الخميس 16 مايو 2024

كيف رأت إيلاف شفيق صاحبة «قواعد العشق الأربعون» التّصوف قادرًا على مواجهة التّعصب؟

أخرى10-10-2020 | 15:45

في عصر يسوده روح التّعصب والنّزاعات نحتاج إلى روحانية عالمية تجمع البشر من مختلف المشارب والخلفيات، وهذا ما سعت إليه الكاتبة "إيلاف شفيق" "Elif Shafak" عندما رسمت بريشة الفنان وقلب المُحِبّ في كتاباتها صورة دقيقة لكوامن نفس المتصوف الصادق في محبته، فإذا كانت تجربة غير الصوفي ترتكز على الشكل الخارجي فإنّ المتصوف من منظورها على خلاف ذلك مطلقا، فالتجربة الصوفية رحلة رُوحية يُبحرُ صاحبها داخل نفسه بحثا عن الله، الذي لا يقبع بعيدا في السموات العالية بل يقبع في داخل كلّ منّا؛ فهو القائل: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" [سورة ق، الآية١٦]، فلا يُمكن أن نتصورَ أنّ الله محصور في فضاء محدود، وهو الذي يقول: "ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلبُ عبدي المؤمن".


فيقع على عاتق المتصوف اكتشاف الروح الإلهية في داخله حتى يعيشَ وفْقها؛ كي يتبوأ المكانة الفريدة التي اختصّ الله بها الإنسان إذ يقول عز وجل، "ونفخت فيه من روحي" [سورة الحجر، الآية٢٩]. فقد خلقنا الله جميعا، من دون استثناء، لكي نكون خلفاءه على الأرض، فالمتصوف تغمره السعادة والأمل بتلك المكانة الفريدة، وفي الوقت نفسه مهموم بالإجابة عن سؤال "كيف أتصرف كخليفة لله"؟ ويُدرك أنّ أوّل الطريق، حتى يبلغ أرقى أشكال الوعي، أن يتعرّف على نفسه، ويُواجه بصدق جانبيها المُظلم والمشرق، فمعرفته بنفسه تقوده حتما إلى معرفة الله، فـ"ما الطريقة التي نرى الله فيها إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا، فإذا رأينا الله مفعما بالمحبة والرحمة، فإننا نكون كذلك.. وإذا رأينا الله يجلب إلى عقولنا الخوف والملامة، فإنّ هذا يعني أنّ قدْرا كبيرا من الخوف والملامة يتدفّق في نفوسنا".


عرّفت إيلاف شفيق الإيمان بالمحبّة حتى لأعدائنا، فالحبّ وحده هو القادر على أن يُطهّر قلوبنا مما عَلَق به، فليست القذارة تلك التي تُصيب الثياب والأجساد، ويمكن تطهيرها بالماء، وإنّما تلك التي تقبع في داخل قلوبنا، إنّها لوثة الكراهية والتعصب التي تُلوث الرّوح.



وهنا يكمن التحدى فإن كان من السهل أن تحب إلهاً يتصف بالكمال، والنّقاء، والعصمة، إلا أنه من الصعب أن تُحب مَنْ حولك من البشر بكل نقائصهم وعيوبهم، واستفزازتهم، فالامتحان الذي يتحقق به الإيمان هو أن تتعلم "كيف تُحبّ خلق الله؟" حتى تستطيع أن تحبّ وتعرف الله حقا، فالحب هو العلة، والحب هو المعلول، فعندما تحبّ الله، تحبّ كل مخلوقاته من أجله، وبفضله، تذوب جميع الانقسامات وتختفي، فلا يعود هناك شيء يُدعى "أنا"، وكل ما تبلغه هو صفر كبير يُغطي كيانك كلّه، فالمؤمن حياته رحلة حبّ ما إن يُبحر فيها إلا ويتغيّر من الداخل ومن الخارج.. "إنّ السعي وراء الحبّ يُغيّرنا".



من جانب آخر، لا يتكبر المتصوف بتدينه فهو على النقيض من المتدين المتعصب، الذين يظنّ أنّه يتفوق على الآخرين معتقدا "أنّ الله يقف إلى جانبه وحده"، وبدلا من أن يُفني ذاته في حبّ الله ومجاهدة نفسه لا يكفّ عن مُحاربة من يختلف معه، وبدلا من أن يحارب كراهية الآخر في نفسه يُحرض عليها، تشوب نظرته إلى الكون كلّه شُعور بالخوف، فلا يبرح أن يُولّد موجة بعد أخرى من الخوف، يتوقع أن الله، سبحانه وتعالى، سيتدخل بالنيابة عنه ليثأر له مما أغضبه؛ وكأنّ الله جندي في معاركه التي لا تنتهي، يرى في كلّ كارثة دليلا على غضب الله، وكأنّ الله لم يقل صراحة، "إن رحمتي سبقت غضبي"، تغمر حياته حالة متواصلة من المرارة والعداوة، ويلاحقه سُخط كبير أينما ذهب، مثل غيمة سوداء، فيسْوَدّ ماضيه ومستقبله. ينشغل عن البحث في جوهر القرآن، وأخذه ككلّ بانتقاء آية أو آيتين بعينهما، فيمنحون الأولوية للأوامر الإلهية التي يرون أنها تتناغم مع أسلوب تفكيرهم وعقولهم التي يسكنها الخوف. بخلاف الصوفيين الذين يُحبّون الله، لا خوفا من العقاب في نار جهنم، ولا رغبة في الثواب والمكافأة في الجنة، بل يحبون الله لمجرد محبته الخالصة، محبة نقية وسهلة، غير ملوثة، خالية من أي مصلحة، لا ينظرون إلى جنة أو نّار الآخرة؛ لأنّها من منظورهم تقبع هنا وفي تلك اللحظة، ففي كل مرة نُحبّ، نصعد إلى الجنة، وفي كلّ مرة نكره، أو نحسد، أو نحارب أحدا، فإننا نسقط مباشرة في نار جهنم.


وتُلخّص إيلاف شفيق الأطوار التي تكابدها النفس في رحلتها نحو الوحدانية في سبع مقامات، يسهل تلخيصها لكن يصعب اجتيازها، فالطريق ليس خطا مستقيما البتة؛ وهناك دائما احتمال السقوط والعودة إلى نقطة البداية، وأول الأطوار وأشدّها بدائية وانتشارا في الوجود، ما تُطلق عليه إيلاف "النفس الأمارة" وفيه تقع الرّوح في شرك المساعي الدنيوية، ويبقى مُعظم النّاس في هذا الطّور منهمكين في خدمة ذواتهم، لكنّهم يُحمّلون الآخرين على الدوام مسؤولية شقائهم المستمر، لكن عندما تُدرك النّفس ما وصلت إليه من انحطاط روحي، وتبدأ في المجاهدة تنتقل عبر تلك المجاهدة إلى الطور الثاني الذي هو عكس الطور الأول، فبدلا من أن تُنحي باللائمة على الآخرين، يبدأ المرء في لوم نفسه، وهنا تصبح النفس اللوامة، وبذلك يبدأ الرحلة نحو النقاء الداخلي.


وفي الطور الثالث، يزداد المرء نضجا وتنتقل النفس؛ لتصبح النفس الملهمة، وفي هذا الطور فقط، وليس قبله، يتمكن المرء من معرفة المعنى الحقيقي لكلمة "الخضوع"، ويبدأ في الطواف في وادي المعارف الإلهية، ويمتلك المرء الذي يبلغ هذه المرحلة الصبر، والمثابرة، والحكمة، والتواضع، ويبدو العالم له جديدا مليئا بالإلهام، غير أن معظم الذين يبلغون المقام الثالث يرغبون في البقاء فيه، ويفقدون الرغبة في الانتقال أو شجاعة الانتقال إلى الأطوار الأخرى؛ أما الذين يتمكنون من المضي قُدما، فهم يبلغون الطور الرابع حيث "وادي الحكمة"، ويعرفون "النفس المطمئنة"، وهنا يختلف إحساس النّفس عما كانت عليه؛ لأنّها ترتقي إلى درجة أعلى من الوعي، ومن الصفات التي تُلازم الذين بلغوا هذا الطور: الكرم، والعرفان، والشعور الدائم بالرضا، مهما بلغت مشاقّ الحياة ومصاعبها، ثم يأتي الطور الخامس حيث مقام "وادي الوحدة"، ويشعر المرء الذي يبلغ هذا المقام بالرضا مهما كان الوضع الذي يضعه الله فيه. فلا تهمّه الأمور الدنيوية؛ لأنه بلغ النفس الراضية. وفي الطور السادس، تأتي النفس المرضية، حيث يصبح المرء مشكاة للإنسانية، يبثّ الطاقة في كل من يطلبها، ويعلم وينور مثل أستاذ حقيقي. وقد يمتلك المرء أحيانا قوى شافية أيضا. فحيثما ذهب، يُحدث أثرا كبيرا في حياة الآخرين، ففي كلّ شيء يفعله ويصبو إلى عمله، يكون هدفه الرئيسي خدمة الله من خلال خدمة الآخرين. وأخيرا يأتي الطور السابع، حيث يبلغ المرء النفس النقية، ويصبح "الإنسان الكامل" لكن أحدا لا يعرف الكثير عن هذه الحالة، التي حتى لو بلغها البعض، فإنّهم لا يتكلمون عنها.