الأحد 19 مايو 2024

بيسا

22-4-2017 | 10:19

أحمد الخميسي - كاتب مصري

 نقرات الطبلة المشدودة وإيقاعها المتقد بدأ بعد ساعتين من تجمع شباب الصحفيين، الذين أخذوا احتشدوا عند رصيف نقابتهم في الحادية عشرة صباحا، وقفوا يلوحون بالقبضات، يؤرجحون عاليا لافتات الاحتجاج، يهتفون تحت شمس مايو الحارة: "ارفع صوتك، قلها معانا.. حبس الكلمة، عار وخيانة". على درج النقابة المرتفع خلف الشباب وقف كبار السن من الصحفيين يحتمون من سخونة الشمس، يتابعون الحركة تحت أبصارهم.

    في الناحية المقابلة، ركنت سيارتان مصفحتان سوداوان، التف حولهما عساكر بخوذات على رؤوسهم، استماتت أصابعهم على مواسير بنادقهم المدلاة من أكتافهم بينما أبصارهم مثبتة إلى الرصيف الآخر. خلف العساكر جلس ثلاثة ضباط على كراسي أمالوا ظهورها إلى جدار يتابعون المشهد بنظراتهم. بين الرصيفين امتدت مساحة من الإسفلت خالية، كأنها منذورة لساعة الاشتباك المباشر. بقيت موجات التوتر تروح وتجيء بين الرصيفين، مثل رسائل صامتة، حتى أمسك كاتب عجوز بميكروفون ووجه سبابته إلى الرصيف حيث الشرطة: "احنا خلاص مش ح نطاطي.. احنا كرهنا الصوت الواطي". تلقف الشباب الصيحة واشتعلوا يتقدمون وينحسرون. اعتدل الضباط على الكراسي، واستخدم أحدهم جهاز اللاسلكي، فاقتحمت الشارع سيارة ثالثة مصفحة توقفت بجوار العسكر، انفتح بابها الخلفي وهبطت منه مجموعة من النساء والرجال، في مقدمتهم "أشرف تكتوك" أشهر لص تكاتك في الجيزة في أعقابه "سنية حشيشة" البدينة الشحيمة معلمة قهوة العمرانية، ثم هبطت "بيسا"، بعودها النحيل ووجهها البرونزي في بنطلون جينز ضيق وبلوزة زرقاء. وشكلت المجموعة دائرة عند حافة الرصيف، وعلى الفور اعتلى "أشرف تكتوك" أكتاف رجلين وأبرز إصبعه الوسطى تجاه الصحفيين يلعبها لهم في الهواء هاتفا: "يا أولاد الوسخة يا زبالة.. عاملين قال يعني رجالة". حينئذ، حوالي الساعة الواحدة ظهرت الطبلة، أخرجتها "سنية حشيشة" من كيس قماش، ومسحت على جلدها بكفها وأخذت ترسل نقراتها المحمومة تضبط إيقاع الهتاف، وإيقاع الرد: "يا زبالة.. آه يا زبالة". غمرت نقرات الطبلة كل شيء بقوة وصخب. وما لبثت " بيسا" بأعوامها الثلاثين أن اندفعت إلى مركز الحلقة.

    سحبت وشاحا حزمت به خصرها النحيل، فصاحت النسوة "يا الله يا بيسا.. وريهم". وأخذت "بيسا"، التي ضبطت مرات عديدة في دعارة، ترقص مثل لسان من لهب، تميل برأسها للخلف، تشبك يديها عاليا في الهواء، تستدير فجأة إلى ناحية الصحفيين وتشير بسبابتها "يا زبالة.. آه يا زبالة". رفع الكاتب العجوز رأسه بوجه محتقن: "الكلمة الحرة في كل مكان.. رغم السجن والسجان". بدأت الأقدام من الطرفين تدوس المساحة الفارغة بينهما، تتراجع، وتعود لتتقدم، منذرة بالاشتباك. انتزع صحفي شاب الميكروفون من يد الكاتب العجوز: "يا دستور يا دستور.. امتى بلدنا تشوف النور". على الفور رد "أشرف تكتوك" بقوة: "تحيا مصر ليوم النصر.. يا خونة يا أوساخ العصر". حمت نقرات الطبلة، وتسارعت، وبيسا تتمايل للأمام والخلف، تضرب الأرض بطرف قدمها، تواصل الرقصة على إيقاع الطبلة المحموم، تصيح "يا زبالة. . آه يا زبالة".

    في تلك الأثناء كان الكاتب العجوز يمعن النظر إلى "بيسا". يزر عينيه من عند الدرج ليستوثق إن كانت هي أم لا. أخيرا هبط ببطء واقترب منها يدقق في ملامحها، ثم صاح بها: "بيسا؟". توقفت عن الرقص. مالت برأسها ناحيته: "تعرفني منين حضرتك؟". قال:" مش أنت بسمة؟ بسمة حسني من مساكن الزلزال؟ بيسا؟". أجابت بتحد: "أيوه أنا بيسا. تعرفني منين؟". قال: "أنا علاء فكري". نظرت إليه وأخذها ذهول وهي تتذكره. أضاف: "الصحفي اللي كتب عن ابنك المريض حتى تقرر له علاج على نفقة الدولة. نسيتيني؟". تذكرته. تذكرته بقوة. كان الوحيد الذي ساندها حينما مرض صغيرها محمود وظلت تجري به من مستشفى لآخر فيقولون لها "سرطان وعلاجه غالي. استعوضي ربنا فيه. الأدوية غير متوفرة. يلزمك تحويل من وزراة الصحة. الجهاز عاطل اليوم"، والولد يذبل على ذراعيها، وتسوخ روحه كل ساعة إلي أن أرشدها أحد زبائنها إلى علاء فكري، وأكد عليها: "لا تقولي إني من أعطاك رقم هاتفه". التقت به وكتب عن الولد ونشر صورته وظل يلاحق وزارة الصحة حتى تقرر له علاج مجاني. كيف تنساه؟! تمتمت وقد همدت حرارة جسمها: "العفو يا أستاذ علاء.. معقول أنسى حضرتك؟". سألها: "ابنك أحسن دلوقت؟" سقط صوتها إلى قرارة بئر عميقة: "محمود؟ تعيش أنت. قعد شهر في المستشفى وربنا رحمه. وقت العلاج كان فات خلاص". صمتت ثم أضافت: "أنا آسفة يا أستاذ.. كنت بأقول "زبالة" كده يعني.. لكن ما أقصدكش أنت والله". راح يواسيها "البقية في حياتك. أنت مازلت شابة، وتقدري تجيبي طفل تاني". أجابت: "أنا مش عاوزه طفل تاني، أنا عاوزه محمود مش أي طفل". هز رأسه بتفهم وعاد إلى سلالم النقابة. سرحت "بيسا" بعيدا. جرت دموعها في روحها. ألصقت وجهها بصاج السيارة المصفحة تداري جهشة بكاء. أطبقت قبضتيها تسحق فيهما الألم. مرت أمامها حياتها الشقية كلها منذ أن توفي أبوها بواب العمارة النازح من الجنوب إلى أن انخرطت صغيرة في كل الأشغال وتعرفت إلى كل أشكال البشر، من ضربها ومن أهانها ومن أكل عليها أجرة الليلة، وأيام قضتها في مختلف حجرات الحجز بكل أقسام شرطة تعرضت فيها لشتى صنوف التحقير، ثم ظهر محمود أملا صغيرا وحيدا في حياتها، وضاع من بين يديها فلم يعد للحياة طعم ولم يعد لأي شيء فيها معنى. غرزت أظافرها في لحم ذراعها حتى ظهرت نقطة دم. ظهر المخبر يصيح: "سكتي ليه يا بيسا؟". رفعت جبينها من على صفيح السيارة، وسمعته يخاطب النسوة الأخريات: "يا الله يا مرة يا لبؤة أنت وهي.. رقصوها". حمت نقرات الطبلة تجري بلهيب إيقاعها في الأبدان. تعالت زغاريد النسوة. جأر الرجال "أيوه. . أيوه". راحت "بيسا" تختلس النظرات إلى درج النقابة وهي تلف عودها ببطء. وسارع "أشرف تكتوك" يصفق بكفيه زاعقا: "هزي يا مرة.. هزي. عاوزين شغل". شبكت  "بيسا" كفيها عاليا تحت الشمس الحارقة. برمت خصرها بتثاقل ترقص بخدر، ونكست بصرها إلى الأرض وهي تغمغم بمرارة "آه يا زبالة". وقرع الطبلة يتواصل ويغمر كل شيء بقوة وصخب.

    الاكثر قراءة