الثلاثاء 14 مايو 2024

محمد علي باشا: الشخصية المصرية وبناء الدولة الحديثة

فن11-10-2020 | 18:45

قدم محمد علي إلى مصر على رأس الفرقة الألبانية العسكرية، والتي كانت ضمن القوات العثمانية المرسلة إلى مصر لإقصاء الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت (1798- 1801م)، وأبلى محمد علي بلاءً حسنًا في كتير من المعارك التي اشترك فيها خاصة في الرحمانية.


وبعد خروج الحملة الفرنسية من مصر، وعودة السيادة العثمانية على مصر، ظل محمد علي في مصر كقائد للفرقة الألبانية، وشهدت تلك المرحلة حالة من الفوضى والاضطراب، وتعدد الولاة في فترة قصيرة.


ومن ناحية أخرى، كان هناك صراع على مسرح الأحداث السياسية في مصر من أجل الانفراد بحكم البلاد، وكانت أطراف الصراع: العثمانيين، المماليك، الإنجليز، وفي الوقت نفسه كان هناك قوة رابعة هي الأكثر شرعية؛ هي قوة الشعب المصري، والتي خرجت من رحم الأحداث وأصبح للشعب زعامة وطنية، والتي لعبت دورًا في صنع الأحداث.


وبحلول عام 1803م، حدثت أزمة اقتصادية في مصر بسبب انخفاض منسوب النيل، وانعدام الأقوات، وارتفاع الأسعار، ومن ثم قام شيخ البلد المملوكي عثمان البرديسي بفرض الضرائب الباهظة على المصريين ليتمكن من دفع رواتب الجند المتأخرة، ومع تشدده في جمع الضرائب يخرج الشعب في ثورة ضده هاتفًا (ايشتاخد يا برديسي من تفليسي).


وهنا يظهر محمد علي قائد الفرقة الألبانية تعاطفًا مع المصريين، وتأييدًا لهم، بل وعد ببذل أقصى جهد لرفع الظلم عنهم، فبدأ زعماء الشعب ينظرون لمحمد علي على أنه رجل عادل كاره للظلم، ومع تصدي محمد علي لظلم المماليك وهروبهم إلى الصعيد، وخلو منصب الوالي بعد مقتل علي باشا الجزايرلي في عام 1804م، مما أحدث حالة من الفراغ السياسي في مصر، ليتصدر محمد علي المشهد مرة أخرى، ويرشح خورشيد باشا محافظ الإسكندرية ليتقلد الولاية، وبذلك ينفي عن نفسه الطمع في الولاية، ويضمن رضا الباب العالي، ولكن استمر خورشيد في سياسية اضطهاد المصريين وظلمهم، ليقرر الشعب عزله وتولية محمد علي واليًا على مصر 1805م.


-انتصار الإرادة الشعبية (الشعب المصري يمتلك الحقوق الحصرية للشرعية)


كان اختيار محمد علي باشا واليًا على مصر نقطة تحول ديمقراطي في تاريخ مصر الحديث، ويعتبر هذا المشهد الرائع هو بداية تكوين الشخصية المصرية الوطنية، وهو اليوم الذي عرفت مصر فيه طريق حريتها واستقلالها وحقها في تقرير مصيرها.


وتكمن أهمية الحدث في انتصار الإرادة الشعبية؛ حيث إن الولاية والعزل تمت بإرادة شعب وليس بقوة السيف، ومن ناحية أخرى فرضت الشخصية المصرية إرادتها عندما ربطت الولاية بشروط وهي؛ العدل، والشورى، والرفق بالرعية، مما وضع قاعدة دستورية للحكم في مصر لأول مرة، وبذلك أكد هذا المشهد على وجود زعامة شعبية مصرية وطنية، أصبحت تلعب دورًا مهمًا في صنع الأحداث ولم يعد فقط وسيطًا بين الحاكم والشعب.


وبذلك استطاعت الشخصية المصرية أن تفرض إرادتها أيضًا على السلطان العثماني وأن ينزل على إرادتها بعزل "خورشيد باشا"، وتولية محمد علي واليًا على مصر ليؤكد الشعب المصري أنه صاحب القرار، وهو الذي يمتلك الحقوق الحصرية للشرعية.


-النهضة الاقتصادية (الاعتماد على قدرات مصر الذاتية)


كانت فلسفة محمد علي في بناء الدولة المصرية الحديثة تعتمد على ثلاث محاور مهمة؛ وهي الاقتصاد، والتعليم، والجيش، وكانت البداية لابد من وجود نظام اقتصادي قوي يوفر الأموال اللازمة لبناء الدولة، فقرر محمد علي الاعتماد على قدرات مصر الذاتية دون الدخول في علاقة تبعية تجعل من مصر بلد خاضع لسيطرة الإمبريالية العالمية، فعمل على تنمية الزراعة بإدخال محاصيل جديدة؛ ومنها القطن طويل التيلة الذي ما زال إلى الآن علامة تجارية مصرية، كما طور منظومة الري بتحويل ري الحياض إلى الري الدائم بإنشاء الترع والقناطر، ومن ناحية أخرى نهض محمد علي بالصناعة من خلال إنشاء المصانع، وإرسال البعثات الصناعية، وإنشاء المدارس المهنية والفنية.


ومن الملاحظ أن محمد علي اعتمد على العلم الحديث في كل مرحلة من مراحل بناء الدولة من خلال إنشاء المدارس المتخصصة وإرسال البعثات، واستقدام الخبراء المتخصصين في كل مجال.


- الجندية والمواطنة


يعتبر بناء جيش نظامي من أهم التحديات التي واجهت محمد علي، حلم طالما داعب محمد علي قبل أن يتولى حكم مصر، في أن يقود جيشًا نظاميًا مدربًا على أحدث النظم العسكرية، ولما تولى محمد علي حكم مصر، سعى إلى تحقيق هذا الحلم الذي أصبح ضرورة ليكون اليد القوية، والقوة الحديدية التي تحقق الأمان في الداخل، وتوسيع حدود إمبراطوريته في الخارج. واستعان في ذلك بالقائد الفرنسي الكولونيل (جوزيف أوكتاف انثلم سيف ) والذى عرف بسليمان باشا الفرنساوى ، مؤسس العسكرية المصرية الحديثة.


لم يكن في فكر محمد علي بناء جيش من المصريين خشية أن تتأثر الأراضي الزراعية بتجنيد الفلاحين، فوقع الاختيار على السودانيين لإلحاقهم بسلك الجندية، ومع فشل التجربة، عاد محمد علي إلى قائمة اختياراته ليختار الخيار الأصعب ولكن كان الأصوب، بتجنيد المصريين، ليحقق محمد علي بذلك الربط بين الجندية والمواطنة، وتأصيل روح الولاء والانتماء، ورغم مقاومة المصريين للالتحاق بالجندية؛ إلا أنه مع مرور الوقت انخرطوا في سلك الجندية وأصبح هناك جيش مصرى بحلول عام 1824، قوامه 24000 جندي مصري، ولأول مرة يكون هناك جيش وطني منذ العصر الفرعوني.


ولكن ظلت العلاقة بين الجندية والمواطنة غير مكتملة، بسبب كون الضباط من الأتراك والشراكسة، أو على حسب الوصف كانت القاعدة فلاحية والقمة تركوشركسية، كما لم يكن من حق الأقباط الالتحاق بسلك الجندية، وهكذا كانت المواطنة منقوضة.


وبغض النظر عن ذلك، فصبغ الجيش بالصبغة المصرية الوطنية كان حدث جلل، أطلق عليه محمد علي "الأثر الجليل"، واستطاع هذا الجيش أن يبلي بلاءً حسنًا في الميادين الحربية، والمعارك التي شارك فيها لاسيما حرب المورة في اليونان رغم الهزيمة، ثم حروب الشام، والتي أذاق فيها الجيش المصري الجيش التركي مرارة الهزيمة، وكانت سببًا في التدخل الأجنبي لتسوية المسالة المصرية، وفرض على محمد علي باشا معاهدة لندن 1840م، التي أعطت لمحمد علي حكم مصر وراثيًا في ظاهرة غير مسبوقة في كل ولايات الدولة العثمانية حيث أصبحت مصر منذ ذلك التاريخ تتمتع بالحكم الذاتي.


إلا أن معاهدة لندن وضعت حدًا لطموحات محمد علي، وانهار البناء أمام عينيه فاعتلت صحته، وتأثرت حالته النفسية، وقضى سنوات عمره الأخيرة على ذلك، حتى وافته المنية يوم 2 أغسطس 1849م في سرايا رأس التين بالإسكندرية، ويُحمل جثمانه عبر ترعة المحمودية ليواري الثرى في قبره الذي أعده في مسجده بالقلعة. ليسدل الستار على صفحة من صفحات تاريخ مصر الحديث (عزيز مصر... الجنتكمان محمد علي باشا)

المرء يفنى وبعد الموت تذكره آياته الغر بالحسنى وتحييه


    Dr.Radwa
    Egypt Air