الإثنين 8 يوليو 2024

غُربة.. إبحار في الذكريات تكتبه هبة الصغير

فن1-10-2020 | 04:27

ألمس أصابع البيانو لعله يطمئننى، أعزف النغمة الفرحة وأنا أبكى. كنت أبحث عن الكلمات كالمجنونة. عندما وصلنى ذلك الظرف الذى أضعه فوق البيانو وأبكى، كنت أبحث عن الكلمات. صغيرة كانت أصابعنا حين ضربت على هذا البيانو للمرة الأولى، سعيدة كانت أيامنا حينما علمنا جدى تلك النغمات الفرحة الساحرة. 


أنظر إلى ورق الحائط الذى أصبح باليًا يتقشر فيقشعر بدني. أضع يدى على وجهى وأتحسس التجاعيد التى تزحف ببطء قرب عيني وأتذكر أن الصبا يخبو. فى صغرى كنت أحب ورق الحائط وأجد به فنًا رائقًا، الآن لم أعد أحبه. يذكرنى الجزء الذى لم يبهت بعد فيه، بأيامي الحلوة، أما الجزء الباهت الممزق، فيضع أمامي أيامي المرة فى صورة تكرار بشع. 


كيف مرت الأيام هكذا دون أن أشعر حتى أتممت عامى الأربعين وحيدة فى بيتى؟ كانوا يقولون دومًا لأمى أنى جميلة، وعلى هذا فسأتزوج سريعًا حينما ينهض ثديانى قليلا. كنت أسمع هذا الكلام مصادفة فيحمر وجهى من الخجل. هل يصدق هؤلاء أنى بلغت عامي الأربعين ومازلت عذراء؟


فى الليلة التى ماتت فيها أمى وأنا فى الخامسة والثلاثين من العمر، رأيت العالم كله بقعة سوداء كبيرة وأنا بقعة سوداء صغيرة فى هذا العالم المظلم الموحش الكبير. مرضت أمى كالعادة، وقد كانت تمرض كثيرا، لكنى لم أتوقع موتها. بقى معى بعض من الأهل وبعض من صديقاتى حتى استعدت قوتى قليلاً، ثم فجأة اختفوا. تركنى الكل وحيدة. حتى أخى لم ينزل إلى القاهرة كى يحضر العزاء. 


منذ ذلك اليوم وأنا أخشى الأيام. الأموال القليلة التى أكسبها من عملي كمدرسة بيانو، أدخرها وأبخل على نفسى بثياب جديدة أو حذاء جديد، أو وجبة شهية فى مطعم فخم من المطاعم التى كنا نتناول العشاء فيها مع والداي ونحن صغار. أحتفظ بكثير من ملابسي القديمة وهذا سبب تسميتهم لى بال"تحفة الكلاسيكية". لا يقصدون شىء جيد بالطبع، بل يسخرون مني. لهم حق. لكنى لن أشترى ثيابًا جديدة؛ فالله أعلم، قد أمرض قريبًا..هل أشحذ؟ 


عندما خسر أبى أمواله ومات من الصدمة والألم والحسرة، عشت وتعايشت مع نظرة أمى المنكسرة وهى ابنة الحسب والنسب. لم تطلب مليمًا واحدًا من جدى أو جدتى يومًا. لا أعلم لماذا كانت دومًا تقول أن لدينا ما يكفينا ولا نحتاج شىء. لكن جدى كان يأتى إلى المدرسة فى بداية كل عام ويدفع المصاريف لى ولأخى حتى يوم وفاته. 


أخى ازداد طموحه يومًا بعد يوم، وأغرته الغربة حتى لبى نداءها فور تخرجه من كلية الهندسة، ولم يعد من يومها. ألمانيا بلد الآلة لا قلب لها، حتى أصابع البيانو تجمدها قلوب سكانها الباردة. عندما وصلنى ذاك الظرف كنت أبحث عن الكلمات. هل كنت أشحذ عندما أرسلت لك ذلك الجواب يحمل الكلمات؟  


لم تتزوج أمى بالرغم من جمالها الفائق، وقلبها الرائع، ورقى طبعها. بالتأكيد هناك من كان يرغب فيها، ولم ترغب هى فيه ولا فى غيره. كانت تحب أبى كثيرًا، تعلقت بذكراه كثيرًا، حتى أنهكت قلبها الجميل الضعيف الذى أصابه المرض. 


أضرب على البيانو مستعيدة نغمات الحب. الحب الذى عشته. أجمل أيام حياتي. عندما أضع رأسي فوق وسادتى فى الليل وأرى القمر من شباكى، أذكره. يتسرب إلي إحساس عجيب بالدفء، يعبر طيفه أمامي، وجهه الأسمر الطيب، شموخه، شهامته. لكنى سرعان ما أبكى حين أذكر أنى فقدته، حين تقفز إلى ذهنى صورته وهو فى أحضان زوجته وبين أولاده. أندم. أشعر بالذنب. لا أعرف إن كان مازال من حقى أن أذكره، أن أذكر أيامنا معًا، أن أرسم له صورًا فى خيالى، أن يعيش معي فى الخيال. يغلبنى التفكير فأسهر، يغلبنى التعب فأنام. 


عندما بعثت إليك يا محمود بذلك الخطاب أحدثك عن أحوالى، لم أكن أشحذ المال، بل كنت أشحذ العطف.


 اخترت الحبر على الورق والذهاب إلى البريد والصبر كى يصلك الجواب بدلا من وسائل التكنولوجيا الحديثة التى أكرهها ولا أرى فيها إلا الزيف، كى تتذكر الأيام الجميلة، أيام زمان؛ أيام الصدق، أيام الأمان، اللعب على البيانو مع جدنا. اخترت أن أبعث إليك بجواب لأنك من دمى ولأنى اختك، لم يعد من حقى أن أبعث لحبيبى المتنزوج الآن، لكن من حقى أن أبعث إليك. 


عندما فتحت ذلك الظرف، آخر ما كنت أتوقعه هو المال. لا أرغب فيه، سوف أعيده إليك. فقط كنت أرغب فى أن أعرف إن كنت مازلت تذكر أيامنا ونحن صغار، كنت أريد أن أعرف إن كنت مازلت اخي، لكن من الواضح أنك لم تعد كذلك؛ فقد أكلت الغربة أخي.


    الاكثر قراءة