السبت 1 يونيو 2024

دمية النار.. بلاغة التحول في الذات والمجتمع

22-4-2017 | 10:25

د. هشام مشبال - باحث وروائي من المغرب

  تصور رواية "دمية النار" لبشير مفتي مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ الجزائر الحديث؛ حيث يبلغ التحول مداه؛ يصيب المجتمع على نحو ما يصيب الشخصية أيضا. إنها ترصد حياة بطلها رضا شاوش وتصف انتقاله من حالة التوازن إلى حالة اللاتوازن، أو مسير تحوله من اليقين إلى الشك. وفي ضوء هذا التحول الذي يصيب الشخصية الرئيسة في الرواية يمكن وصف قصة البطل بأنها قصة الخيبة والانكسار؛ على نحو ما يمكن وصف هذه الرواية بأنها تأمل شاعري في الوجود؛ حيث يمضي رضا شاوش إلى النهاية في تأمل ذاته وذاكرته المثقلة بالجراح، يصارع تاريخه ومصيره المحتوم في آن. فهو يكتشف أنه ليس سوى امتداد لصورة أبيه "الجلاد" الذي كان يهابه الجميع.

   يكتشف رضا شاوش أيضا أن الحياة التي دفعته إلى أقصى الظلمات قد أسهم هو أيضا في رسم معالمها حين تخلى عن قيمة الحب، أو حين حوَّل طاقة الحب الكامنة بداخله إلى شر أبدي معلن. لقد عانى الخوف كثيرا، فحوَّله الواقع والظروف إلى فاعل مخيف أيضا.

   تبدأ الرواية بتقديم صورة كلية لشخصية رضا شاوش؛ صورة تقوم على استدعاء تاريخ الشخصية وسماتها؛ فهو شخص منعزل ورومانسي يؤمن بالحب ويرى فيه مرفأ آمنا. لكن هذا الإيمان يقابله خوف أزلي أسهمت عوامل عديدة في ترسيخه لدى الشخصية. فهو لا يتذكر من طفولته سوى مشاهد الألم والعنف؛ صورة أبيه وهو يعنف أمه ويضربها بسبب ومن دون سبب. لقد ولد لديه هذا الخوف شعورا بالعلة. بيد أن صورة الأب العنيف والقاسي الذي كان يعمل مديرا للسجن (أو لمؤسسة العقاب)، ستتحول إلى صورة مناقضة؛ حيث سيعاني الأب مرضا نفسيا سيجعله مسالما وطيبا، يمازح زوجته ويداعبها. وهو التحول الذي يوازي في النص تحول شخصية رضا على نحو عكسي. إنه ينتهي إلى حيث بدأ الأب؛ وكأنه يكرس سلطة القهر التي أودت بأبيه إلى نهايته المأساوية. لقد كان رضا يدرك أنه يسير في طريق مختلفة وسيئة، ولكنه لم يسع إلى تغيير المصير. لقد حولته الرغبة في امتلاك جسد رانية التي كانت تحب شخصا آخر، إلى شخصية تفتقد العاطفة والقيم. وشى بها لأخيها.. وكان يتلذذ بتعذيبها. فعل السقوط هنا يتوخى التعبير عن انحدار القيم من جهة، كما يعيد تشكيل مصير الأب المأساوي؛ حيث سقط من الطابق العلوي.

   إن السارد الذي يعترف بخسارة حبيبته وفقدانها، ينسج صورة قائمة على التماثل بين مآله هو ومصير أبيه. وهي صورة عارية من التعبير المجازي لكنها موغلة في تشخيص الحالة المأساوية والتعبير عن الإحساس بالتيه. فاستخدام السارد لصورة الشباك يوحي بأزمة البطل وشعوره الدائم بنقصان الحرية وبأنه يحيا بقيود أبدية.

   يفقد البطل القدرة على صناعة الهدف على نحو ما فقد الحب والعلم؛ لقد صار إنسانا فاقدا للإحساس وللأمل بتأثير من الصور ذاتها التي ترسخ معنى اللايقين والمكر والعداء واللاحب. إن الاستعارات المحفزة على ترسيخ تحول الشخصية وتدرجها في سلم القيم الإنسانية من الحلم إلى اليأس، تعمل على تبرير هذا التحول في خيال القارئ بالتدريج. هذا ما توضحه هذه الصور الاستعارية التي تؤكد انحدار القيم: "الحياة لم تعد مهمة، الوجود مجرد نفثة خيال مسعورة لشخص مريض، تمضي بنا الحياة إلى حيث تريد، ولا تستمر في الطريق الذي نريده. الحب وحش يقود لعكس ما نؤمن به، الخير ليس هو القاعدة، الإنسان حيوان مضر لأخيه الإنسان".

   يتوخى البطل من خلال خطابه الاستعاري تبرير تحوله من حالة الصفاء والبراءة إلى منطق الشر المعلن. إن طبيعة المجازات المحفزة التي يسخرها السارد تفصح عن حقل عنيف وقاس تدل عليه ألفاظ مثل "مسعورة- مريض- وحش- حيوان مضر". وهي مجازات أسهمت في تشكيل قناعة البطل وفاقمت إحساسه بقتامة الحياة وشرور البشر. يوازيها من جهة أخرى صورة الأب المريض المنكسر وهو مشرف على النهاية.

   ستتكثف هذه الصور المحفزة والدالة على قتامة الحياة والشعور الذاتي بالهزيمة في لقاء سعيد بن عزوز برضا شاوش بعد سنوات من الفراق أصبح خلالها سعيد يعمل محققا بالشرطة، وهو لقاء سيكون نقطة تحول في حياة البطل: "شعرت أن سيارة توقفت ورائي بطريقة مباغتة، فالتفت فإذا بسعيد بن عزوز نفسه يخرج منها وينادي علي:

- ها قبضت عليك".

   إن حالة الضياع والشعور بالانكسار وتدفق الصور المحفزة على تحول الشخصية من البياض إلى السواد ترسخها جملة سعيد "ها قبضت عليك" المقصودة. ولعل قول السارد بأن الإنسان حيوان مضر لأخيه الإنسان لن يفهم في السياق الروائي إلا بتتبع مآل الأحداث وتطور الحبكة السردية من التوازن إلى الاضطراب، أو من الحرية إلى القيد، أو من الحب إلى اللاحب.

   فلنتأمل كيف يبرر لنا التصوير الاستعاري لحظة التحول التي عاشها رضا شاوش بعد اغتصابه لحبيبته رانية: "في تلك اللحظة الغارقة في حفرة العدم ووجه الظلام. رحت أرتدي سروالي بلا مبالاة، وشعرت وأنا أخرج من بيتها بأنني خلاص تغيرت، صرت شخصا جديدا بالفعل، وأنه يمكنني أن أفعل أي شيء أريده، فلم يعد هناك ما يخيفني في الوجود، وأنني من تلك اللحظة قد ذهبت للضفة الأخرى من العالم".

   على الرغم إذن من توق البطل إلى الحرية وحرصه على حماية شعلة الأمل والحلم من أي "ريح مسمومة أو عاصفة قاتلة" إلا أن نقطة التحول في مسير حياته تدعمها جملة من المحفزات؛ التحاقه بالخدمة العسكرية، فشله في الحب، تجدد لقائه بسعيد بن عزوز، انخراطه في العمل مع جماعة الظل، اغتصابه لحبيبته رانية؛ كلها إذن صور محفزة على تبرير التحول الذي أصاب الشخصية من عالم القيم الجميلة إلى الشر المعلن والتيه الأبدي.

   إن شخصية رضا شاوش التي تحولت من السكينة إلى الشقاء، ومن السلام الروحي إلى اليأس، وعانت التيه على نحو ما عانت إشكالية وجودها في عالم مبهم ومعقد، شعرت أنها لم تستطع التكيف مع واقعها المحبط والقاسي فاستسلمت لمصير محتوم، وتدرجت لتبلغ مرحلة العنف. لقد كان لقاء البطل بجماعة الظل في المطعم نقطة تحول في حياته، لم يعد رضا شاوش مصرا على الرفض؛ فقد أذعن لطلب سعيد بن عزوز للعمل معه ومع جماعة الظل مما سيبرر لنا سرديا انتقال بطل الرواية من مرحلة الذعر وهاجس الخوف إلى الفعل. هذا الإذعان ستبرره بلاغيا هذه الصورة: "كان الجو ملفوفا بغمامة رمادية، ورائحة المطاط المحروق والبول والروث، حيوانات تلعف من بقايا حشيش غير صالح لإنعاش الطبيعة".

   توحي هذه الصورة بالتحول الذي سيصيب الشخصيات الروائية؛ رانية التي هربت من أخيها وتزوجت وسكنت مع حبيبها في حي قصديري بئيس. رضا شاوش الذي لم يتوقف عن مطاردة حبيبته موهما نفسه أنه يساعدها بينما يمضي في شروره إلى النهاية. إنها غمامة تشكل كناية لحياة أخرى أكثر قساوة تعانيها هذه الشخصيات المثقلة بالهزيمة. لقد افتقد بطل الرواية للحب فتملكه الشر وتحول "لكتلة من السواد".

   ستضطلع كثافة الصور الاستعارية بدور فعال في تبرير فعل الاغتصاب اللاأخلاقي الذي قام به رضا شاوش، وكأن الكاتب يمهد لهذا الفعل بسلسة من المجازات التي تحفز الذات على ارتكاب الجريمة: "كان ظلام العالم يغطي عيني، يتداخل فجأة مع ظلام روحي، يزغرد كحيوان مفترس، ينبع كالجرثومة، ينفجر كالبركان، يعوي كذئب منهار ومتوثب، يصرخ ويصرخ من دون توقف".

   يقيم الكاتب تماثلا بين العالم والذات؛ بين الواقع الجزائري المأزوم والمعقد وبين الذات المحبطة التي تسعى إلى اكتشاف ذاتها. إن هذا التشابه بين ظلمة العالم وظلمة الروح يعد مسوغا حقيقيا لجريمة الاغتصاب ومبررا للفعل اللأخلاقي. سيمضي رضا شاوش في طريق الظلام وقد نزع الحب من قلبه  وفقد كل الأحاسيس الجميلة؛ صار إنسانا جديدا منزوع القيم. هذا ما عبر عنه بنفسه: "مع مرور السنوات شعرت أنني تحولت، صرت شخصا آخر، يجب أن أؤكد هذه الحقيقة، وأنني في تلك اللحظة الزمنية المدنسة فقدت روحي، نعم روحي، لا أدري ماهي الروح".

   هكذا يعترف رضا شاوش بتحوله وبمسخه، لقد صعد تدريجيا إلى قمة سلم فقدان الروح. أراد أن يكون سيدا في مجتمع منقسم إلى أسياد وعبيد. تتساند الصور البلاغية وتتراسل، وتمتح من مجال الظلام والعدم والنار مادتها في الرواية؛ إنها تتوخى تمثيل ذلك التعارض القائم في الذات وهي تسعى إلى اكتشاف هويتها في واقع مأزوم. هذا ما تعبر عنه هذه الصورة وهي تختزل عمق التناقض بداخلها؛ لعله ذلك النور الذي يحرق: "لم يعد وجهي يحيل على وجهي، وذاكرتي تقيأت ماضيها البريء لتقذفه في حمأة نار مستعرة، فإذا بي أولد شخصا آخر، مليئا بأشياء أخرى، ودماء جديدة.. دماء آخرين أمتص منهم روحهم، روحهم البريئة لأعيش. صرت الشر، ودمية الشر، صرت الشيطان، ودمية الشيطان".

   ثمة تماثل محكم بين الدمية والنار تعلله الصور المتكررة في الرواية. إن الدمية بما تعكسه من جمال وبراءة وهدوء ورومانسية قد تتحول إلى كتلة شر؛ أو وجه مخادع. إنها الشيطان الخفي، بل المعلن الذي خرج ليحارب العالم وفي الوقت نفسه يحارب ذاته وأحاسيسه. إنها استعارة تقوم على مفارقة وتحمل معنيين، كما أنها تعكس طبيعة الشخصيات التي تتلقى الفعل وتنفذ الأوامر ولا تملك سلطة القرار. تنطوي صور التماثل على دلالات النار والشيطنة واللهيب والسعير والعدم. ويروم تكرار الألفاظ في سياقات متشابهة تسويغ وتبرير ذلك التحول المفضي إلى العنف المطلق.

   نخلص في النهاية إلى القول إن مأساة البطل وتدرجه في التحول من النبل إلى الشر، أو من اليقين إلى الشك، تبرره المجازات والأساليب البلاغية المتنوعة. يقنعنا الكاتب بتحول الشخصية والمجتمع على السواء بلطف يراعي منطق التلقي القائم على التدرج أيضا. كل جملة تجد مبررها في النص وفي تواتر الصور وتراسلها. إننا أمام نص يصور بدقة تلك العلاقة الإشكالية بين الذات والعالم، أو تلك الذات التي تسعى إلى اكتشاف هويتها في عالم مأساوي غير عادل يفتقد الحرية والسكينة. معظم شخصيات الرواية تتوق إلى السكينة والحب، لكنها تفقد القدرة على الفعل؛ فهي ليست سوى دمى تحركها قوى شريرة تعبث بأحلامها وتعصف بجمالها. وكأننا أمام نص روائي يعيد إثارة السؤال العميق الذي يبنى عليه الفن الروائي بطريقة ضمنية: من يقوم بالفعل؟