الأحد 2 يونيو 2024

ما بعد القصف الصاروخى الأمريكى.. سوريا هى الأبقى

19-4-2017 | 14:05

بقلم –  د. حسن أبوطالب

هدأت نسبيا ردود الأفعال التى أعقبت عملية القصف الصاروخى الأمريكى على مطار الشعيرات السورى فجر العاشر من أبريل الجارى، والتى أمر بها الرئيس الأمريكى ترامب أثناء لقائه مع الرئيس الصينى فى أحد منتجعات ترامب فى فلوريدا، ضد ما وصفه بتجاوز النظام السورى الخطوط الحمراء المتمثلة فى استخدام أسلحة كيماوية فى خان شيخون بريف إدلب، حيث تسيطر فصائل جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة الإرهابى. لكن هذا الهدوء النسبى لم يغلق تماما الأسئلة الرئيسية حول حقيقة القصف الصاروخى الأمريكى وأبعاده السياسية والعسكرية، مقابل كيف ستتعامل روسيا وسوريا وإيران مع تداعيات هذا التطور الأمريكى.

 

 

وهنا تبدو نتائج المباحثات التى تمت بين ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكى ونظيره الروسى لافروف فى موسكو وما تلاها من مباحثات مع الرئيس بوتين دليلا على أن الأمور، رغم ظاهرها السيئ بالنسبة للرئيس الأسد ولنظامه الحاكم، إلا أنها تحمل أيضا أمورا إيجابية على المدى المتوسط فى أقل تقدير.

إدانة مسبقة وبلا أى تحقيق

لا شك أن العملية الأمريكية وما تلاها من تفسيرات وتحركات فى الأمم المتحدة من أجل إصدار قرار دولى يدين النظام السورى مسبقا، وقبل إجراء أى تحقيق دولى يتسم بالشفافية والنزاهة وينتهى إلى الفاعل الحقيقى لاستخدام الأسلحة الكيماوية، ويضع – أى القرار الدولى المنتظر- النظام السورى تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة والذى يتيح استخدام القوة ضد الحكومة السورية، إضافة إلى مجموعة إجراءات تدخلية صارمة فى الشأن العسكرى السورى بحجة التأكد من الالتزام بما ورد فى القرار الدولى، يفصح عن أن القصف الصاروخى الأمريكى الذى استخدم فيه ٥٩ صاروخا مجنحا فائقة التدمير لم يكن كما قيل بهدف تأديب النظام السورى ومنعه من تجاوز الخطوط الحمراء ومعاقبته على قتل أطفال أبرياء، وإنما كان الهدف الحقيقى هو إطلاق عملية دولية تستند إلى ميثاق الأمم المتحدة تسمح بإدانة النظام ووضعه تحت طائلة عقوبات دولية شديدة الوطأة تمهيدا لإسقاطه، وبما يشبه ما حدث مع بغداد إبان حكم الرئيس الأسبق صدام حسين على مدى عشر سنوات انتهت بغزو العراق بأسباب مزعومة وكاذبة، ولكنها للأسف الشديد انطلت على كثيرين نظرا لسطوة الدبلوماسية الأمريكية والبريطانية ووراءهما الإعلام الغربى منعدم الأخلاق والمهنية.

الأمر إذا وللوهلة الأولى كان تعبيرا عن بداية تحول فى الأداء الأمريكى يعيد سيناريو العراق مرة أخرى، ولكنه تحول لم يكتمل لأن الوضع الاستراتيجى فى سوريا الراهن يختلف عما كان عليه الوضع فى العراق قبل عقدين ونصف من الآن، ولأن روسيا صاحبة الحق فى الفيتو والضامنة بشكل أو بآخر للنظام العام فى سوريا وليس فقط الحكومة أو الرئيس بشار الأسد، والتى تنتشر قواتها على أجزاء من الأرض السورية وتتحمل أعباء اقتصادية كبيرة لضمان بقاء سوريا موحدة ونظاماً قادراً على مواجهة جماعات الإرهاب والمرتزقة ومن يسمون بالمعارضة المسلحة المعتدلة، لا يمكنها أن تقبل إعادة سيناريو العراق فى سوريا وكأن الأمر لا يعنيها ولا يمس مصالحها الاستراتيجية والحيوية الكبرى. ولذا كان طبيعيا أن تعترض روسيا على مشروع القرار الأمريكى الفرنسى، نظرا لانحيازه المسبق ولكونه تجاوز أى تحقيق منصف يحدد الفاعل الحقيقى للأسلحة الكيماوية فى خان شيخون.

لماذا يخاف الغرب تحقيقا منصفا؟

السؤال الذى يطرح نفسه لماذا يخاف الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون الاقتراح الروسى بإجراء تحقيق دولى يشارك فيه خبراء من دول مجلس الأمن ودول إقليمية وقوى كبرى لها باع فى حظر الأسلحة الكيماوية، بالإضافة إلى خبراء من منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، على أن يتم التحقيق فى كل من مطار الشعيرات السورى محل الاتهام، وخان شيخون محل الواقعة المثيرة للجدل؟ الإجابة ببساطة أن مثل هذا التحقيق الدولى قد يكشف عن أمور لا يريد الغرب كشفها، لأنه يستفيد تماما من عملية الخداع وتوجيه الاتهامات بالباطل، ولأنه يتصور أنه قادر على التلاعب بمصائر الشعوب والأمم. ويبدو هذا الخداع جليا فى أن مشروع القرار الدولى الأمريكى الفرنسى كان يصر فقط على إتمام تحقيق فى المطارات السورية وليس فقط مطار الشعيرات محل الاتهام ومع كل الطيارين السوريين وكل خبراء الأسلحة فى سوريا، ولم يذكر مشروع القرار أى إشارة لبحث الأمر فى المنطقة التى قيل أنها شهدت استخدام غاز السارين، ويدعى البريطانيون والفرنسيون أن هذه المنطقة غير آمنة وواقعة تحت سيطرة جبهة النصرة التابعة للقاعدة، وأنهم لا يضمنون أمن وسلامة الخبراء الدوليين إذا ما قاموا بتحقيق فى هذه المنطقة التى يسيطر عليها فرع من تنظيم القاعدة الإرهابى. وهو ادعاء واه وخبيث فى الآن نفسه.

مثل هذه الحجة فى رفض التحقيق الدولى الشفاف فى خان شيخون يثير الشكوك فى الموقف الغربى برمته، فجبهة النصرة ورغم أنها فرع للقاعدة فى بلاد الشام فلها علاقة وثيقة بتركيا عبر قطر، وكلاهما يعتبران الجبهة مجرد معارضة إسلامية مسلحة بعد أن غيرت اسمها إلى جبهة فتح الشام بعد أداء تمثيلية مفضوحة فى يوليو ٢٠١٦، وهناك دول غربية وللأسف دول عربية أيضا تتعامل بهذا المنطق المعوج. وفى السياق ذاته فكل من بريطانيا وتركيا هما أكثر دولتين قالتا إنهما قامتا بتحقيق أولى وحصلتا على عينات من خان شيخون، وأن العينات حملت آثار غاز السارين المحرم دوليا، ولم يقل لنا أحد كيف تحقق الأمن لهؤلاء الخبراء الأتراك والبريطانيين عندما ذهبوا إلى خان شيخون فى الوقت الذى يرفضون لخبراء محايدين من دول عدة أن يذهبوا إليها بحجة عدم ضمان أمن هؤلاء الخبراء. وهكذا يبدو الأمر كمعضلة ولكنها فى الواقع تكشف عن النفاق الغربى، وتكشف أن هناك ما يريد الغرب إخفاءه، بل ويريدون من العالم أن يصدقهم وأن يوافق على ما يتوصلون إليه من نتائج دون مراجعة وكأن باقى العالم مُصاب بالعمى والهبل.

وفى قناعتى أن المطلوب إخفاؤه هو أحد ثلاثة أمور: إما أن هناك عملية مصطنعة برمتها ويُخشى فضحها، وإما أن الذى استخدم السلاح الكيماوى هم جبهة النصرة ذاتها وفق سيناريو مُعد سلفا من قبل أجهزة تحاول إرباك الأمر فى سوريا واستباحة التدخل فيها وفق مظلة شرعية دولية مصطنعة، وإما ثالثا أن المطلوب إخفاؤه هو امتلاك جبهة النصرة وفصائل قاعدية وإرهابية لهذه الأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا. وأيا كان الأمر المطلوب اخفاؤه من قبل الغرب وتركيا التى تلعب لحسابات مزدوجة، فما زال من الممكن التوصل إلى الحقيقة إن صدقت النوايا وهو أمر يبدو متعذرا جدا.

مصير الأسد مرة أخرى وليست نهائية

وسواء توصل مجلس الأمن إلى قرار دولى ينظم عملية تحقيق شفافة ونزيهة تستند إلى الأفكار الروسية التى اقترحها وزير الخارجية لافروف على نظيره الأمريكى أثناء زيارة الأخير لموسكو ١١ و١٢ أبريل الجارى، أو بقى الأمر غامضا على النحو الذى يجعل هناك حملة سياسية ودعائية غربية ضد روسيا وسوريا وحلفائهما لغرض الابتزاز والتشويه وممارسة الضغوط وتلويح بعقوبات إضافية، فالوضع برمته يجعل من التفاهم الأمريكى الروسى شرطا أساسيا لحلحلة الوضع فى المسار السياسى. وفى هذه الحالة تبدو الادعاءات الغربية نوعا من ممارسة الدبلوماسية بطريقة مشوهة ومفضوحة ولم تعد تنطلى إلا على السذج وحسب، وللأسف هناك كثيرون من هذه الفئة. فبالرغم مما قيل أن جولة مباحثات لافروف وتيلرسون كانت فاشلة، فهناك دلائل أنها لم تكن فاشلة تماما وأيضا لم تكن ناجحة إلى حد التوصل إلى اختراقات كبرى، وإنما جاءت نتائجها كما يُقال «بين بين»، أى لتفتح مرة أخرى نوعا من الحوار حول القضايا الرئيسة فى علاقات البلدين والتى تدخل فى إطار أمن العالم برمته.

والواضح أن كلا البلدين اتفقا على أنهما لن ينزلقا إلى حرب نووية أو غير نووية بسبب سوريا، وأنهما بحاجة مرة أخرى لاستعادة العمل باتفاقية التنسيق بشأن العمليات العسكرية فى سوريا والتى أوقف الرئيس بوتين العمل بها فى أعقاب القصف الصاروخى الأمريكى ولكن بضمانات معينة، وأنهما بحاجة إلى وضع تصورات مشتركة تسهل المباحثات السياسية بشأن الأزمة السورية. والأهم من كل ذلك تأكيد روسيا على أنه لا مزيد من عمليات عسكرية أمريكية ضد جيش سوريا الذى يواجه الإرهاب وهو الهدف المشترك بين روسيا والولايات المتحدة على الأقل نظريا. ويلفت النظر هنا أن الطرفين اتفقا على تشكيل مجموعات عمل لمناقشة وبحث القضايا الخلافية بينهما لوضع الأمور فى سياق محدد، وهى خطوة تبدو محدودة ولكنها تعكس رغبة مشتركة فى إعادة بناء حالة ثقة متبادلة تسمح لاحقا لتطوير الحوار والتوصل إلى اتفاقات عملية قابلة للتحقيق.

صحيح أن المواقف الأمريكية بشأن الرئيس الأسد تبدو متشددة ولا تقبل بوجوده فى سوريا المستقبل وتسعى إلى فرض عقوبات عليه وعلى أفراد أسرته، ومع ذلك فإن تصريح تيلرسون يعكس موقفا مهما، حين أشار إلى أن اختفاء الأسد من المشهد السياسى يجب أن يتم فى إطار عملية منظمة، وقابل ذلك ما أكد عليه لافروف بأن روسيا لا تعول على شخص الأسد بل تعول على النظام ووحدة سوريا، وعدم وصول الإرهابيين إلى الحكم. وفى الجوهر يمكن الاستنتاج بأن موسكو وواشنطن تقتربان من التفاهم على أن بقاء الأسد مرحليا يعنى بقاء النظام وبقاء الجيش السورى فاعلا أساسيا فى مواجهة الخطر المشترك، وهو الإرهاب والإرهابيون فى سوريا وفى غيرها، وأن اختفاء الأسد بصورة مفاجئة له مخاطره التى لا يمكن حصرها. ولكن اختفاءه ممكن من خلال العملية السياسية بضمانات دولية وإقليمية تنظم انتقال السلطة وبما يسمح ببقاء الدولة السورية وعدم وقوعها فى أيدى جماعات الإرهاب أيا كان اسمها. فبقاء الأسد ليس هدفا فى حد ذاته، ولكن بقاء سوريا موحدة هو الأهم والأبقى. وتلك بدورها لن تتحقق إلا من خلال دحر الإرهاب فى سوريا، ولتتقدم أمريكا بما لديها فى هذا المجال بدلا من ضربها للمطارات التى تستخدم فى ضرب الإرهابيين.