الثلاثاء 21 مايو 2024

أم كلثوم والهوية المصرية

فن11-10-2020 | 20:47

تعتبر كوكب الشرق أم كلثوم خير من عبّر عن الهوية الموسيقية المصرية من خلال أغانيها التى تناولت مختلف المعانى (العاطفية – الوصفية – الدينية – الوطنية ) وقد شدت أم كلثوم بألحان أحد عشر ملحنا هم من عظماء الملحنين المصريين، بل وقد قامت هى بتلحين لحنين لنفسها وغنتهما، وهما طقطوقة "على عينى الهجر ده منى" وسجلتها على أسطوانة عام 1928، والمونولوج الغنائى "يا نسيم الفجرريان الندى" وسجلتها على أسطوانة عام 1935، ولكن أم كلثوم بذكائها اكتفت بأن تشدو بألحان كبار الملحنين وتستفيد بأفضل ما عند كل منهم، ولا تشغل نفسها بالتلحين، وقد هيأ الله سبحانه وتعالى لها كل الظروف التى ساعدتها على التعلم واكتساب الخبرة العملية فى مجال الغناء وإتقان كل فنونه، من خلال رعاية والدها الشيخ إبراهيم البلتاجى لها وهو المنشد والخبير فى مجال الغناء، وقد كان لأدائها فى بداية حياتها الفنية للإنشاد الدينى الإسلامى الذى يؤدى  بدون مصاحبة من الآلات الموسيقية، وهذا يتطلب ممن يؤديه أن يكون شديد الموهبة الموسيقية، ولديه القدرة على أداء النغمات الصحيحة بسهولة، والانتقال بين الجمل الموسيقية ببراعة وإتقان، كان ذلك هو الأساس المتين الذى بنت عليه أم كلثوم مجدها فى عالم الغناء.

وقد أحسن الملحنون الذين لحنوا لها استثمار هذا الصوت النادر، فقدموا لها الألحان التى يصعب على غيرها أداءها، كما أنها قد تمتعت بميزة أخرى وهى القدرة على الارتجال أثناء الغناء، وهذا يتطلب منها أن تكون قد تمكنت من معرفة مقامات الموسيقى العربية المختلفة بصورة عملية، فكانت تقوم بالارتجال أثناء أدائها لأغانيها، ونظرا لتمكنها من فنها فقد كانت تلك الارتجالات تأتى فى سياق اللحن الذى تغنيه. إن هذا الصوت النادر كان يتمنى كل ملحن أن يلحن له، وكان كل الملحنين الذين شدت أم كلثوم بألحانهم قد أتقنوا تماما فنون الموسيقى العربية، عزفا وغناء وابتكارا، وجمع بينهم أن كل إبداعاتهم كانت فى إطار الهوية الموسيقية المصرية، التى تميزت بملامحها عن غيرها من الألحان فى البلاد الأخرى، بأساليب استخدامهم لمقامات الموسيقى العربية الثرية والمتنوعة، والتى يمكن من خلالها التعبير عن كافة المشاعر الإنسانية، وكذلك استخدامهم للموازين الموسيقية المناسبة البسيطة منها والمركبة فى صياغة ألحانهم وأيضا الآلات الموسيقية المصاحبة للغناء، وكل تلك العناصر تكون بين يدى الملحن ليصيغ منها ألحانه التى تحمل فى النهاية الهوية الموسيقية المصرية المتميزة، وإن اختلفت ملامحها من ملحن لآخر وفقا لمواهبه الموسيقية وقدراته الفنية، وحالته النفسية أثناء تلحينه للأغانى، وفيما يلى نقدم نماذجا من أغانى أم كلثوم التى تتجسد فيها الهوية الموسيقية المصرية، فمثلا إذا إستمعت إلى القصائد الغنائية الدينية التى لحنها الملحن الكبير رياض السنباطى لأم كلثوم، تجد صدق المشاعر الدينية الفياضة تسرى من خلال نغمات اللحن وخاصة أن رياض السنباطى قد نشأ فى بيئة دينية وتأثر بها، فلو استمعنا مثلا إلى قصيدة "ولد الهدى" والتى يقول مطلعها "ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء" شعر أمير الشعراء أحمد شوقى وغناء أم كلثوم، وقد صاغ رياض السنباطى هذا الحن  فى مقام الراست، وهو المقام الأساسى فى الموسيقى العربية، وفى ذلك اللحن عبر السنباطى بصدق عن مشاعره ومشاعر المسلمين وحبهم لرسول الله صلى االله عليه وسلم، أما إذا استمعت إلى لحن المونولوج الغنائى (شمس الأصيل) الذى يصف أحد مشاهد الطبيعة فى مصر، كلمات محمود بيرم التونسى، والذى صاغه السنباطى فى مقام الحجازكار ليناسب أسلوبه فى صياغة اللحن ووصف جمال الطبيعة وتأمل  شمس الأصيل ومدى المشاعر التى تنتاب الإنسان أمام هذا المشهد الطبيعى الخلاب، وكذلك إذا استمعت إلى قصيدة (صوت الوطن) التى يقول مطلعها (مصر التى فى خاطرى وفى فمى، أحبها من كل روحى ودمى ) شعر أحمد رامى والتى صاغها رياض السنباطى فى مقام النهاوند، وعبرخلالها بعمق عن مدى حبه لبلاده، فالأغنية الوطنية فى الواقع هى أغنية عاطفية فى حب الوطن. وعندما تستمع إلى أم كلثوم وهى تشدو بموال (برضاك يا خالقى ) من كلمات محمود بيرم التونسى، وتلحين زكريا أحمد، تشعر بالخشوع فى أسمى صوره،

هذا بجانب استعراض إمكانيات صوت أم كلثوم  وإتقانها فى أداء كلمات هذا الموال الذى صاغه الشيخ زكريا أحمد فى مقام الحجاز. وفى مشهد آخر تغنى أم كلثوم من كلمات محمود بيرم التونسى

وتلحين الشيخ زكريا أحمد أيضا طقطوقة (قوللى ولاتخبيش يازين ) وتؤديها باللهجة البدوية التى تنطق حرف (القاف ) تنطقه (جيم )، وقد صاغ الشيخ زكريا أحمد هذا اللحن فى مقام الراست متأثرا بأصوله البدوية، وهو كما قلنا المقام الأساسى فى الموسيقى العربية، وإذا استمعنا إلى طقطوقة (محتار يا ناس فى دى الغرام ) من كلمات أحمد رامى وتلحين محمد القصبجى، وغنتها عام 1931، وفيها عبر الملحن عن حيرة المحب مع محبوبته، وصاغ هذا اللحن فى مقام الشورى، وغنت أم كلثوم أيضا من تلحين القصبجى طقطوقة (مادام تحب بتنكر ليه )ولحنها القصبجى عام 1940، من كلمات أحمد رامى، وعبر القصبجى فى هذا اللحن عن المحب الذى لا يفصح عن حبه لمحبوبته، وقد صاغ القصبجى هذا اللحن فى مقام النهاوند، وفى عام 1971، شدت أم كلثوم بقصيدة (أغدا  ألقاك ) شعر الهادى آدم  وتلحين محمد عبدالوهاب، وعبر من خلال لحنها عن تساؤل المحب عن إمكانية لقاء محبوبه فى الغد ؟ وقد صاغ عبدالوهاب هذا اللحن فى مقام العجم، ولحن أيضا لأم كلثوم قصيدة وطنية هى قصيدة (على باب مصر تدق الأكف ويعلو ويعلو ويعلو الضجيج ) من كلمات كامل الشناوى، وصاغها عبدالوهاب فى مقام النهاواند.

وفى عام 1954، شدت أم كلثوم بألحان محمد الموجى، الذى كان أول ملحن شاب يلحن لها، عندما لحن لها قصيدة الجلاء من كلمات أحمد رامى، بمناسبة توقيع إتفاقية الجلاء بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية، وقد صاغها الموجى فى مقام الحجاز، ويقول مطلعها :

 

يا مصر إن الحق جاء     فاستقبلى فجر الرخاء

اليوم قد تم  الجلاء        ونلت غايات المنى

         ومصر قرت  أعيننا

  وقد غنت أم كلثوم من ألحان الموجى أيضا، طقطوقة

(محلاك يا مصرى وأنت ع الدفة ،  والفرحةعاملة فى القنال زفة )

من كلمات صلاح جاهين، ولحن هذه الطقطوقة يشيع جوا من الفرح والمرح بتأميم قناة السويس فى (26 /7/1956 ) فجاء هذا اللحن معبرا عن فرحة المصريين بهذا الحدث العظيم، وقد صاغه الموجى فى مقام الهزام.

وفى عام 1956، لحن كمال الطويل لأم كلثوم نشيد (والله زمان يا سلاحى ) كلمات صلاح جاهين وقد لحن هذا النشيد أثناء الغارات

التى شنتها القوات المعتدية  على القاهرة، فجاء ذلك اللحن شديد الحماس، وكان له أكبر الأثر على المصريين فى ذلك الوقت، وقد صاغه كمال الطويل فى مقام العجم، وصار فيما بعد السلام الوطنى

لمصر.

وفى عام 1960، لحن بليغ حمدى أول ألحانه لأم كلثوم، وهو لحن (حب إيه اللى إنت جاى تقول عليه )كلمات عبدالوهاب محمد، وكان بليغ حمدى يمثل دماء جديدة فى الحياة الموسيقية المصرية

يحرص على تقديم إبداع جديد، فأعطى لأم كلثوم لونا غنائيا جديدا، وصاغ اللحن فى مقام البياتى.

وفى عام 1972، لحن الشيخ سيد مكاوى لأم كلثوم طقطوقة (يا مسهرنى ) فأعادنا إلى أسلوب التلحين التقليدى، ولكن بأسلوب معاصر، وقد صاغ سيد مكاوى لحنه فى مقام الراست.

وفى عام 1973، قدم بليغ حمدى لأم كلثوم لحن المونولوج الغنائى

(حكم علينا الهوى ) من كلمات عبدالوهاب محمد، وصاغه بليغ فى مقام الراست، والجدير بالذكرأن هذا اللحن هو آخر ما غنت أم كلثوم فى حياتها، وقد سجلته على أسطوانة، ولم يتح لها تقديمه  فى حفل عام، نظرا لمرضها ثم وفاتها فى الثالث من فبرايرعام 1975.  

كل تلك الألحان عبرت بصدق وعمق عن الهوية الموسيقية المصرية، سواء فى أسلوب صياغة الألحان أو استخدام المقامات الموسيقية العربية، والموازين الموسيقية المختلفة البسيطة منها أو المركبة والآلات الموسيقية المصاحبة للغناء، وكل تلك العناصر تكون بين يدى الملحن المصرى، الذى استطاع ببراعة أن يحافظ من خلالها على الهوية الموسيقية المصرية فى ألحانه التى تناولت مختلف المعانى وعبرت عن المشاعر الإنسانية المتباينة.

رحم الله أم كلثوم فقد قدمت لنا النماذج العليا فى الفن، واحتفظت فى كل الألحان التى شدت بها لكبار الملحنين، بكل مميزات الهوية الموسيقية المصرية.