على نيرانهم
وأنا حتما لن أستسلم لهم ولن أقبل الأسر .. إن معى ثلاثين طلقة من الذخيرة أستطيع الاشتباك بها حتى تنفد .. ولكن ماذا أفعل لو نفذت ذخيرتى قبل أن يتمكن أحدهم من إصابتى, ونيلى شرف الشهادة .. إن استشهادى فى هذا المكان رائع الجمال لأمر يبعث على البهجة . اللهم اكتبها لى ولا تحرمنيها .. هل أتعرض له وأنا أقاومه وأمكنه من إصابتى, أم أقاومه حتى تنفد ذخيرتى وأسلم أمرى لله وأرضى بقضائه .. إن الأمر كله لله. وأخذت أدعو فى نفسى اللهم أرزقنى الشهادة ولا توقعنى فى الأسر ... دقائق مرت كأنها الدهر وأنا أرقبهم وأنتظر رد فعلهم ..
إن أحداً لم يركز نظره نحوى إلا نظرات عابرة كأنه لا يرانى .. ولا أحد منهم يشير لأحد آخر
فى اتجاهى .. وتذكرت قول المولى عز وجل «وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون» ولما لا لقد أعماهم الله عنا من قبل وكانوا أقرب من ذلك يوم قصفت طائراتنا دباباتهم وخرج عادل من تحت الصخرة يهتف «الله أكبر» وتخيلنا أنهم قد أبصرونا .. ولكن الله أعماهم وأنجانا منهم إنهم حتما لم يرونا .. ومن الخطأ أن أبقى ظاهرا أمامهم
هكذا بعد أن أعماهم الله عنا .. وأخذت أتحرك بحرص شديد وأوجه سعد أن يفعل مثلى حتى ابتعدنا خارج نظام رؤيتهم, فانطلقنا نعدو إلى حيث تركنا متاعنا وجملنا .. وكان النهار قد انتصف
فأخذ كل منا مكانا تحت شجرة ( رتم ) يستظل بها ورحنا فى نوم عميق, استيقظنا منه وقد مالت الشمس للغروب فنهضنا نجمع العشب ونشعل النار لإعداد الطعام الذى تناولناه وشربنا الشاى
بعده ونحن نشعر بسعادة غامرة .. أن أدينا مهمتنا بنجاح .. ثم انطلقنا عائدين فى رحلة
لم تخلو من المواقف الصعبة والظريفة على حد سواء .قبل أن تشرق شمس اليوم التالى، كنا قد وصلنا إلى مكاننا الذى فيه باقى المجموعة، فاستقبلونا بفرحة أنستنا عناء الرحلة ..
وحاول «سعد» أن يبقى معنا داخل الخور لينام من شدة التعب, وكذا يبقى جمله معنا داخل الخور .. ولكنى لسبب لا أعلمه أصررت أن يأخذ جمله ويعود إلى بيته قبل شروق الشمس ولا يبقى معنا .. فلم يجد بداً من طاعتى وخرج عائدا إلى بيته وأهله، قام الجندى على غير عادته بإشعال
النار وتجهيز ( قرص الملا ) ووضعه فى النار ثم فاحت من ناحيته رائحة كنا قد نسيناها
منذ وصلنا إلى هذا المكان إنها رائحة طبيخ .. تبين أنها علبه سردين وعليه صلصة
وبصلتان كان «الشيخ سليم» أحضرها لهم الليلة السابقة, فأبوا ألا يأكلوها حتى أعود إليهم ونأكلها
معا ولهذا شرعوا فى إعدادها قبل أن أوى إلى النوم من شدة التعب ..
و بينما عادل يساعده ومحمد وحلمى ملتفان حولى فى ود صادق فإذا بعبد السلام الذى يراقب
من داخل نقطة المراقبة . أعلى الخور . ينادينى فى لهفة وفزع أن أصعد إليه ..
فاندفعت نحوه , خوفا أن يكون به مكروه وعندما قطعت نصف المسافة صعوداً إليه, صرخ
لا تتحرك حتى لا يروك فسألته كيف يرونى ومن هم – فكان رده أن العدو يتحرك نحونا فى اتجاه مدخل الخور .. فقفزت مندفعا نحوه ولم أعبأ بتحذيره كى أرى بعينى ما يحدث. فإذا بعدد من العربات المدرعة م ١١٣ تتحرك تجاهنا ثم تتوقف أمام مدخل الخور فأشرت إلى باقى المجموعة أسفل الخور أن استعدوا بالسلاح ولا تشتبكوا إلا بأمر منى .. فاستعدوا فى الحال .. بينما اتخذت
موضعى فى نقطة المراقبة إلى جوار عبد السلام أتابع ما يجرى فرأيت الجنود يترجلون
من داخل العربات المدرعة ويصطفون على أجنابها فى وضع القتال ثم يتحركون جميعا فى حذاء بعضهم البعض ثم يتوقفون مصوبين أسلحتهم فى اتجاهنا دون أن يستمروا فى التحرك داخل الخور
( ولو أنهم اقتربوا مسافة مترين آخرين لاكتشفوا كل شئ يخصنا، .. انتظرت وأنا أرفع يدى
مشيرا بها نحو المجموعة ينتظرون منى إنزالها ليشتبكوا مع العدو .. ولكنى أسكت عن تحريكها حتى أتأكد أن العدو يرانا أو يقصدنا وتمر اللحظات والثوانى وجنود العدو يصوبون أسلحتهم تجاهنا من الوضع مرتكزا بينما المدفع الرشاش الموجود على العربة المدرعة مصوب نحو رأسى ..
وفجأه أسمع أصواتا باللغة العبرية لم أستوضحها جيداً بعدها يقفز الجنود داخل العربات التى تعود مرة أخرى فى الاتجاه الذى جاءت منه وتقوم بالتجمع ثم تعود وتكرر مافعلته فى المرة
الأولى ثم مرة ثالثة ورابعة .. بعدها قاموا بالتجمع فى الخور المجاور لنا .. فتحركت من مكانى بكل حذر بعد أن تقلدت سلاحى وألقيت نظرة على الخور المجاور فوجدت الجنود
يقضون قسطا من الراحة ويتناولون طعامهم, فعدت إلى حيث أفراد مجموعتى, وأخبرتهم
بما رأيته وتقديرى له أن هذه القوات عبارة عن سرية مشاه ميكانيكية تقوم بالتدريب
على الرماية التكتيكية ( الجافة ) أى بدون ذخيرة اليوم, وسوف تستكمل باقى اليوم
فى التدريب – وأنها فى الغد سوف تحضرإلى نفس المكان لتنفيذ الرماية بالذخيرة الحية
بعد أن تصنع أشكال الرماية فى المكان الذى نتواجد فيه الآن .
وبناء على ذلك سوف نقوم بالانتقال إلى مكان آخر الليلة يكون أكثر أمانا
من هذا المكان – والآن عليكم أن تستمروا فى أماكنكم على استعداد كامل للاشتباك مع العدو بمجرد دخوله داخل الخور – أما أنا فاتخذت موقعا جيدا للاشتباك
مع العدو حالة اكتشافه لنا – وأخذت سلاحى وقنابلى اليدوية معى وأمرتهم ألا يوقظنى
أحد إلا فى حالة واحدة – هى دخول العدو إلى مدخل الخور أكثر من خمسة أمتار
أى عبوره للفردة الكاوتش الموجودة فى المدخل .. ونمت ملء جفونى حتى أيقظنى أحدهم
ليقول لى إن قوات العدو قد عادت من حيث أتت بعد أن كررت نفس التدريبات عدة مرات .. وأخذنا فى استكمال إعداد الطعام الذى لم يكتمل وقمنا بتناوله بسرعة بينما علق بعضهم متسائلا كيف لى أن أنام بهذا العمق فى هذا الظرف المرعب .. فرد عليه آخر أن نومى جعله يشعر بالأمان ويعلق آخر ضاحكا لم نكن نخشى إلا أن يسمع العدو صوت شخيرك.
لم تخلو هذه الفترة منذ وصولى من رحلة الأمس حتى نهاية اليوم من المواقف الغريبة
والطريفة .. أولها هو أن سعد عندما تركنا فى فجر اليوم عائدا إلى بيته لم يستطع أن يقاوم النوم فنزل عن جمله فى أول وادى قابله وتركة ونام هو تحت إحدى الشجيرات . وعندما رأى الجمل العربات المدرعة تتحرك حوله اندفع خائفا منها نحو مكاننا الذى يعرفه فوجد العربة المدرعة
التى قدر الله وقوفها أمام مدخل خورنا فيعود مرة أخرى خوفا منها ولو أنه دخل الخور وفوقه سرجه لشك العدو فى وجود أحد فى الخور ولدخلوا خلفه . أما الموقف الطريف فقد
حدث لى شخصيا عندما نزلت من نقطة المراقبة وتحركت فى حذر شديد وأنا أضع
سلاحى فى وضع الاستعداد .. وبينما أنا أقترب من القمة لأطل برأسى على الناحية الأخرى
متوقعا في كل لحظة أن أجد وجهى فى وجه أحد جنود العدو، وإذا بى أفاجأ بضربة قوية
فى وجهى كدت أطلق نيران بندقيتى نحو مصدرها لولا تجلى حقيقتها بسرعة فإذا هى طائر
من طيور الجبل أقرب إلى لدرجة فى شكلها وحجمها ولكنها قوية الأجنحة للدرجة
التى تجعل صوت حركتها أقرب إلى صوت الحركة الصادر من ألواح الصلب . فلم أتمالك نفسى من الضحك حتى كدت أن أسمع قوات العدو.
ما أن حل الظلام حتى وجدنا الشيخ سليم يدخل علينا وهو لا يصدق ماحدث ويعانقنا جميعا
واحداً واحداً تعبيراً عن فرحته بسلامتنا .. فأخبره أنى قررت مغادرة هذا المكان فوراً إلى آخر أكثر أمانا، لأن العدو ينتظر أن يقوم بإجراء تمارين رماية فى هذه المنطقة .. فيوافقنى على الفور
بينما يحاول الضابط محمد إقناعنا بالبقاء نظراً لعدم قدرته على السير فيعلق الشيخ سليم بعفويته قائلا يا إخوان « ما يتآخذ بعد الإنذار غير الحمار « ونتحرك إلى جبل آخر قريب بعض الشئ
من الجبل الأول ولكنه أكبر حجما ومساحة وأكثر ارتفاعا – أى أنه أكثر ملاءمة لإخفائنا وتمكيننا من مراقبة العدو فى المنطقة وعلى محاور التحرك .
ويتركنا سليم نكمل مشوارنا إلى الجبل الجديد على أن يأتى إلينا فى الليلة القادمة. وعندما أسأله كيف ستصل إلينا ولم تعرف مكاننا, فيبتسم قائلا أنا باجيكم (أى أجئ إليكم) وما أن طلعت علينا شمس اليوم التالى حتى كنا قد جهزنا أماكننا بكل همة و إتقان واخترنا مكانا لنقطة المراقبة
هو الأفضل والأصلح والأكثر أمنا وأماناً فى الوصول إليه والبقاء فيه وكذا الهروب منه.
وقبل أن ينتصف النهار كنت أجلس فى نقطة المراقبة وإلى جوارى الضابط محمد , وأقول له صف لى ماترى .. فيقول :
إن العربات المدرعة تطلق نيرانها على أشكال الرماية.
أين وضعوا أشكال الرماية ؟
فى المكان الذى كنا فيه .
ونتعانق فى حب وود يملأهما العرفان و التقدير .٠
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة