الخميس 21 نوفمبر 2024

د. نادر نور الدين يكتب: سودان البشير إلى أين يسير بالعلاقات الأخوية؟!

  • 19-4-2017 | 14:59

طباعة

منذ أربع سنوات أسند لي المركز القومي للترجمة بوزارة الثقافة المصرية ترجمة كتاب صادر عام ٢٠١٠ باللغة الإنجليزية بعنوان «دول منابع النيل في عصر مابعد الاستعمار»، الكتاب لم يكن تقليديا بأن يكون له مؤلف واحد بل كان له عشرة مؤلفين بمعدل مؤلف لكل باب من أبوابه مع منسق عام يكتب بابا في أول الكتاب ثم خاتمة الكتاب وكان من النرويج لتوحيد لغة الإخراج النهائي للكتاب خاصة أن بعض دول المنابع ناطقة بالفرنسية مثل رواندا وبروندي والكونغو الديمقراطية ومثلهم يتحدثون بالإنجليزية مثل تنزانيا وكينيا وأوغندا ثم إثيوبيا باللغة الأمهرية ودولتي المصب مصر والسودان باللغة العربية وبالتالي فإن اللغة الإنجليزية ستكون لغة ثانية لكتاب مصر والسودان وإثيوبيا وربما أيضا رواندا وبروندي والكونغو.

خرج هذا الكتاب للنور بعد أن أستضافت النرويج عشرة متخصصين في شئون المياه من جميع دول منابع النيل العشرة بمعدل متخصص من كل دولة للإقامة معا في العاصمة النرويجية «أسلو» لنحو عام كامل على أن يقوم كل متخصص بكتابة باب عن دولته في هذا المؤلف.في هذا الكتاب عبّر المتخصصون عن مشاكل دولهم مع المياه بموضوعية شديدة حتى فيما يخص الخلافات مع مصر وكان كتاب دول منابع النيل الأبيض من تنزانيا وكينيا وأوغندا ورواندا وبروندي والكونغو الديمقراطية يناقشون الأمور بما تعكس مدي حبهم وتقديرهم لمصر ومواقفها التاريخية معهم وبلا أطماع أو كراهية أو هجوم على مصر. هذا الأمر اختلف تماما عندما بدأت أترجم بابي المؤلف الإثيوبي والمؤلفة السودانية حيث كان الهجوم والكراهية والغل ظاهرا وبلا موضوعية أو محاولة للتعاون وكأن مصر هي التي شقت مجرى نهر النيل من إثيوبيا وعبر السودان وصولا إلى مصر أو كأن إثيوبيا تستمطر السحاب بأمرها ولا أحد منهما يؤمن بأننا أمام مجرى طبيعي قدر الله الخالق مسيرته وأنه لا سارق ولا مسروق ولا ظالم ولا مظلوم فيما يخص توزيع مياه النهر خاصة من دول الوفرة المائية الذين يستحوذون على ٩٥٪ من موارد مياه النهر من أمطاره وبحيراته العذبة ومستنقعاته ومروج ومراعي المواشي الطبيعية التي تنمو على الأمطار ولا من المخزون الهائل من المياه الجوفية التي تُشحن بمياه الأمطار دوريا والتي حفرت مصر المئات منها لدول منابع النيل الأبيض لاستخدامها كمياه شرب في كل قرية تقديرا للظروف الاقتصادية التي تحول دون إنشاء شبكات ومواسير لمياه الشرب لا تتحملها اقتصادياتها. الجميع ينسي كل هذه الخيرات وينظر فقط إلى كم المياه التي تجري بين ضفتي نهر النيل والتي لا تمثل إلا ٥٪ فقط من موارد مياه النهر ويصرون على الاستحواذ على حصص منها حتى الدول التي تضم بحيرات المياه العذبة كمخزون للمياه بالمليارات مثل بحيرات فيكتوريا وكيوجا وألبرت وجورج وإدوارد في دول منابع النيل الأبيض وبحيرة تانا في إثيوبيا ثم مياه مستنقعات أوغندا وجنوب السودان وإثيوبيا والتي يهدر فيها ١٠٠ مليار متر مكعب سنويا ويرفضون قيامنا باستقطاب مياهها وإعادة ضخها في النيل لنتقاسمها جميعا وتحصل كل دولة على حصص إضافية من مياه النهر ولكن الأمر يجد الرفض دوما تحت زعم حقهم في ملكية مياه المستنقعات وأيضا حقهم في ملكية مياه النهر، وكأنهم كما يقول المثل في مصر «لا يرحم ولا يسمح برحمة ربنا»!!.

عندما وصلت إلى باب المؤلف الإثيوبي عن رؤية إثيوبيا لنهر النيل ولمصر لكاتبه جاكوب أرسانو وهو أستاذ تاريخ في جامعة أديس آبابا وليس أستاذا للمياه ولا الموارد المائية وبالتالي كتب عن الرؤية السياسية وتاريخ سير العلاقات بين إثيوبيا من جهة وبين مصر والسودان من جهة أخرى ومستغربا من وحدة مصر والسودان دوما في الهدف عند التفاوض مع أثيوبيا أو باقي دول المنابع وأنه لا حل لإثيوبيا في أي تفاوض مستقبلي بشأن خطة إثيوبيا في إقامة العديد من السدود للاستحواذ على مياه الأنهار التي تنبع من الأراضي الإثيوبية وتمثل ٨٥ – ٨٦٪ من إجمالي مياه نهر النيل إلا بإحداث انشقاق في الموقف المصري السوداني واستمالة السودان لتأييد الموقف الإثيوبي سواء بالحوافز أو بإقناعها بأنها لن تتضرر من السدود الإثيوبية بل ربما تستفيد من الآثار الجانبية لهذه السدود ومحاولة إقناع السودانيين بأن مستقبلهم مع إثيوبيا وليس مع مصر، وأن مصر يجب أن تكون ماضيا بالنسبة للسودان، وأن اتحاد السودان وأثيوبيا سيكون خطوة مهمة في السيطرة على مصر مستقبلا وإضعافها عن طريق تقليص ما يصل إليها من مياه النيل، وأنه بإضعاف مصر القوية تصبح للسودان مكانة أعلى. وتوقع الكاتب الإثيوبي أن تنجح إثيوبيا في استمالة السودان إليها وهو ماتحقق لأن سودان البشير كان لديه الاستعداد للتخلي عن مصر (ولن نقول خيانتها) لتبدأ بعدها مرحلة جديدة يمكن لإثيوبيا استغلال السودان ضد مصر خاصة في أحداث الفتن الطائفية التي تحدث في محافظات الصعيد وتأخذ الكثير من وقت وأموال مصر ثم دعم فصيل فجر ليبيا على الحدود الغربية مع مصر وتحسين التعاون مع حماس والحديث عن توحد الجميع في أنظمة إسلامية وهذا غير حقيقي خاصة بعد أن صرح البشير بنفسه تقربا لإثيوبيا بأن السودانيين ينتمون إلى الأصول الحبشية وليس إلى الأصول العربية حتى ولو كانت إسلامية وليس كما يتشدق بعلاقته بجماعة الإخوان وأنهم فصيل وطني وليس إرهابيا ولذلك ساعدهم في إيوا الهاربين من مصر ثم إعادة تسفيرهم إلى قطر وإلى تركيا وجنوب إفريقيا وحتى الاستقرار في السودان نفسه وقد سبق وأن تحركت قوات التشدد الديني من معسكراتها داخل الأراضي السودانية إلى إثيوبيا عام ١٩٩٥ لاغتيال الرئيس حسني مبارك، ولم تقدر السودان لمصر غفرانها لهذا الأمر واستئناف علاقتها مع السودان.

ومنذ عامين التقيت بالإمام الصادق المهدي في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية وكان من المفترض أن يتحدث عن العلاقات المصرية السودانية وسبل تحسينها ولكنه فضل الحديث عن إثيوبيا وسد النهضة موضحا تأييد كل طوائف السودان للسد بما فيها التيار الإسلامي الذي يقوده وموجها كعادته اللوم إلى مصر واتهامها بالتعالي في التعامل مع إثيوبيا وقيادتها وهذا غير صحيح على الاطلاق وإنما محاولات متكررة من المهدي للبحث عن إدانة لمصر وتأييد لإثيوبيا. سألت الإمام الصادق المهدي أمام الحضور وقلت له هل تعتقدون أن إثيوبيا تبني سد النهضة من أجل إفادة السودان كما تدعي أم أنها تخدعكم وتفاوضكم بالآثار الجانبية للسد العملاق بأنه سيحجز الطمي عن مياه النيل الأزرق الذي يقلل من سعات السدين السودانيين سنار ورصيرص، وأنه سمع أضرار الفيضان على ولايتي النيل الأزرق وكسلا وبالتالي يتوقف تدمير القري والأراضي الزراعية وقلت له إن جميع السدود في العالم تمنع الطمي وليس سد النهضة فقط، وأن جميع السدود في العالم تمنع الفيضانات وليس سد النهضة فقط، وبالتالي عليكم أن تنتبهوا إلى أن إثيوبيا تبني السد لصالحها الوطني فقط ولكنها تخدعكم باستفادتكم غير المقصودة ولا المخطط لها بالآثار الجانبية للسد، وأن الأضرار ستشمل حرمان السودان من مياه الفيضان التي تغمر أراضي السودان بالمياه لعمق مترين فتنمو المحاصيل الاستراتيجية التي تزرع فور انحسار الفيضان وتعطي محصولا دون أن تحتاج إلى الري لوفرة المخزون المائي في التربة، بالإضافة إلى تأثير مايأتي من طمي مع مياه الفيضان على خصوبة الأراضي السودانية وعدم احتياجها للأسمدة الكيميائية وإثارة الممرضة المسرطنة والمدمرة للبيئة الزراعية وصحة الشعب السوداني. تردد الصادق المهدي قبل أن يعترف أنه يعلم يقينا أن إثيوبيا تبني سد النهضة لصالحها الوطني فقط وأنها لا تفكر لا في السودان ولا في مصر ولكن وبالرغم من ذلك فإن صالح السودان حاليا مع إثيوبيا وليس مع مصر!، وبالتالي فالأمر الواضح هو النكاية بمصر وليس حبا في إثيوبيا رغم أن أطماعها في الأراضي السودانية معروفة وورطت مصر في حرب لمدة ٨٠ سنة في زمن حكم أسرة محمد علي وأولاده من أجل حماية السودان ضد الأطماع الإثيوبية، رغم أنه واقعيا كان من الأفضل أن تكون لمصر حدود مباشرة مع إثيوبيا وليس مع السودان لو تركنا لإثيوبيا كما كانت تخطط وتريد الخرطوم وعطبرة وكسلا والنيل الأزرق لتنتهي حدود أثيوبيا شمال الخرطوم بنحو ٣٣٠ كيلومترا وتبدأ بعدها حدود مصر شاملة كل أراضي النوبة داخل الحدود المصرية!.

وعلى الرغم من أن الوالي المصري في عام ١٩٠٢ قد كلف وزير داخليته بإسناد إدارة مثلث حلايب وشلاتين وأبورمادة للحاكم المصري في السودان (وليس للسودان رغم أنها كانت دولة واحدة تحت اسم مملكة مصر والسودان) لقرب المسافة من المثلث عن القاهرة لا أكثر، وأن اتفاقية قسطنطينية والتي حددت كل حدود دول إفريقيا قد رسمت الحدود المصرية كخط مستقيم فوق خط عرض ٢٢ شمالا وهو بذلك يضم حلايب وشلاتين داخل الحدود المصرية وأن مصر منذ ترسيم الحدود لم توقع أبدا أي اتفاقية لتعديل الحدود بين البلدين إلا أن الرئيس السوداني يتعمد دوما الخلط بين حق الإدارة وحق الملكية وبين إعادة ترسيم الحدود فيما يخص نحو ٢٠ ألف كيلومتر مربع هي مساحة هذا المثلث، بينما هو فرط في ٦٥٠ ألف كيلومتر حين أقر تحت الضغوط الدولية وبسبب تخليه عن مصر في استقلال دولة جنوب السودان عن شمالها بسبب سوء إدارة السودان لملفاته الدولية. الجميع في السودان يعلم أن اللجوء إلى التحكيم الدولي سيحكم لصالح مصر ومن أول جلسة لأن الحدود المصرية ثابتة ولا توجد أي اتفاقية لإعادة ترسيم الحدود كما أن وجود القبائل سابق على ترسيم الحدود في كل دول العالم فقبائل النوبة توجد نصفها في السودان ونصفها في مصر وهذا لا يعني أنها تنتمي لمصر أو للسودان وبالمثل قبائل حلايب وشلاتين، مثلما هو الحال في قبائل أولاد علي الأبيض وعلى الأحمر الموجودة في مصر وفي ليبيا، وقبائل رفح المصرية ورفح الفلسطينية وجميعهم أسر واحدة لكن ينتمون إلى دولتين.

وعلى الرغم من إيماني الشخصي بأن الرئيس السوداني كان أحد وسائل الضغط الشديد على مصر لتوقيع اتفاقية إعلان مبادئ سد النهضة في الخرطوم من عامين بإعطاء شرعية للسد دون الحصول على شرعية مماثلة لحصتنا في مياه النيل وهو ماظهر في الصور بفرحة طاغية للرئيس السوداني أعلى كثيرا من فرحة الرئيس الإثيوبي نفسه، وتحت ادعاء بناء الثقة من مصر مع أثيوبيا والتي سبق أن جربناها في بناء الثقة مع الحكومة الإسرائيلية ولم تثمر إلا عن تفشي الإرهاب في سيناء، ومع ذلك كانت مصر حريصة على دعوة الرئيس البشير للمشاركة في كل احتفالاتها في افتتاح قناة السويس الجديدة وفي مؤتمر شرم الشيخ لتشجيع الاستثمار في مصر بعد ثورة ٣٠ يونيه إلا أن البشير في كلمته طالب الحضور بالاستثمار في السودان كما طالب الرئيس الإثيوبي أيضا بالاستثمار في بلاده متناسين أنهم يحضرون مؤتمرا لتشجيع الاستثمار في مصر وليس أخذ المستثمرين من مصر إلى بلادهم. وفي أحد زياراته لمصر أجرى الرئيس البشير حوارا مع قناة المحور الفضائية المصرية ليقول فيه إن على مصر أن تعترف بأن إثيوبيا أصبحت هي قلب إفريقيا وليس مصر!! ولم يكن متوقعا من الشقيق السوداني أن يأتي إلى مصر لبث روح اليأس في نفوس المصريين وبغير حق فمازالت مصر هي أكبر اقتصاد في إفريقيا ومازالت الدول الإفريقية بما فيها أثيوبيا تطلب خبراء الزراعة والمياه والهندسة والاقتصاد والأطباء من مصر وليس من أثيوبيا ومازالوا يرسلون إلينا أبناءهم للدراسة في الجامعات المصرية وليس في الجامعات الإثيوبية ومازالت مصر أكبر جيش في إفريقيا وعاشر أكبر قوة عسكرية عالمية.

لم يكتف الرئيس البشير بكل هذه العكوسات فاتخذ قرارا بإيقاف استيراد الفاكهة والخضر من مصر دون أساس علمي أو معملي مشيرا إلى أن وسائل الإعلام في مصر تنشر عن تلوث مياه الري بمخلفات الصرف الصحي متناسيا أن هذا الانتقاد الداخلي بغرض الوصول إلى الأفضل ولتنبيه البلاد بألا تضيع جهد زراعاتها بالإهمال في قطاع الحفاظ على البيئة، لأن مصر ورسميا وطبقا لتقرير منظمة الأغذية والزراعة الصادر عام ٢٠١٤ تستخدم ٥٧ مليار متر مكعب من مواردها المائية أي ١٠٣٪ من حصتها من مياه النيل في الري والزراعة فكيف لكل هذا الحجم الهائل من المياه أن يتأثر بكميات من مصرف الصحي التي لا تتجاوز جميعها ٥٪ من هذا الحجم! ونحن لدينا أكبر عدد من محطات الصرف الصحي ليس في مصر فقط بل في جميع دول القارة الإفريقية. ولأن بعض الأشقاء الخليجيين يستثمرون بحسن نية في السودان دون معرفة لاستغلال هذا الاستثمار ضد الشقيقة الكبرى مصر فقد صرح الرئيس البشير في افتتاح مصنع لحفظ الخضراوات والفاكهة في الخرطوم الأسبوع الماضي بأن السودان لن يأكل مجددا أغذية ملوثة مستوردة في إسقاطه على مصر وبغير وجه حق!. ليس خافيا على أحد أنه ومنذ تعويم الجنيه المصري في ٣ نوفمبر الماضي ومضاعفة أسعار الدولار مقابل الجنيه المصري وبالتالي أصبحت الخضراوات والفاكهة المصرية برخص التراب وأصبحت مصر لا تلاحق طلبات استيراد الخضراوات والفاكهة من تركيا ولبنان والإمارات والسعودية وسلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت ودول الاتحاد الأوربي وروسيا وأوكرانيا فصدرنا كميات غير مسبوقة من الخضراوات والفاكهة المصرية إلى هذه الدول وحسنا فعلت السودان – رغم سوء نيتها- بإيقافهالاستيراد الخضراوات والفاكهة من مصر حتى يمكننا ملاحقة طلبات الدول المتقدمة الأخرى على منتجاتنا الزراعية والتي تقوم بإجراء أحدث وسائل التحاليل وسلامة الغذاءعلى كل مايدخل أراضيها ولا تتحجج بما ينشر في وسائل الإعلام المصرية حيث نستمتع أحيانا بجلد الذات للوصول إلى الأفضل ولم تتلق مصر أي تقارير علمية معملية لا من السودان ولا من غيرها تدين سلامة الغذاء المصدر من مصر، وإنما تعمدت السودان الإساءة إلى المنتج المصري دون دليل علمي ومن حق مصر لو أرادت بأن تطلب تعويضا دوليا كبيرا من السودان بتعمدها الإساءة إلى المنتجات المصرية دون دليل علمي ولا تحاليل معملية، حتى أن السودان قامت الشهر الماضي بإعدام ٤٠ طن برتقال بدعوى عدم صلاحيته للاستهلاك الآدمي!! وكأنه أغذية محفوظة أو حبوب تصلح للاستهلاك الآدمي أو الأعلاف والاستهلاك الحيواني حيث لا يوجد برتقال للاستهلاك الحيواني ولا غير الآدمي والقواعد التجارية العالمية كانت تقتضي بإعادة شحن البرتقال إلى مصر وليس إعدامها ولكنها الرغبة في الإيذاء فقط!!.

وأخيرا نود الإشارة إلى إعلان غريب صادر من حاكم الخرطوم في الصيف الماضي يعلن فيه عن وجود فائض من المياه عن حاجة سكان العاصمة وأنها على استعداد لتصديرها إلى الأشقاء في الخليج، متزامنا في نفس الوقت عن إعلان إثيوبيا بمد أنبوب من المياه العذبة من الأراضي الإثيوبية وحتى ميناء بور سودان وبالتالي وضحت الصورة بأن السودان يبيع المياه لصالح أثيوبيا وليس بسبب وجود وفرة مائية لديه لأنه من المعروف أن السودان تعاني أزمة مائية كبيرة مثل مصر تماما وليس لديها فائض من المياه لتبيعه وأن زراعاتها مازالت زراعات مطرية متراجعة قليلة الإنتاجية وبنسبة ٨٨٪ من إجمالي زراعات السودان ولو كانت السودان تمتلك وفرة من المياه لحولت نسبة من هذه الزراعات إلى زراعات مروية تعطي أضعاف المحصول ولكن ذلك يتطلب إنشاء شبكة ري وصرف زراعي فوق طاقات السودان وأنها تريد من المستثمرين الزراعيين أن يقيمون لها هذه البنية الأساسية من شبكات الري ثم تؤول ملكيتها بعد ذلك إلى السودان وإلا فعليهم الاعتماد على الزراعة المطرية قليلة المحصول، فعلي المستوي العالمي تمثل الزراعات المطرية ٨٣٪ من زراعات العالم ولكنها تعطي ٦٠٪ فقط من الإنتاج الزراعي العالمي بينما تمثل الزراعات المروية في العالم ١٧٪ فقط إلا أنها تعطي ٤٠٪ من الإنتاج الزراعي العالمي بما يوضح الفارق الكبير بين إنتاجية الزراعات المروية المرتفع وبين الزراعات المطرية قليلة المحصول وليس خافيا أيضا أن يكون محصول مصر من زراعة ٨.٦ ملايين فدان يتجاوز أربعة أضعاف الإنتاج الزراعي في السودان لمساحة ٣٢ مليون فدان!!، وأن السودان رغم هذه المساحات الكبيرة التي يزرعها يستورد ٣٠٪ من احتياجاته من الحبوب طبقا لتقرير البنك الدولي الصادر عام ٢٠١٠ في إصداره بعنوان «تحسين الأمن الغذائي العربي» والذي يختتم بأن ماتعلنه السودان عن أنها ستكون سلة غذاء العرب غير صحيح وغير واقعي وأن أقصى مايمكن أن تحلم به هو أن تحقق الاكتفاء الذاتي من الحبوب فقط وليس توفير الغذاء لنحو ٣٨٠ مليون عربي بينما هي لا تستطيع إطعام ٤٠ مليون سوداني.

في الأسبوع الماضي اكتشفت مصر إصابة ٥٧ من الجمال القادمة من السودان بفيروس كورونا القاتل من إجمالي ١٥٠ جملا ومع ذلك وحفاظا على صالح السودان لم تعلن مصر في وسائل الإعلام عن تفشي المرض الخطير في الثروة الحيوانية السودانية واكتفينا برد الجمال في صمت إلى الأشقاء، ولكن علينا إعادة النظر في صفقة استيراد ٨٠٠ ألف رأس ماشية من السودان حفاظا على صحة الشعب المصري والتحول إلى الاستيراد من تنزانيا وأوغندا ثم موريتانيا والصومال وجيبوتي.

لا مستقبل للسودان إلا مع مصر ونحن لا نريد لها أن تعود مجروحة ومصابة بعد تجربة خطرة مع إثيوبيا وعلى السودان أن تراجع كيف أخضعت مصر للسودان مملكتي كردفان ودارفور المستقلتين لأكثر من ٢٠٠ سنة، ولتتذكر السودان أن كبير مهندسي الري المصري كان يقيم في السودان طوال القرن الماضي وأن مصر أدخلت زراعات القطن والدخن إلى السودان وأنها أنشأت شبكات الري في مشروع الجزيرة وفي أراضي زمام خشم القربة، وأن الأصناف المصرية في القمح وبنجر السكر تزرع الآن في السودان، وأن فرع جامعة القاهرة في الخرطوم تم تأميمه في خطوة غير مبررة رغم ما يعكسه من هموم مصرية بتحضر السودان من سنوات طوال وأنها لم تبخل على السودان بفرع للجامعة الأم والذي لم تحفظه السودان وقامت بتأميمها.

إذا أردتم أن تتحول الدماء التي تجري في عروقنا كمصريين وسودانيين إلى ماء فلن نرضي بذلك وأسألوا أكثر ٤ ملايين سوداني مقيم في مصر على الرحب والسعة لم يُمسوا أبدا مهما تدهورت العلاقات بين البلدين وفي المقابل راجعوا ماذا حدث للعاملين السودانيين بعد تحرير الكويت ثم بعد غزو العراق، لتعلموا أن مصر هي الملاذ والملجأ والحضن الأمين.

 

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة