استيقظت لتوّها من غفوة كالمنام الثقيل ، ورفعت وجهها المقعّر الخدين من ذبول ، رغم جمالها الآسر ، كأنّها تحاول أن تغالب النعاس الذى تكسّر بين أجفانها . مرّرت أصابعها فى شعرها الأسود ذى القَصّة الغُلامية ، وراحت تتطلّع بوجهها المتوهّج فى دهشة فى الوجوه الشاحبة ، المطموسة المعالم كالأشباح ، والتى تراصت أمام ناظريها وحدّقت فى جسدها فى صمت ، وقد تدلّت فكوكهم السفلى فى بلاهة ، وكأن على رؤوسهم الطير . ومن خلف تلك الوجوه تدلّى من سقف الغرفة مصباح مستطيل ضخم ، حتى كاد الضوء الباهر المنبعث منه أن يفقدها بصرها ، فلم تستطع أن تميّز ملامح تلك الوجوه الصمّاء . كانت أجفانها تنقبض وتنفرج ، وهى تضيّق حدقتى عينيها حتى تتعرّف على تلك الوجوه . كانوا جميعًا يرتدون الثياب البيضاء البلاستيكية المعقّمة ، وفوق أفواههم كمامات معدنيّة .
محمرة العينين ، كمخمور أفرط فى الشراب والسهر ، جعلت تتفرّس فى الوجوه التى تراءت لعينيها رويدًا رويدًا ، والحيرة الآسرة تستبدّ بها ، حتى أدركت أنهم أطباء ، وأنها ترقد فوق فراش فى مصحة علاجية . لم تستطع أن تحرك ساكنًا ، فقد شعرت ببرودة شديدة تسرى فى أطرافها ، وقد تملكت جسدها المدثّر فى ثوب بلاستيكى شفاف قشعريرة قميئة . أدركت أنها عارية تمامًا ، وظنّت لوهلة أن العيون التى صُوبت نحو جسدها تريد أن تنهش فيه نهشًا ، فاعتدلت فى جلستها ، وحاولت أن تخفى بذراعيها ما استطاعت من جسدها الممشوق .
راح الأطباء فى الغرفة ينظرون إلى بعضهم البعض ، ويطلقون الضحكات الرائقة ، والتى خلت من التهكّم ، بينما ظل أحدهم يلتقط لها الصور بكاميرا رباعية الأبعاد ، فتظهر صورتها المجسّمة فى وسط الغرفة ، كأنها تقف بلحمها وشحمها بينهم . اقترب أحدهم منها ، وغمغم من خلف كمامته المعدنية قائلًا .
-حمدًا لله على سلامتك ، يا رغدة .
لم تستطع كلماته الودود أن تليّن ملامح وجهها المتوجّس ، فلم تنبس الفتاة بكلمة . ظل الجميع يصوبون أنظارهم إلى جسدها ذى القوام السمهرى الملفوف ، وهى تجلس فى وضع جنينىّ ، جامدة لا تطرف لها عين ، وهى تنقّل عينيها الشهلاوين بين الوجوه ، وتحاول أن تحدس ما يدور فى أخلادهم . غاص قلبها وتولتها حيرة موحشة ، فلم تستكن لما يدور حولها ، وحاولت أن تغادر فراشها . استوقفها الطبيب ، ونزع الكمامة ، ثم قال فى ودّ .
-لا يا رغدة . لا يجب أن تغادرى فراشك قبل إجراء جميع الفحوصات الطبية والتحاليل حتى نطمئن عليك تمامًا .
استدعت الفتاة بعناء صوتها الذى ظنّت أنه قد غادر حنجرتها دون عودة ، ثم تمتمت بصوت متهدّج قائلة .
-أين أنا ؟
-أنت فى مصحة " فيوتشر لايف " ، قسم التبريد .
-التبريد ! ماذا تعنى ؟
جعل الطبيب ينظر يمنة ويسرة إلى رفقائه ، وما زالت ابتسامته الرائقة تشرق فوق شفتيه ، ثم أضاف .
-تبريد الأجساد يا رغدة .
-ماذا تعنى ؟ هل أعانى من مرض ما ؟
أطرق الطبيب برأسه فى اضطراب ، وتردّد مليًّا قبل ان يستأنف قائلًا .
-لقد عانيت كثيرًا فيما مضى .
-ماذا تقصد ؟
اقتعد الطبيب الكرسى المقابل لفراشها ، ومال بجذعه نحوها ، ثم أردف يقول .
-آنسة رغدة . أعلم أن ما سوف أخبرك به قد يسبب صدمة لك . لذلك أريدك أن تحتفظى برباطة جأشك ، كما أريدك أن تتحلّى بالصبر .
قطبّت رغدة حاجبيها ، وقد تولّتها الدهشة حتى أنّها تخلّت عن حذرها ، وعقدّت ذراعيها أمام صدرها ، كاشفة من جسدها ما حاولت أن تخفيه . تردّد الطبيب مرة أخرى ، ثم قال .
-لقد فارقت الحياة من قبل .
جحظت عينا الفتاة وفغرت فاها دون أن تنبس ، ثم ظلّت تحدّق فى وجه الطبيب فى ذعر ، حتى كاد بؤبؤا عينيها أن يقفزا خارج محجريهما . استأنف الطبيب رغم ذلك قائلًا .
-أعلم أن الأمر عجيب ، وأنّك لا تدركين معنى ما أتفوّه به .
لم تجب الفتاة وراحت ترمقه بعينين طافحتين بالتوسّل ، فاستطرد قائلًا .
-أتعلمين فى أى سنة نعيش الآن ؟
زوت الفتاة ما بين عينيها كمن يحاول أن يستدعى الذاكرة ، ثم قالت .
-بالطبع . أعتقد أننا فى عام 2025 .
-لا ، يا عزيزتى . نحن فى عام 2113 .
انتفضت الفتاة مذعورة ، ورفعت بصرها إلى الوجوه الصامتة قبالتها ، ثم عادت لتحدّق فى وجه الطبيب ، وقد تبدّت عليه جهامة مباغتة . حاول الطبيب أن يسرى عنها ، فابتسم ذوب ابتسامة ، وأضاف .
-لقد فارقت الحياة فى ذلك العام 2025 ، ولكنّك لم تفارقيها تمامًا .
-ماذا تعنى أيها الطبيب ؟
-لقد قمنا بعملية تبريد لجسدك .
-تبريد لجسدى ؟ كيف ؟
-لقد كنت مصابة بسرطان الكبد ، وتلقيتِ كما هو مدوّن لدينا العلاج الكيماوى القديم لبضعة أعوام ، ولم يفلح ذلك العلاج العقيم فى شفائك .
-أتقصد أنّنى مت من قبل ؟
أومأ الطبيب برأسه فى صمت ، فرمقته الفتاة بنظرة حائرة لوهلة ، ثم انفجرت فى الضحك . ابتسم الطبيب بدوره ، وأرسل نظرة عاجلة إلى رفقائه ، ثم استأنف قائلًا .
-أعلم أن الأمر يبدو عجيبًا لك ، ولكن ..
-ولكن ماذا ؟ أنا مت من قبل ؟ هل تهذى ؟ مستحيل بالطبع . لا يمكن أن يموت الإنسان ، ثم يعود إلى الحياة ثانية .
لم يعقّب الطبيب ، وظل محتفظًا بابتسامة الثقة فوق شدقيه ، ثم استطرد .
-ربما فى عصرك .
-عصرى ؟ يبدو أنّك تهذى حقًا . إننا نعيش فى عام 2025 ، ولا يمكن أن أصدق أننا فى عام 2113 ، كما تدّعى .
ناولها الطبيب هاتفه المحمول ، والذى بدا لها أعجب ما رأته ذلك الصباح ، فقد كان مصنوعًا من رقائق معدنية رفيعة جدًا ، ولم تكد تلمسه حتى انبعثت منه أشعة مرئية رباعية الأبعاد ، وظلت تعلو وتعلو حتى استقرّت أمام عينيها ، فرأت معلومات كثيرة ، أدركت منها تاريخ اليوم والتوقيتات العالمية ، بل ودرجة حرارة جسدها وعمرها وحالتها الصحية أيضًا .
ظلّت تتفرّس فى التاريخ بعينين مثل قوسين من دهشة ، ثم همهمت .
-مستحيل !
-ليس فى الطب مستحيل الآن ، يا سيدتى .
-وكيف فعلتم ذلك بى ، وقد فارقت الحياة كما تدّعى ؟
-هو ليس ادعاء ، بل حقيقة . هناك نوعان من الموت ، يا عزيزتى ، موت القلب وموت المخ . يستمر المخ فى العمل بعد أن يتوقف القلب عن النبض ، وفى تلك الحالة يمكننا أن نضع الجسد فى حالة تبريد لحين ظهور علاج للمرض الذى مات القلب على أثره .
-وكيف قمتم بذلك ؟
-حين مات القلب تم وضع جسدك فى الثلج وحقنه بعقار " الهبارين " ليمنع تجلّط الدم ، دون أن يوضع فى نيتروجين سائل كما يظن البعض ، حتى لا يتجمد الماء داخل خلايا الجسد . بعد ذلك تم استبدال الماء من الخلايا بمادة كيماويّة تدعى " كريوبروتكتانت " ، فيما يعرف بالتقلّب ، حتى لا يتجمّد الجسد ، وهو نظام التبريد دون التجميد .
-( فى هلع ) ولكن كيف يمكن أن يظل جسدى على قيد الحياة كل تلك السنوات ؟
-تم وضع جسدك فى ثلج جاف ، يا عزيزتى ، حتى وصلت درجة حرارته إلى 130 درجة تحت الصفر ، ثم وضع فى وعاء فردى ، وتم حفظه أخيرًا فى خزّان ضخم وبه نيتروجين سائل فى درجة حرارة تصل إلى 196 درجة تحت الصفر .
أغمضت الفتاة عينيها ، كمن تحاول أن تفرّ من كابوس داهمها لتوّها ، ثم تمتمت فى حيرة .
-أكاد أجن !
أمسك الطبيب بشريحة معدنية مربعة رفيعة بدت مثل المستند الورقى القديم ، فتعالت منها أشعة مرئية أخرى ، واستقرت أمام عينيه ، فجعل يقرأ بصوت مرتفع .
-الاسم : رغدة المنشاوى ، سبب الوفاة : سرطان الكبد ، سنة الوفاة : 2025 ، راعى الحالة : السيد رامى سعيد .
-( فى دهشة ) رامى ؟!
-نعم ، هو من كان يدفع الاشتراك السنوى للمؤسسة ، وقد كلّفه الأمر أكثر من مائة وخمسين ألف دولار كما هو مدوّن .
-ماذا ؟ هل قام رامى بدفع كل هذا المبلغ من أجل تبريد جسدى ؟
-نعم ... لابد أنّه كان يحبّك كثيرًا .
رشقته الفتاة بنظرة متسائلة وقالت فى اضطراب .
-كان ؟ لماذا تقول كان ؟
-( بعد تردّد ) لقد فارق رامى الحياة منذ أكثر من ثمانين سنة .
كمّمت الفتاة فمها براحة يدها وهى تحاول أن تكتم صرخة كادت أن تنفلت ، وظلّت تنظر للطبيب فى أسى لبرهة ، ثم انخرطت فى بكاء حار ، وهى تتمتم .
-رامى ، رامى مات .
-( فى رثاء ) لقد مات بعدك بأعوام قليلة ، بعدما سدّد نفقة تبريد جسدك . لقد أراد أن يمنحك الفرصة كى تعودى للحياة فى حال استطاع الطبّ أن يجد علاجًا لحالتك فى المستقبل .
لم تعر الفتاة اهتمامًا لما كان الطبيب يخبرها به ، وظلّت تبكى وتنطق باسم فتاها دون توقّف . وحين استعادت هدوءها ، نظرت للطبيب بعينين دامعتين ، ووجه ذى لون باهت مكفهر ، وقالت .
-وكيف فارق رامى الحياة ؟
-( بعد صمت ) لقد انتحر بعدما عانى من وحدته الموحشة بعد وفاتك .
-( باكية ) وكيف عرفت هذا ؟
-لقد تحدّثت وسائل الإعلام عن قصة حبّكما ، فقد كلّف رامى أحدهم بكتابة رواية تحكى عنكما ، بعنوان " موعد فى الأبديّة " .
أجهشت الفتاة بالبكاء المرّ ، وأخفتْ وجهها فى كفيها مليًّا ، حين دنا منها الطبيب وقال مواسيًا .
-الجميع يعلم بقصة حبه لك ، وقد قرأت أنا نفسى تلك الرواية ، وقررت أن أكون طبيبك الخاص . لذلك قمت بنفسى بإعادة تأهيل جسدك ، وإنهاء حالة التبريد ، فقد تم اكتشاف علاج لمرضك بالفعل .
وكأنّها قد استسلمت لسكرة حلم لا تفيق منه ، غاصت الفتاة فى نوبة بكاء صامت ، وكأنها شجرة شائخة تخور فى كنف ظلالها . تحنّن الطبيب عليها ، فقال فى رثاء .
- أعلم مدى حزنك على حبيبك ، ولكن هذه هى الحياة ، وقد أرادك أن تنعمى بها من بعده ، فبذل من أجل ذلك الغالى والنفيس ، وهو يعلم أنه لن يبقى ليشاطرك تلك الحياة .
وسط كآبة رهيفة وحزن شفّاف ودموع شقّت فوق وجنتيها طريقًا ، ردّدت الفتاة عينيها بين الأطباء الواقفين فى صمت وإشفاق وبين طبيبها ، ثم قالت فى أسى .
-هل معنى هذا أننى قد فقدت كل أحبائى أيضًا ؟
-عمن تتحدّثين ؟
-عن أبى وأمى وأخى الأكبر .
-(مطرقًا برأسه ) لقد فارق والدك الحياة بعد موتك بأيام ، ثم تعرض أخوك لحادث سير أودى بحياته ، أما أمّك فقد عاشت حتى بلغت عامها الخامس والسبعين ، ثم أصيبت بالزهايمر ، ورغم العلاج الذى تلقته ، لم تنج من براثن ذلك المرض اللعين ، فلم يكن هناك دواء فعّال له بعد .
-( باكية فى حرقة ) ألم يعلموا جميعًا أننى فى حالة تبريد ؟
-بلى ، ولكن القدر لم يمهلهم ليشهدوا عودتك ثانية إلى الحياة .
-ولماذا لم تحاول أمى أن تحصل على نفس الفرصة وتخضع لعملية التبريد هذه ، يا طبيب ؟
-على حد علمى أنها لم ترد أن تعود إلى الحياة بجسد هرم وعقل متآكل ، لذلك قررتْ أن تترك لك ما قد يمنحك الفرصة لتنعمى بحياة هانئة .
-( فى سخرية ) حياة هانئة ؟
-نعم ، فقد تركتْ لك ثروة طائلة ، كما أعرف .
-وما أهمية الثروة ، يا طبيب ، وقد فقدت كل من أنتمى إليهم ؟ لماذا قمت بإعادة تأهيل جسدى ؟ لماذا لم تتركنى فى غفوتى الأبدية ؟ هل أعود إلى الحياة لأقاسى وجع الانتظار ، حين يشوى بدنى حتى تصبح أيامى رمادًا مقبضًا ؟ حين تشحّ أسباب الفرح ، فلا معنى للابتسامة !
انزوت الفتاة فى فراشها مثل كرة ثُقبت من فورها ، وراحت تنتحب فى صمت كالأطفال . انفضّ الجمع من حولها ، وغادر الأطباء الغرفة ، ولم يبق سوى طبيبها الخاص . ترنّحت الدموع فى عينى الفتاة ، وهى تنظر فى وجه الطبيب ، وتقول .
-هل أنا أول حالة تعود إلى الحياة بعد التبريد ؟
-لا ، هناك حالات كثيرة من قبل ، ولذلك لن تجدى اهتمامًا إعلاميًّا بحالتك . ولكن حالتك فريدة من نوعها .
-لماذا ؟
-أنت الوحيدة التى أصابها الحزن حين عادت للحياة .
-نحن نأتى إلى الحياة فى ضجيج ، ثم يأتى الموت على أطراف أصابعه ليباغتنا . ألا تكفى ميتة واحدة ، أيها الطبيب ؟ لقد جاء الأنبياء جميعًا ليهزموا الموت ، ولكننا جميعًا نتصارع كى نثبت من أكثرنا كفرًا بالحياة . لماذا أعدتنى إلى الحياة ، كى أموت مرة ثانية ؟
-بل لكى تحيى حياة ثانية . أنت فتاة جميلة ، وتنعمين بشباب ناضر ، فلا تدعى الحزن يمكر بك ، واليأس يغلبك على أمرك .
-حياة ثانية ؟ مع من ؟ أبعدما فارق من أحببتهم الحياة أستطيع أن أهنأ بالعيش ؟
-رغدة ، لا تكونى كالمسنّ الذى نسى أين يخبئ كنزه . الحياة أمامك طويلة ، ويمكنك أن تخلقى عالمًا جديدًا ، مليئًا بالأصدقاء والأحباب قبل أن يزوى شبابك وينصهر .
رنت الفتاة إليه بعينين حائرتين ، وقد انهمرت منهما الدموع الغزار ، فلم تجد سوى ابتسامته المتسعة الهادئة تحنو عليها ، فاستردت هدوء نفسها رويدًا ، ثم قالت .
-ما الذى يثير اهتمامك بى ، أيها الطبيب ؟
-أنك مريضة استثنائية .
-لا تبخس نفسك حقها ، أيها الطبيب . أنا لست مجرد مريضة ، بل جثة أعدت أنت إليها الحياة .
جعل الطبيب ينظر إليها بعينين ولهتين شغوفتين ، كما لو أنه قد وقع لتوّه فى أحابيلها ، ثم قال .
-ربما أنت على حق ، فأنا أشعر أنّنا أشبه بسجينين قيّد أحدهما إلى الآخر بأغلال حديدية . بالنسبة لى أنت رسالة لم تفضّ بعد ، وعلىّ أن أقرأها جيدًا ، وأفكّ شفرتها .
-لا أفهم !
-أقصد أن حياتك الثانية هذه هى السبيل إلى نجاحى .
عقدت الفتاة حاجبيها كمن حزّ الألم فى نفسها وقالت فى أسى .
-إذن فأنت تبحث عن مجدك أنت .
-لا ، بل أريد أن أساعدك على استرداد نفسك . لقد أسرتنى قصتك الأولى ، وكم تمنيت أن أكون ذلك الفتى الذى أحببته فى حياتك السابقة .
أطرقت الفتاة برأسها مثل راية منكّسة ، وحاولت أن تمنع دمعتين حبيستين مترنّحتين ، ثم أضافت .
-وهل يستطيع أحد أن يشعل فتيلًا فى سراجى بعدما انطفأ ؟
-ولم لا ، يا رغدة ؟
فى لحظة لا تجود بها الأيام إلّا نادرًا ، ترامق الاثنان فى صمت صاخب ولوعة خفيّة مكبوتة ، فتجمّدت الدموع فى مقلتيها ، وحلّت محلها ابتسامة خجلى ، ثم أشاحت بوجهها بعيدًا لوهلة وقالت بصوت حنون ، دون أن تنظر فى عينيه النهمتين .
-أتستطيع أن تشاطر جثة مثلى أوجاعها ، أيها الطبيب ؟
انفرجت أسارير الطبيب ، وانتعشت فرائصه ، فصوّب إليها نظرة اهتمام طارئ ، شأن من انتبه لشريط إخبارى فى التلفاز ، مسبوق بكلمة عاجل ، ثم مال برأسه نحو وجهها الذى تورّد خجلًا وقال .
-لن أكتمك سرًا ، يا رغدة . لقد أحببتك منذ حطّت أنظارى فوق أهداب عينيك .
تهلّل وجه الفتاة غبطة ، وأشرقت أساريرها ، وقد أعفاها ذهولها المباغت من الشعور بالأسى ، فامسكت عن الكلام لوهلة ، وهاجت شجونها . أمسك الطبيب بيدها فى اشتياق متّقد ، فراغت منه خجلًا ودلالًا ، ثم أسلمت يديها لراحتيه فى سرور ، كمن أرادت أن تغفو هانئة بينهما .
بغتة سرت رجفة فى جسد الطبيب حين أحس ببرودة يديها ، فتراجع فى ذعر ، ونظر إليها جاحظ العينين . كان اللون الأزرق يغزو وجهها ، وقد رقدت فوق الطاولة أمامه فى سكون الموتى . ارتعدت فرائصه ، فألقى بيدها ، وارتدّ للوراء ، حين سمع أحدهم يخاطبه قائلًا .
-دكتور رامى ، دكتور رامى ، ماذا هنالك ؟
التفت الطبيب رامى ، ليجد جمعًا من الأطباء خلفه ، يحدّقون فى الجسد المسجى فوق الطاولة ، ويرمقونه بنظرات حائرة متسائلة . كان الجسد لفتاة عشرينية ، وفى إصبع قدمها تدلّت بطاقة بلاستيكية ، كُتب عليها " الاسم : رغدة المنشاوى ، سبب الوفاة : سرطان الكبد ، سنة الوفاة 2025 . "