الإثنين 10 يونيو 2024

حروب لوحة المفاتيح وإسقاط الدول

أخرى9-10-2020 | 14:41

منذ عام 2006 عندما كنت اعمل رئيسا لأحد الأقسام في أحد المواقع الإخبارية العربية ذائعة الصيت في تلك الآونة، كان موقع فيس بوك مازال يخطو خطواته الأولي في مصر وكان الحديث عن لقاء الأصدقاء القدامي هي الشغل الشاغل لكل من يمتلك حسابا عبر هذا الموقع الوليد، وكنت من بين هؤلاء الذين يرغبون فقط في التواصل مع الآخرين سواء أصدقاء المدرسة أو حتي بناء صداقات جديدة هدفها الأول تبادل الثقافات او حتي الخبرات العملية.

وظل الحديث عن دور هذه المواقع في التواصل الاجتماعي الافتراضي بين الناس يزداد يوما بعد يوم، حتي استيقظ جميع المصريين علي يوم السادس من أبريل عام 2008 لتتحول هذه الأداة من وسيلة تواصل إلي وسيلة حشد وتعبئة سياسية، ليصل مولود جديد إلي مصر يسمي "حركة 6 أبريل" التي دعت إلي إضراب عام واستجابت له شرائح نوعية من المجتمع المصري آنذاك، واستهجنته شرائح أخري.

لست الآن بصدد تحليل دور هذه الحركة السياسية أو غيرها، ولكني أقف أمام هذا التحول السريع لدور اجتماعي في المقام الأول لهذه النوعية من المواقع إلي دور سياسي وأداة افتراضية بديلة اتخذها البعض منصة سياسية عبر فضاء الإنترنت الفسيح، هروبا من "العواجيز" المسيطرين علي الحياة السياسية في تلك الآونة، في محاولة لتجربة مصطلحات كانت جديدة عليهم وقتها تتعلق بمفاهيم كحرية الرأي والتعبير.

واستمر الاستخدام السياسي لهذه المواقع يزداد حتي استيقظت مصر منتفضة علي أحداث جديدة من نوعها يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير عام 2011، معلنة قيام ثورة جديدة مدارة بشكل كبير من وراء شاشات الكمبيوتر ويلعب فيها موقع فيس بوك الدور الرئيس، خالقا معه شخصيات نشطت افتراضيا عبر هذه المواقع ومثيلاتها كموقع تويتر علي سبيل المثال لا الحصر.

وبدأ التنوع الوظيفي لهذه المواقع يزداد، حيث كان موقع فيس بوك يستخدم لتنظيم التظاهرات وموقع تويتر للتنسيق بين النشطاء وموقع يوتيوب لنقل الصورة كاملة للعالم.

تحول نوعي

وهنا ظهرت المصطلحات الجديدة المرتبطة بهذه الفترة ومنها "الناشط السياسي" التي أصبحت بنسبة كبيرة مهنة من لا مهنة له ، و "الفلول" وهو من ظل علي قناعاته وايمانه المطلق بالنظام السابق، وظهر أيضا مصطلح "المنشق"  وهو من خرج عن مباديء الجماعة الإرهابية، بالإضافة إلي "القيادي السابق" وهو إرهابي بدرجة محلل سياسي أو خبير استراتيجي.

    ويأتي السؤال الأهم: هل هناك من يقف وراء هذا التحول ؟ هل هذه  النوعية من مواقع التواصل الاجتماعي هي بيئة خصبة لنمو مثل هذه النوعية من الأفكار أم أن هناك من يدير بحرفية واقتدار هذه التحولات من وراء لوحة المفاتيح؟   

الإجابة عن هذا التساؤل يقودنا إلي الهدف الرئيس من هذا المقال، وهو أن هذه النوعية من مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت تلعب الدور الرئيسي في تخدير وعي الشعوب العربية ليس لكونها مواقع إلكترونية فحسب ولكن لكونها صيدا سهلا في أيدي الجماعة الإرهابية ولجانها الإلكترونية وأبواقها الإعلامية التركية والقطرية.

وقد أصبحت هذه المواقع هي الأداة الأساسية فيما يسمي الآن بحروب الجيل الرابع والجيل الخامس والتي تعتمد بشكل أساسي علي توظيف آليات تكنولوجيا المعلومات بحرفية شديدة ومهارة عالية، وهي حروب أشد قسوة وضراوة من حروب الصواريخ لأنها تعتمد بشكل أساسي علي تدمير وعي الشعوب وعقولهم بنشر المزيد من الأكاذيب والشائعات، وقد يصل الأمر إلي تدمير اقتصاد دول بأكملها بإطلاق شائعة لخبر كاذب قد يؤدي مثلا إلي انهيار سوق الأوراق المالية في تلك الدولة.

الأمر خطير وبحاجة إلي إعادة نظر في مدي قوة وهيمنة هذه الأدوات الجديدة وقدرتها علي الوصول والتأثير، خاصة أن السواد الأعظم من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي يتعاملون مع المعلومات والأخبار بصورة انتقائية، حيث يشعر الفرد  بالارتياح للمعلومات التي تنسجم مع أفكاره ورؤاه السياسية والنفسية فيسارع لتصديقها ونشرها دون عناء التفكير.

وهذا التصرف غير المدروس هو ما يجعل هذه النوعية من الشائعات والأكاذيب تنتشر بشكل سريع، الأمر الذي يؤثر بالتبعية علي كيان دولة بأكملها، نتيجة انتشار خبر كاذب عن اقتصادها او سياساتها الداخلية مثلا.

وفي هذا الأمر اتذكر ما قاله أحد أهم ركائز تقسيم الوطن العربي "برنارد لويس" : الحل الوحيد للتعامل مع الشعوب العربية والمسلمة هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم وتقسيم دولهم إلي وحدات عشائرية وطائفية، واستثمار التناقضات العرقية والقبلية لتحقيق غرض السيطرة عليهم".

ومن هنا استخدمت هذه الجماعات الإرهابية والقوي الجديدة نمطا جديدا من الحروب لاستهداف الدول العربية وعلي رأسهم مصر، وهو نمط من الحروب لا يحتاج جيوشا منظمة او دبابات مصفحة، بل يحتاج إلي معلومات وأدوات تتناسب مع جيل يستخدم لوحة المفاتيح أكثر من القلم، نمط من الحروب يعتمد علي قوة الكلمة وسرعة انتشارها أكثر من قوة الرصاص الحي.

وهنا أيضا يجب التأكيد علي أن هذه الجماعات التي تستهدف إسقاط الدول مستخدمة ادوات وتقنيات مواقع التواصل الاجتماعي، ستزيد من قوة ادواتها في ظل تزايد الصراعات السياسية بينها وبين أنظمة الدول المراد إسقاطها، ليتم استخدام كل الأسلحة دون أية ضوابط أخلاقية، في الوقت الذي سيكون فيه المواطن العربي ضحية لتدفق معلوماتي مزيف يستلزم الحذر واللجوء لمصادر التحقق من صحة المعلومات.

الحسابات المزيفة كأحد أدوات الحرب الحالية

كانت شبكة فيس بوك قد اعلنت مؤخرا ارتفاع عدد مستخدميها بنهاية الربع الأخير من العام الماضي إلى 2.5 مليار مستخدم ليستمر النمو السريع لقاعدة مستخدمي الشبكة.

ومع هذا الازدحام داخل الموقع والعدد الكبير للمستخدمين تظهر مشكلة بدأت منذ نشأة الموقع عام 2004، وهي الحسابات الوهمية أو المزورة التي يقوم بإنشائها أشخاص لأهداف مختلفة، خاصة أن إنشاء حساب في موقع فيس بوك عملية سهلة جدًا ولا تخضع لأي قيود ولا تتطلب إثبات شخصية، مما يجعل استخدام معلومات غير صحيحة والتزويد ببيانات مزورة ومضللة أمرًا في غاية السهولة.

ورغم محاولات موقع فيس بوك المستمرة لمنع هذه الحسابات، لا تزال تظهر وبطرق عدة، وقد قام الموقع بإغلاق 583 مليون حساب مزيف، بحسب تقرير لإدارة الموقع عام 2018.

إلا أن هذه الحسابات المزيفة قد يتم استخدامها بأكثر من طريقة، الأولي: أن يلجأ الكثير من الأشخاص لإنشاء حسابات بأسماء مصطنعة لا وجود لها، وقد تبدو هذه الأسماء حقيقية،  الهدف من هذا الأسلوب هو إخفاء الشخصية الحقيقية عند القيام بالنشر أو التعليق، ليقوم هؤلاء الأشخاص بالتعليق بحرية في أي مكان دون الخوف من أية مسائلة قانونية.

الثانية: وهي الحسابات الوهمية التي يتم إنشائها بأسماء مشاهير، كالفنانين ولاعبي كرة القدم والسياسيين، وبعض هذه الحسابات تنجح أحيانًا في خداع المستخدمين بأن مالكها هو صاحب الحساب الأصلي، وعندها تكون المنشورات والتعليقات التي تصدر من هذا الحساب محسوبة على الشخصية الأصلية، ثم يتم بعد ذلك تغيير هوية الصفحة أو الحساب بعد أن تكون قد وصلت إلي عدد كبير من المتابعين، وتبدأ عملية الاستخدام الحقيقية لهذا الحساب المزور وهو بث الشائعات والأخبار المغلوطة، وقيام اللجان والكتائب الإلكترونية بوظائفها الأساسية في هدم الروح الوطنية وقيم الانتماء لدي المواطن العربي عامة والمصري بصفة خاصة.

وهناك بعض المؤشرات البسيطة التي يمكن لأي مستخدم ملاحظتها، ويستطيع من خلالها الشك في الحساب، وتحديد هويته بشكل أولي ، ومن بين هذه المؤشرات ما يتعلق بكون الحساب لا يضم صورا كثيرة، أو يضم الكثير من المنشورات العامة التي لا تعبر عن سلوك مستخدم لديه شخصية واضحة، أو أن يكون الحساب عدد أصدقائه ومتابعيه قليل مما يعني أنه منشأ حديثًا، أو أن يكون خاليًا من أي معلومات شخصية حقيقية، أو يستخدم أسماء وبعض الصفات الغريبة وغير المفهومة.

وتحاول شبكة فيس بوك في الآونة الأخيرة إضافة المزيد من الإعدادات التي تحقق قدرا عاليا من الحماية للحسابات الشخصية والصفحات والمجموعات التي تنشأ عبر شبكتها، ومن بين هذه الإجراءات ما يتعلق بإظهار المواقع الجغرافية لمديري الصفحات وعددهم، وهو إجراء قال الموقع إنه لجأ إليه لفرض الشفافية على أصحاب الصفحات وجعل جمهورهم يتحققون من أماكن إدارة هذه الصفحات.

الحرب بالمثل

الحديث عن خطورة مواقع التواصل الاجتماعي في إسقاط الدول يطول، ولكن الوقوف علي محددات رئيسية وآليات أساسية للمواجهة، يجب ان توضع في المقام الأول في الفترة الحالية، خصوصا مع ازدياد معدل استهداف الدول العربية وأولهم مصر.

وفي هذا الصدد، يمكن القول أن صمت الجهات المعنية عن نشر المعلومة الصحيحة في الوقت المناسب يجعل المنصات الإلكترونية المعادية لمصر تستغله لفبركة الأخبار ونشر المعلومات الزائفة والفيديوهات القديمة لوقائع مشابهة حدثت في الخارج للإيحاء بأنها حدثت في مصر، أو حتي نشر فيديوهات في غير سياقها الصحيح، مما يؤدي لنفس النتيجة وهو نشر مزيد من المغالطات وتخدير وعي المواطن العادي.

بالتالي سرعة الرد هي الآلية الأولي والأكثر أهمية في الوقت الحالي، لأن الفترة ما بين نشر الشائعة والرد عليها كفيلة بإحداث الكثير من البلبلة وزعزعة استقرار البلاد.

وتأتي الآلية الثانية والتي تتماثل في اهميتها مع الآلية الأولي وهي الرد بنفس الوسائل وبنفس الطرق المستخدمة في بث الشائعات والأخبار المغلوطة، من خلال الاستخدام الأمثل لمنصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية عبر شبكة الإنترنت، فليس من المعقول ان يتم الرد عبر وسائل الاعلام التقليدية كالصحف وقنوات التليفزيون، والسلاح الأساسي المستخدم في المعركة الحالية هو مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها المختلفة.

واقترح أيضا أن يكون هناك جهة رسمية تنشأ خصيصا للرد علي هذه النوعية من الأخبار المغلوطة والشائعات، وأن يكون بها فريق مدرب بشكل حرفي علي استخدام منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها وادواتها، وأن يكون لدي هذا الفريق المهارة العالية في استخدام اللغات العربية والأجنبية، ومهارة تحليل المضامين المنشورة أيضا للوقوف علي أسبابها وتحديد هوية صناعها.

وبالنسبة للمناهج التي تدرس في كليات الإعلام، يجب الاهتمام بالمقررات المعنية بالإعلام الرقمي والشبكات الاجتماعية، للتعرف علي جميع آلياتها ومحدداتها الأساسية، وكيفية الاستفادة منها في اوقات الأزمات.

وفي سياق وسائل الإعلام التقليدية، يمكن الاهتمام بالبرامج الحوارية التي يتابعها الكثيرون، من خلال التأكيد علي كيفية رفع وعي المواطن المصري بخطورة المنصات الاجتماعية، وخطورة الشائعات، بالإضافة إلي عرض طرق مبسطة للتحقق من صحة المعلومات المتداولة عبر هذه المواقع.

وأوصي في هذا الصدد وفيما يتعلق بطرق المواجهة، أن يكون هناك تكامل في أدوات الرد علي هذه الشائعات والأخبار المزيفة، سواء استخدمنا المنصات الاجتماعية او الطرق التقليدية، المهم هو التنسيق والمتابعة بين القائمين علي هذه الأدوات، فيما يخدم الصالح العام في نهاية الأمر، وبما يجعلنا نصل في النهاية إلي استراتيجية متكاملة تعمل كحائط صد لهذه السموم الفكرية. 

 

* الأستاذ المساعد بكلية الإعلام جامعة القاهرة


    الاكثر قراءة