الخميس 16 مايو 2024

"الجلف".. نكتة تشيخوف حتى تتعظ النساء

22-4-2017 | 10:14

يسرى حسان - شاعر مصري

 مزحة أو نكتة فى فصل واحد.. هكذا وصف تشيخوف مسرحيته القصيرة "الدب" التى كتبها عام 1888 واختار المخرج محمد مكى تقديمها مع فرقة الإسكندرية التابعة للبيت الفتى للمسرح تحت عنوان "الجلف" كما قدمها غيره من قبل بنفس الاسم، وفى ظنى أن "الجلف" أفضل وأوقع وأكثر اتساقا مع بيئتنا وكذلك مع ما نشاهده.

   العرض تم تقديمه على مسرح الطليعة فبراير 2017 بعد أن شاهده جمهور الإسكندرية، وهو سلوك حميد من البيت الفنى للمسرح أن يتم تجوال العروض فى محافظات مصر المختلفة، سواء التى تقدمها فرق البيت فى القاهرة أو الإسكندرية حتى لا يكون المسرح حكرا على المحافظتين الكبيرتين فقط.

   هى مزحة بالفعل لكنها لا تكتفى بالكوميديا كغاية بل تتخذها وسيلة لإيصال معنى محدد وواضح مفاده أن "الجلف" ليس هو ذلك الرجل البسيط الذى لا يجيد تنميق الكلام ولا يعرف "سكته" الصحيحة إلى قلب الأنثى، لكنه ذلك الشخص الذى يأسر أنثاه بعبارات الغزل فيما هو يخونها مع غيرها، هذه هى الجلافة كما ينبغى أن تكون.

   أرملة ثرية أو كانت، تقيم بمفردها فى قرية نائية مع خادمها شبه المخنث، تعلق على الحائط صورة زوجها الوسيم الذى رحل منذ عدة أشهر، وكذلك صورة حصانه، مفضلة الانعزال عن العالم ورافضة مقابلة أى غريب، ليس احتراما لذكرى زوجها كما يبدو أمام الآخرين، ولكن عقابا لنفسها على الارتباط بهذا الزوج الذى خانها مع أخريات وبدد عليهن ثروتها.

   يهبط عليها فجأة تاجر فلاح، وهو أيضا ضابط متقاعد، له دين عند زوجها ويصر على مقابلتها ويقتحم عزلتها، وعندما تخبره أن مدير أعمالها غير موجود أو بمعنى أصح أنها لا تملك ما ترد به الدين، يقرر البقاء فى منزلها حتى يحصل على حقه. ومن خلال الأحداث والمفارقات الكوميدية نكتشف أن هذا الرجل الذى يتصرف بشكل تنفر منه الأرملة وتصفه بأنه فلاح جلف، يحبها مما سمعه عنها من زوجها الراحل الذى كان دائما ما يذيع أسراره الخاصة معها عندما يكون فى الحانة مع أصدقائه، وأنه ما جاء للحصول على حقه بل جاء للحصول عليها نفسها مع إدراكه أنها مفلسة، ورويدا رويدا تتغير نظرة الأرملة إلى ذلك الفلاح الجلف وتكتشف أن زوجها الراحل ما هو إلا أكبر جلف فى العالم، وتبدأ فى الميل إلى زائرها وترتبط به فى النهاية.

   ليس هناك حدث مهم وضخم ومزلزل، ولا أسئلة عميقة تطرحها الدراما، كل ما فى الأمر أننا أمام نص بسيط يتيح لصناع العرض إبراز إمكاناتهم ومواهبهم لتقديم عرض كوميدى خفيف ونظيف بعيدا عن الإسفاف ومغازلة شباك التذاكر، والأهم أنه ينتمى إلى المسرح ويقدم صورته وتشكيله الجمالى وأداء ممثليه المقنع أو المأخوذ من روح الشخصيات.

   لم يشأ مهندس الديكور د. محمد سعد استعراض عضلاته والتحليق بعيدا عن أجواء العرض، أو العمل لحسابه الشخصى، ديكوره كان واقعيا وثابتا طوال العرض، منظر واحد عبارة عن حجرة استقبال كبيرة بها شرفة تطل على حديقة يستطيع المشاهد أن يرى السائر فيها مما يعطى نوعا من الرحابة ويضفى على المكان أجواء من الفخامة والعظمة حتى وإن كانت صاحبته قد أفلست، فعادة هؤلاء أن يبدو مظهرهم أمام الناس كما لو كانوا يعيشون فى أبهة وثراء، وربما تم وضع زجاجات المشروبات وسلة الفاكهة الممتلئة للتأكيد على هذا الأمر، ونفس الشيء مع الملابس، التى صممها وليد جابر، خاصة ملابس الأرملة والخادم التى تليق بوضعهما ليظن من يدخل البيت أن "تحت القبة شيخا". وموسيقى العرض التى أعدها جورج فتحى كانت أحد أبطاله، موسيقى فرحة شقية ملأت كثيرا من مساحات الصمت وعبرت عن طبيعة حركة الشخصيات وإيماءاتهم، وهى هنا بطل لأن حذفها يخل بالدراما وربما يعيق التواصل مع الصالة، لذلك وضعها المعد بوعى شديد مدركا أى نوع من المسرح يتعامل معه، وهو نفس ما سار عليه الكيروجراف "مصمم الرقصات والحركة" محمد عبد الصبور.

   إضاءة إبراهيم الفرن صارت دالة عليه، فهو واحد من أشطر مصممى الإضاءة الآن، اكتسب خبرة كبيرة من خلال تعامله مع فرق الثقافة الجماهيرية التى بدأ معها، ثم انطلق إلى عروض مصرية وعربية وعالمية، يتعامل مع كل عرض بوعى شديد وقدرة على تلبية احتياجاته، مدركا أن الإضاءة ليست حلية وليست مجردة إنارة لكنها تعكس أجواء المشهد ودلالاته، لذلك جاءت إضاءته متنوعة حسب كل مشهد وعاكسة لأجوائه، ما جعلها عنصرا فاعلا ومؤثرا فى العرض.

   تغرى الكوميديا دائما بالمبالغة والخروج عن النص المكتوب، وهو ما حدث فى بعض الأحيان، خاصة من محمد مكى "الجلف" وأحمد السيد "الخادم" حدث خلط غير مبرر بين الفصحى والعامية، وأطلقت بعض العبارات ذات الإيحاءات الجنسية، وحاول الممثلان ربط العرض بالواقع الآنى عبر التطرق للمشاكل الاقتصادية، وهو ما لم يضف شيئا للعرض، بل أضر به كثيرا. أما إيمان إمام فقد بدت راسخة وواثقة من قدراتها كممثلة تمرست على الوقوف على الخشبة وأداء العديد من الشخصيات المختلفة، وهى ممثلة لها حضورها الذى يبعث الثقة فيمن يقف أمامها، أدت دورها واعية بطبيعة الشخصية ومعبرة عن آلامها وتناقضاتها وما تحمله من ضغينة ضد زوجها الراحل.

   يطرح العرض مشكلة جديرة بالمناقشة، وهى ذات شقين، الأول فكرة المخرج/ الممثل، أى المخرج الذى يمثل فى عمل من إخراجه ما يحجب عنه فرصة مراقبة ممثليه وتوجيه ملاحظاته إليهم، بعض المخرجين ينجح فى الجمع بين المهمتين، وبعضهم لا ينجح أو يكون نجاحه محدودا، وفى حالة مكى أظن أنه كان من الأفضل إسناد الدور إلى ممثل آخر، ليس حكما بالقيمة على موهبته التمثيلية، وهى جيدة، ولكن يمكن استغلالها فى عروض من إخراج آخرين.

   الشق الآخر يتعلق بالممثل البديل، فقد اضطر مكى إلى القيام بدور إسلام عبدالشفيع عندما انتقل العرض إلى القاهرة، وعبدالشفيع لمن لا يعرفه ممثل صاحب موهبة شديدة التميز وذو مواصفات جسدية تختلف تماما عن مواصفات مكى الجسدية، لكن مكى الذى توصف شخصيته فى العرض بأنها قوية البنيان وصاحبة يدين قويتين أو غليظتين، كان يمكن له تجاهل هذا الأمر ويحاول البحث عن "سكة" أخرى، لكنه تعامل كما لو كان إسلام عبدالشفيع هو الذى يقف على الخشبة ما أدى إلى عدم اقتناعنا، فى كثير من الأحيان، بالشخصية التى أمامنا، لا أقول إنه استعار طريقة عبدالشفيع فى التمثيل لكنه لم يستطع الخروج من إطار الشخصية التى لها مواصفات ربما لم تتوافر فيه.

   أيا كان الأمر فإن ما يحسب لمحمد مكى كمخرج أنه قدم رؤية مسرحية بسيطة ومدركة لطبيعة النص وحشد لها عناصر طيبة تمثيلا وإضاءة وديكورا وموسيقى وحركة، قدم عرضا مسليا ومبهجا، وإن خانه التوفيق فى بعض الأحيان.