الأحد 24 نوفمبر 2024

الذاكرة المسرحية بين التوثيق والغياب

  • 22-4-2017 | 10:21

طباعة

د. عمرو دوارة - ناقد ومخرج مصري

الحقيقة التي يجب تسجيلها في البداية هي أنه بالرغم من بعض الجهود الكبيرة التي بذلت من قبل بعض المؤرخين وكبار المسرحيين لتوثيق بعض مراحل المسرح المصري، وفي مقدمتهم كل من الأساتذة محمد تيمور، فؤاد رشيد، د. محمد يوسف نجم، د. يوسف داغر، د. رمسيس عوض، د. علي الراعي، فؤاد دوارة، سمير عوض، د. سيد علي إسماعيل.

    إلا أن هناك مساحات كبيرة بتاريخنا الفني ما زالت في طي النسيان، كما توجد فرق وعروض مازالت مجهولة بالنسبة لنا، ومازال عدد كبير من الفنانين غائبين وساقطين تماما من ذاكرتنا المسرحية، خاصة وأننا للأسف نفتقد بمكتبتنا العربية لجميع أشكال الموسوعات المسرحية والتي بدأ العالم في التعرف عليها بمفهومها العلمي منذ القرن السابع عشر، وأقصد تلك الموسوعات والببلوجرافيات التي تتضمن قوائم وإحصائيات بالعروض التي قامت بتقديمها جميع الفرق المسرحية مع توثيق بياناتها التفصيلية، ثم إعادة ترتيبها بعدة طرق لتعظيم الفائدة وتسهيل مهمة الاسترجاع (طبقا للتتابع التاريخي أو طبقا للترتيب الأبجدي لأسماء المؤلفين أو المخرجين أو طبقا لطبيعة النصوص المحلية أو الأجنبية أو المعدة)، ولعل من أشهرها تلك الببلوجرافيا التي وضعها الإسباني "نيكولاس أنطونيو" أول من وضع ببلوجرافيا، وقد تميزت بتنوعها وكذلك بتضمنها للوحات مرسومة لعدد من العروض (توضح المناظر والديكورات)، وحتى عندما توارت هذه الموسوعات بعد ذلك لفترات طويلة زادت على مائتي عام تقريبا عادت مرة أخرى للظهور بقوة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وخاصة في إنجلترا منذ "ببلوجرافيا المسرح الإنجليزي" التي وضعها جيمس آرنوت عام 1888 في سبعة مجلدات (لتضمن عروض الفترة 1970:1559)، وكتلك ببلوجرافيا المسرح الإنجليزي التي وضعها النجم المخضرم "كيفين اسبايسي" وهو من أبرع مديري المسرح الشهير "الأولد فيك"، وكذلك "الببلوجرافيا الخاصة بالمسرح الوطني الأمريكي" التي وضعتها "روزموند جيلدر" عام 1932، وهي التجربة التي توجت بعد ذلك بصدور "الببلوجرافيا المصورة للمسرح الأمريكي" التي وضعها روبرت سيلفستر عام 1993، وذلك بخلاف بعض المراجع الحديثة ومن أهمها: "ببلوجرافيا المسرح الراقص بشيكاغو" التي وضعتها "ماري استيل" عام 2001. ومن المراجع العالمية المهمة أيضا "ببلوجرافيا المسرح المكسيكي" (خلال الفترة 1940:1845) والتي وضعها جون كفانجي عام 1940، "ببلوجرافيا المسرح الهولندي" التي وضعها "جاكسون كيسلر" عام 1979 والتي ربط فيها بين العناصر الثلاثة (النصوص والعروض والجمهور)، ثم سار على نفس نهجه تقريبا الإنجليزي "جون هارود"، حينما قدم عام 1982 "ببلوجرافيا مسرح أمريكا اللاتينية" وهي ببلوجرافيا ضخمة ضمت تفاصيل العروض المسرحية بست دول (البرازيل، الأرجنتين، كوبا، أورجواي، بوليفيا، الأكوادور)، ومن أحدث الإضافات في هذا المجال أيضا ما قدمه "جونسون جورس" عام 2007 بشأن مسرح "سيدني" الأسترالي، وأيضا المشروع الكندي التاريخي للببلوجرافيا المسرحية والذي بدأ عام 1993 وبدأ استكماله وتطويره عام 2009 من قبل "رابطة المسرح الفرانكفوني"، وذلك بخلاف "ببلوجرافيا المسرح التشيكي" و"ببلوجرافيا مسرح جنوب إفريقيا". ومما سبق يتضح مدى اهتمام العالم كله بمثل هذه الموسوعات في العصر الحديث. ويجب التأكيد على أن أغلبها يشتمل فقط على بيانات ومعلومات مسرحية ولا تتضمن صورا فوتوغرافية للعروض، كما أن جميعها تغطي فترات زمنية محددة ولا يوجد حتى الآن تلك الموسوعة التي تغطي تاريخ المسرح الغربي بإحدى الدول منذ بداياته الأولى بها حتى الآن.

المركز القومي للمسرح

   إن "المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية" هو الجهة المنوط بها توثيق تاريخنا المسرحي والتعريف بإنتاج الفرق المسرحية المختلفة منذ بدايات المسرح المصري (عام 1870)، وتوثيق جميع إسهامات رواد ونجوم هذا الفن الأصيل. وقد تأسس المركز أولا كإدارة منبثقة من الإدارة الثقافية عام 1963 بناء على اقتراح من الناقد الجليل د. علي الراعي (حينما كان يشغل منصب رئيس المؤسسة العامة للمسرح والموسيقى)، وذلك بهدف جمع وتوثيق التراث المسرحي المصري بكل عناصره وأشكاله إلى جانب رصد وتسجيل جميع الأنشطة المسرحية المعاصرة، بحيث يصبح مرجعا دقيقا لحفظ تاريخنا المسرحي، وقد كلفت الأستاذة ليلى جاد حينذاك بتولي مسؤولية الإدارة، واستطاعت تحويل الحلم إلى واقع، وبدأت مع مجموعة العمل في البحث عن المقتنيات الفنية والشخصية للرواد سواء بالتنسيق مع أسرهم أو من خلال بعض الفرق، ووفقت في اقتناء مئات النصوص المسرحية والمخطوطات وبرامج العروض والإعلانات وكذلك كثير من الأسطوانات والنوت والآلات الموسيقية، وذلك تمهيدا لإنشاء متحف قومي للمسرح المصري.

    وعندما توسعت الإدارة في أنشطتها وتفرعت لأقسام (منها قسم لتوثيق المواسم المسرحية، وقسم للوسائل الفنية لإعداد المواد الفنية لعرضها بالمناسبات المسرحية، وقسم للبحوث وتسجيل السير الذاتية لكبار المسرحيين) كان من المنطقي أن يصدر القرار رقم 151 لسنة 1980 لتحويل الإدارة الثقافية إلى "المركز القومي للمسرح والموسيقى"، كما صدر القرار بتعيين الفنان نبيل الألفي كأول رئيس للمركز (1980 - 1981)، وهو المنصب الذي تولاه من بعده الأساتذة: ليلى جاد (1981 - 1985)، فؤاد دوارة (1985 - 1986)، د. حمدي الجابري (1987 - 1988)، أحمد زكي (1988 - 1989)، يعقوب الشاروني (1989 - 1990)، صلاح السقا (1990 - 1992)، سمير عوض (1992 - 1993)، شويكار محمود (1993 - 1994)، سامي غنيم (1994 - 1995)، محمود الحديني (1995 ـ 1999)، والذي نجح ولأول مرة في إيجاد مقر مستقل للمركز (بعدما كان يشغل عددا صغيرا من الغرف بكل من "مسرح القاهرة للعرائس"، و"مسرح حديقة الأزبكية"، و"معهد الموسيقى العربية"). وتولى من بعده هذا المنصب كل من الأساتذة: د. أبو الحسن سلام، د. أسامة أبو طالب، د. سامح مهران، ناصر عبد المنعم، محمد سيد علي، انتصار عبد الفتاح، د. عاصم نجاتي، د. سيد علي إسماعيل، د. مصطفى سليم، وتقتضي الحقيقة أن أسجل أن الفنان القدير محمود الحديني من أفضل القيادات التي نجحت في وضع بصمة متميزة في مسار المركز وتحقيق طفرة نوعية حقيقية في إنجازاته، ويليه بعدة سنوات طويلة د. مصطفى سليم (2015 - 2016)، الذي لم يمهله المسؤولون لاستكمال مشروعه الثقافي، حيث حرص كل منهما على نشر كتاب سنوي يتضمن جميع تفاصيل النشاط المسرحي خلال العام (وذلك بداية من الموسم المسرحي 1994 ـ 1995، بالإضافة إلى نشر بعض الكتب التوثيقية عن بدايات المسرح المصري (منذ البدايات عام 1870 ووصلت حتى الآن إلى عام 1925)، وذلك بخلاف تنظيم لقاء لرواد وأعلام المسرح، وإصدار بعض الكتب والكتيبات عن بعض الرواد في مجالات المسرح والموسيقى والفنون الشعبية.

   وللأسف فإن عددا كبيرا من رؤساء المركز انحرفوا عن تنفيذ أهدافه الأساسية، واهتموا فقط بتنفيذ أنشطة فرعية أخرى مثل: الاهتمام بنشر بعض النصوص المسرحية المترجمة!! وتنظيم دورات تدريبية لهواة المسرح، وإنتاج بعض العروض المسرحية (التي لا تمت للعروض التراثية بأي صلة)، كذلك قام أحدهم بتنظيم مؤتمر دولي، بعيدا عن قضية التوثيق، لمجرد تحقيق هدف استضافة بعض الأجانب!

    ويتضح مما سبق أنه للأسف وخلال مسيرة المركز الطويلة والتي تقترب من نصف القرن لم يقم بتحقيق الأهداف المنشودة ولا المهام المنوطة به، وذلك بالرغم من جميع الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة له! وماسبق في الحقيقة نتيجة حتمية لسوء اختيار رؤساء المركز اعتمادا على المجاملات الصارخة مع استبعاد أصحاب الخبرات الكبيرة والكفاءات المتميزة.

موسوعة المسرح المصري المصورة

  ظل إصدار موسوعة شاملة للمسرح المصري تحفظ جميع تفاصيل الخريطة المسرحية منذ نشأته حتى الآن مجرد حلم صعب التحقيق لسنوات طويلة، حتى أسعدني القدر بتحقيق هذا الحلم بتوظيف خلفيتي وخبراتي الهندسية والمسرحية لتقديم هذا الإنجاز الضخم، وذلك عندما تعاقدت مع "الهيئة المصرية العامة للكتاب" عام 2012 على نشر "موسوعة المسرح المصري المصورة" التي شرفت بإعدادها. ويحسب لهذه الموسوعة نجاحها ولأول مرة في استكمال أجزاء الصورة المسرحية المبعثرة، ومحاولة الإجابة عن كثير من الاستفسارات وخاصة تلك المرتبطة ببدايات الحركة المسرحية في مصر، وكيفية انطلاق الشرارة الأولى، وكيفية تشكل الظاهرة المسرحية ونجاحها في استقطاب الجمهور بمختلف فئاته بفضل جهود عدد كبير من المبدعين بمختلف المفردات المسرحية.

   وتتضمن هذه الموسوعة - التي استغرق إعدادها أكثر من عشرين عاما - ما يزيد على ستة آلاف عرض مسرحي، هي مجموع العروض الاحترافية التي تم إنتاجها منذ عام 1870 (يعقوب صنوع)، وتم تخصيص صفحتين لكل مسرحية لتوثيق البيانات الخاصة بكل مسرحية منها والتي تشتمل على اسم العرض والفرقة المنتجة وتاريخ الإنتاج وأسماء جميع المبدعين المشاركين في تقديمه (المؤلف، المخرج، مصمم الديكور، الملحن أو المؤلف الموسيقي، الممثلون)، وهي تتكون من خمسة عشر جزءا وستة عشر ألف صفحة، ويتضمن الجزء الخامس عشر خمسة فهارس تسهل جميع عمليات الاسترجاع.

    وتشتمل هذه الموسوعة - ولأول مرة - على مجموعة كبيرة من الصور النادرة لكثير من العروض ولكثير من الشخصيات التي كان لها الفضل الأول في انتشار الظاهرة المسرحية وترسيخ جذورها بالتربة المصرية والعربية، ومن بينهم على سبيل المثال الرواد: يعقوب صنوع، سليم النقاش، يوسف خياط، سليمان قرداحي، سليمان حداد، أبو خليل القباني، إسكندر فرح، سلامة حجازي، أحمد الشامي، منيرة المهدية، جورج أبيض، علي الكسار، نجيب صدقي، يوسف وهبي، وعلى مجموعة الكتاب أصحاب الأقلام سواء بالترجمة أو بالتأليف ومنهم: فرح أنطون، نجيب الحداد، أنطون الجميل، محمد عثمان جلال، عباس علام، خليل مطران، محمد تيمور، إبراهيم رمزي، أمين صدقي، بيرم التونسي، محمد يونس القاضي، بديع خيري، إسماعيل وهبي، طه حسين، توفيق الحكيم، ومجموعة المخرجين: عزيز عيد، زكي طليمات، عبد العزيز خليل، عمر وصفي، فتوح نشاطي، وذلك بخلاف نخبة من كبار الممثلين.

    ويمكن الاستفادة من هذه الموسوعة وتوظيف كثير من بياناتها، وذلك من خلال دراسة الإنتاج المسرحي بكل مرحلة من المراحل التاريخية المختلفة لرصد مدى تأثر الإنتاج المسرحي بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولعل ذلك يتضح جليا من خلال توقف الإنتاج المسرحي تقريبا خلال الثورة العرابية وبداية الاحتلال الإنجليزي (1882 ـ 1884)، وكذلك تأثره كما وكيفا بأحداث ثورة 1919، ثم بنفي زعيمها سعد زغلول وإقالة حكومة الوفد، كما يتضح أيضا مدى تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين على الإنتاج المسرحي مما دفع كثيرا من الفرق إلى وقف نشاطها أو تنظيم رحلات فنية إلى بعض الدول العربية، كما امتد هذا الـتأثير إلى ظهور وانتشار مسرح الصالات، وأيضا تأسيس أول فرقة تابعة للدولة (الفرقة القومية عام 1935)، ثم بعد ذلك يمكن دراسة تأثر وتأثير الأنشطة المسرحية بثورة يوليو 1952 أو نكسة 1967، ثم انتصار أكتوبر وصولا إلى ثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013.

    الاكثر قراءة