السبت 1 يونيو 2024

عمار فرحات.. من بائع متجول إلى توطين الرسم في تونس

21-4-2017 | 13:44

حسن أحمد جغام - كاتب تونسي

وُلد الرسام التونسي عمار فرحات بمدينة "باجة" سنة 1911، وعاش فيها طفولته الأولى في فقر مدقع، يتيم الأب وهو في سن الرابعة، فنزح مع أمه وأخواته الثلاث إلى العاصمة بحثا عن لقمة العيش. سكن في حي "باب سعدون" القريب من حي الحلفاوين. وفي سنة 1918 أحس عمار بأنه رجل العائلة وعليه أن يساعد أمه وإعالة أخواته الثلاث، فأقبل على عدة أعمال، منها بائع متجول، وبائع خضر، وفحام، وعمل خبازا، ثم "دلالا" في سوق النحاس، وعمره لا يزيد على سبع سنوات، وقبل أن يباشر الرسم عمل ملاكما ومن حسن حظه أنه كان في طفولته يتمتع بجسم صلب وقامة ذات فتوة جعلت منه مصارعا صغيرا، فكان في تلك الظروف المتردية، يوظف عضلاته القوية لمصارعة أطفال في سنه.

   وبعد أعوام من حياة التمرد والعربدة، إذ كان يجوب الأحياء الشعبية ويتوقف في المقاهي، بدأ يحاول الرسم، فكان يرسم الوجوه والملامح بالفحم بطريقة عفوية. ثم راح يبحث لنفسه عن طريق آخر. وبدأ يعبث بالفحم على جدران البيوت في الزقاق الذي يقيم فيه. وفي نفس الوقت بدأ يتذوق الألحان الموسيقية. فشغف بعبدالحي حلمي وسيد درويش، وحفظ عن ظهر قلب الكثير من الأدوار، وتحول إعجابه بهؤلاء الفنانين فرسم وجوههم بالفحم، على الورق، فاكتشف في نفسه موهبة التصوير.

   لم يكن الرسم التشكيلي من تقاليد التونسيين في تلك الفترة، وكانت تمارسه فئة من الفرنسيين والإيطاليين وبعض اليهود الإسبان المقيمين في تونس. لا شك أن عمار فرحات في تلك الفترة كان يرى بوعيه المبكر أن أسباب التمدن لا تُكتسب إلا بما تفوق فيه الأوروبيون، وكان هذا رأي معظم المثقفين العرب، إذ رأوا أنهم ليسوا أقل ذكاء منهم، وأنهم قادرون على منافستهم.

في تلك الفترة كان عمار فرحات يقيم في حي شعبي بباب سعدون ولم يكن يعيش في مناخ فني، ولم يكن يحيط به أحد من الرسامين، ولا حتى أحد من هواة الرسم في حيه، ولم يكن من المثقفين الذين يزورُون المتاحف أو مُطلِعا على الكتب الفنية، ليتأثر بهذه الأجواء. ومع ذلك أن يكون الفن مستقبله. وقال: "كانت سنة 1935 نقطة نور في حياتي، أقسمت أن أكون رساما، رساما حقيقيا، رساما لا غير، كنت حائرا جدا في أمري كنت أحس أشياء غامضة في صدري لا أقدر على التعبير عنها. كنت قلقا مضطربا، فزعا، كنت أريد أن أتنفس. أخيرا، اشتريت صندوقا من الألوان، وكان لي الشرف بأن أحمله معي دائما. وعدت نفسي وعدا قاطعا بأن أكون جديرا بفن الرسم، طاهرا من جميع الأدران طوال حياتي، محترما الفن حتى مماتي".

   ظل يفرض إرادته رغم افتقاره لأي رصيد معرفي يؤهله لما يطمح إليه، وتلك هي المرحلة التي اعتمد فيها على تعليم نفسه بنفسه. وأكد الكاتب المسرحي عزالدين المدني هذه الخصوصية فقال: "إن عمار هذا لم يمارس الرسم بل اخترع الرسم، ذلك أن الرسم لا يدرس في المدارس، والمعاهد والكليات. والحقيقة أن الإنسان ليندهش كيف استطاع عمار فرحات أن يكون معلما نفسه بنفسه "أن يكون المعلم والتلميذ في نفس الحين!".

    وقال أيضا: لا نخشى أن نصف عمار فرحات بالفنان المبدع لأننا نريد أن نصنع منه شخصية خرافية، فنقول على سبيل المثال إنه أمي، ورغم أميته فهو رسام، فإننا نريد أن نقول إن أميته هي التي صنعت منه النبوغ والعبقرية! وهذا هو الرأي الشائع في شأن عمار فرحات.

   وظل يمارس عبثه بالفحم تارة على الجدران وتارة على الورق، وكلما وُفق في تصوير شخصية بأكثر إتقان ازدادت ثقته بموهبته الفنية وازداد اندفاعه في التصوير.

وبعد فترة من هذا النشاط الفني، أمكن له أن يتعرف إلى بعض الفنانين فتوطدت الصداقة بينه وبين الزبير التركي والهادي التركي وهما من أعلام الفن التشكيلي في تونس، كان ذلك سنة 1937 وامتدت صداقته معهما طيلة حياته. وفي سنة 1938 عرض عمار فرحات لأول مرة أعماله برواق "البيتي ماتان" وكانت عبارة عن لوحتين مائيتين، ثم كانت الحرب العالمية الثانية سنة 1939، فلجأ مع عائلة التركي إلى الوطن القبلي حيث عاش مثل كل الهاربين من الحرب في الفقر والجوع والخصاصة. إلى أن حلت سنة 1949 فالتحق بمجموعة "مدرسة تونس للفنون الجميلة"، وأصبح في رصيده لوحات منها لوحة رسم فيها استعداد العروس في بيت فقير الأثاث وعلى ضوء شمعة خافت فكانت كأميرة في قصر سلطان، وأحرز عنها جائزة الرسام الشاب، وكانت قيمة الجائزة مائة ألف فرنك، فساعدته هذه الجائزة على السفر إلى باريس، وهناك تعرف إلى الأوساط الفنية، واكتشف بدائع الفن في متحف اللوفر وغيره من متاحف باريس.

   واستمرت رحلاته إلى روما سنة 1952، ثم إلى السويد سنة 1957، ثم إلى روسيا سنة 1960، فساعدته الرحلات على استيعاب المدارس الفنية، غير أنها لم تؤثر في أسلوبه الفني. فرغم تقديره لأعمال "موزاس ليفي" في تونس، وإعجابه بجورج براك في فرنسا، فإنه لم يرسم بأسلوبهما التكعيبي إلا لوحتين أو ثلاثا، ولكنه ظل يحلم بعالمه الذي عاش فيه بقية حياته في مدينة تونس بأقواسها وأزقتها الضيقة، وليس عنده ألذ من رسم موكب عروس على الطريقة التقليدية في مدينة باجة مسقط رأسه.

   وفي سنة 1984 أقيمت له احتفالية أشرفت عليها المندوبية الجهوية للثقافة في باجة، التابعة لوزارة الثقافة وبهذه المناسبة أحرز عمار فرحات الجائزة الكبرى للفنون. وكان من المفروض أن ينالها قبل هذا التاريخ بعقدين أو ثلاثة. وهو الذي كان رئيسا لاتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين. وقد كان هذا الفنان العصامي مهضوم الحق في التنويه برُؤاه ومسيرته النضالية، ولولا ما كتبه كل من علي اللواتي مدير الفن الحي لمدينة تونس، وعز الدين المدني الذي أعطاه البعض من حقه، لكان عمار فرحات في طي النسيان.

   قبل أن يبدأ عمار فرحات الرسم، كان يعيش حياة ضياع وتمزق، يتسكع في شوارع المدينة، بحثا عن كسب قوته اليومي، فكان يعيش مع الطبقة الشعبية المعدومة التي تحصل على ما يملأ البطن بالعرق والشقاء المضني. في تلك الفترة كان الاستعمار الفرنسي يتعسف على قادة الحركة الوطنية ويلاحقهم بكل أساليب العنف من سجن ونفي واضطهاد. فتحرك شعور عمار فرحات الوطني، وأقبل على تصوير الزعماء المغاربة والمشارقة وصور الزعيم كمال أتاتورك بالفحم على الجدران معبرا بذلك عن تعلق الشعب بزعمائه، فكان في تلك المرحلة الرسام الوطني الوحيد بكل جدارة، ووصف أحد الذين عاشوا تلك الأحداث أعماله الفنية بأنها "بمثابة المنشور السري الذي يتناسب حجمه والمقال السياسي والخطاب الجماهيري".

   إضافة إلى ما أبداه عمار من براعة في تصوير الشخصيات شده تصوير المواضيع الاجتماعية، فاختار الطبقات الشعبية وأصحاب المهن الصغرى وما إلى ذلك من مشاهد. ولم تلق محاولاته أي اهتمام في تلك المرحلة الأولى من حياته الفنية، لا من قبل المواطنين، ولا من الذين يهتمون بالفن التشكيلي، فلم يكن هذا الفن من التقاليد العربية، فيعتبره البعض من البدع الغريبة عنا.

   حين نمعن النظر في لوحات عمار فرحات، نجد معظمها يهتم بالحياة الشعبية التونسية، فلو وضعنا تلك اللوحات بجانب بعضها البعض بدت لنا كالشريط الوثائقي من المشاهد التي تجسم الحياة الشعبية التونسية، في الفترة الممتدة بين الحرب العالمية الأولى والثانية. فاقتحمت ريشته البيوت التونسية، ورفعت الحجاب عنها، فنجد الأجيال الثلاثة، الجدة والأم والبنت، عالما مفعما بالطقوس والعادات والوجوه الجميلة والمضطربة بمشاعر الفرح والآمال المنتظرة. وصور الأعراس البدوية، والموسيقيين الشعبيين. ثم اقتحمت ريشته المقاهي والمساجد والأسواق والشوارع.

   إن من يقف أمام تلك اللوحات لا يستطيع أن يستوعب شحنتها الفنية والإنسانية في قراءة واحدة، بدافع الحنين للتمعن في الطابع الهندسي الأندلسي، وهي في نفس الوقت تعبر عن الحياة اليومية للناس العاديين من عمال وباعة متجولين. كل هذه المواضيع، نابعة من تصور للواقع الذي عاشه، إنها صور من الوجوه والملامح والمشاعر، جميعها مُجسم في الطبقات الكادحة، حيث بيئته في شبابه وكهولته. ثم اهتم بالأقليات مثل الزنوج والبدو، وصور المهمشين الفقراء وأضفى عليهم الكرامة، فلا ترى في وجوههم بؤسا بل أنفة.

   لم يرسم عمار إلا لوحات قليلة حول الطبيعة، أو البنات بأزياء عصرية، فمعظم لوحاته موضوعها الذات البشرية، بما فيها من أفراح وأحزان، بالرغم من أن الوجوه التي رسمها لا هي تبكي ولا هي تضحك، فكان يرسم الحسناوات بحس مرهف، وفائض الإحساس.

    جمع عمار بين الوجوه البشرية، والهندسة المعمارية العربية، فأخرج فنا عفويا، في ظاهره الألوان الساطعة والحادة، وفي باطنه روح المناخ التونسي في سماته العربية. كان في نظر عمار فرحات أن أبناء الشعب هم المادة الخصبة، والرصيد الفني الثري بالألوان والأضواء والحركة.

   ويمكن القول إن عمار استنبط منهجية خاصة لفنه لا أثر فيها لأساليب الغرب أو الشرق، لأنه استجاب لما شده بعمق إلى أبناء الطبقة الشعبية المتآكلة، فنراه يغوص فيها ليقدم لنا عملا فنيا إنسانيا رائعا. وظل البعض ممن اكتشف مواهب عمار يتساءل في تعجب عن أدوات التعبير التي امتازت بها لوحاته. أهمها استعماله لمادة الألوان، وهي في أغلبها من مزجه وخلطه وخلقه، وبذلك كله استطاع أن يهتدي إلى طريقة تشكيلية تونسية، من أهمها أدق خصائصها البساطة، والشاعرية الرقيقة التي تبعث البهجة في النفوس، إن لم يُحاك أو يقلد أحدا، أو يجلس بين يدي أستاذ يعلمه شيئا من هذا الفن.

   اختار عمار للوحاته اختصار الأشكال والألوان، وتجنب التعقيد في ما يختاره من مواضيع، وكان يُفضل الألوان الترابية، منتقلا من الأصفر الصحراوي إلى البُني، ثم يضفي عليها لمسة من الأزرق البحري ثم في مرحلة لاحقة يختار الأضواء الليلية، فيركز على اللون الوردي والبنفسجي والأزرق بكل درجاته. ويكمن إبداعه في استيعابه لتقنيات رسم "الشوفالي" والسيطرة عليها وحذقها في كيفية إيجاد منهج خاص به بلغ أحيانا في تركيبه الفني ما بلغه كبار الرسامين الفرنسيين في بداية القرن العشرين.

اعتراف الجميع بنبوغه

بمناسبة الاحتفال بمئوية عمار فرحات احتفلت وزارة الثقافة وأخرجت من مستودعاتها أكثر من ثلاثين لوحة مختلفة المضامين والأحجام لتُعرض لأول مرة بعد أن ظلت طوال سنوات عديدة في دهليز تنخره الرطوبة. فأقبل جمهور غفير يومي 24 و25 ديسمبر 2011 وتواصل عرض اللوحات إلى ربيع 2012 بتونس العاصمة. وشارك في الاحتفالية معظم الرسامين، كما أشاد النقاد والمثقفون بمواهب عمار وأعماله، وأقامت "جمعية عمار فرحات للفنون التشكيلية" التي أسسها للمحافظة على ذاكرة باجة في مجال الفنون الجميلة، مائدة مستديرة أسهمت بأنشطة إضافية كتوزيع جوائز على شباب باجة لأعمالهم الفنية.

    تستحق حياة عمار فرحات الخاصة الإشادة هي الأخرى لما تضمنته من قيم سامية، كان يرى أن أمه سهرت على تربيته ووقفت إلى جانبه في أدق ظروف الحياة، وتحملت معه المعاناة والشقاء، فرأى أن شبابه وحياته كانا رمزا لأسمى الوفاء. فأبى أن يتخذ زوجة، أو ينجب أطفالا إذ بلغت درجة حبه لأمه درجة العبادة، فبقي في خدمتها ورعايتها إلى أن فارقت الحياة، وتقديرا لها ظلت رسومه تفيض بموضوعات الأمومة، فكانت بعض لوحاته تحية خاشعة لأمهات العالم. وهناك جانب مهم آخر في حياة عمار فرحات وهو أنه كان متواضعا في سلوكه، زاهدا في مغريات الدنيا، مكتفيا بأيسر الضروريات، رافضا الغرور متجنبا الكبرياء، بهذه الأخلاق الحميدة كان عمار فرحات محل إعجاب وتقدير من قبل كل من عرفه.