الأحد 19 مايو 2024

«متونسة بحس مين يا مصر» في غياب عبد الرحمن الأبنودي؟

فن11-10-2020 | 20:54

الذي يتأمل شعر عبد الرحمن الأبنودي يقف أمام عدة ملامح: الأول أنه لا يشبه من جاءوا قبله من حيث بناء القصيدة ومضمونها، ففي حين مالت قصائد رواد العامية إلى النقد الاجتماعي فإن قصيدته كانت إنسانية أكثر، تعبر عن جموع الناس وعن مشكلاتهم وحياتهم وبلهجاتهم نفسها. الثاني أن بناء قصيدته أخذ شكل قصيدة التفعيلة ذات الأسطر متفاوتة الطول، موازيًا لقصائد شعراء التفعيلة الستينيين الذين يعدون امتدادًا لشعر رواد التفعيلة في مصر والعراق، صحيح أن صلاح جاهين وفؤاد قاعود ومجدي نجيب -على سبيل المثال- كتبوا هذا الشكل، لكن قصيدة الأبنودي أكثر تعبيرًا عن شكل ومضمون هذا الاتجاه، فلم يذهب إلى الحكمة التي نجدها في رباعيات صلاح جاهين، كما لم تغره الحداثة التي نجدها عند مجدي نجيب.


الملمح الثالث أنه متدفق، مثل محمود درويش في الفصحى، لديه قدرة كبيرة على الاسترسال دون حشو، ودون أن يجعل قارئه يمل، فبعض قصائده تطول حتى تصير بحجم ديوان، مثل قصيدته الشهيرة "صمت الجرس": "أشكو إليك يا فارسي المجيد، ياللي على جبلك بعيد، مرتفع أو مستريح في ضل مهرك العنيد، يا مسلة الفرعون سراب البيد، يا من على أعلى ما في الدنيا بتتسمع ميلاد البحر، ولحظة القمر السكينة ف لحظة الحب الشديد، أشكو إليك يا من لا تحلم بيك عيون التعب، يا من هتيجي من هناك يومًا إلى الدنيا يهزك الغضب ويدفعك تحت التلال للأرض". أو قصيدته الأشهر "الأحزان العادية": "وفجأة/ هبطت على الميدان/ من كل جهات المدن الخرسا/ ألوف شبان/ زاحفين يسألوا عن موت الفجر/ استنوا الفجر ورا الفجر/ إن القتل يكف/ إن القبضة تخف/ ولذلك خرجوا يطالبوا/ بالقبض على القبضة/ وتقديم الكف".


الملمح الرابع أنه الوحيد -ربما- من بين شعراء العامية المعاصرين -أو حتى القدامى- الذي كتب مبكرًا جدًّا دواوين تدور حول موضوع واحد، مثل "جوابات حراجي القط"، إضافة إلى أن بناء تلك القصائد فريد -ربما أيضًا- في هذا النوع، فهو رسائل متبادلة بين عامل في السد العالي، وزوجته، بمقدمات الخطابات ونهاياتها: "الجوهرة المصونة/ والدرة المكنونة/ زوجتنا فاطنة أحمد عبد الغفار/ يوصل ويسلم ليها/ في منزلنا الكاين في جبلاية الفار/ أما بعد:/ إذا كنت هاودت كسوفي ع التأخير/ والله ما كنت هخط بإيدي حرف/ سامحيني يا فاطنة ف طولة الغيبة عليكم/ وأنا خجلان خجلان..".


الملمح الخامس أن الأغنيات التي كتبها لكبار المطربين تعد علامات فارقة في مسيرة الغناء المصري، لأنه اهتم بالكلمة الراقية والصورة الجمالية، دون أن يكون ملغزًا، شاعريته المنسابة استطاعت أن تخلط الملمحين معًا ببساطة، أن يكون جميلًا راقيًا، وقريبًا من العامة في الوقت نفسه: "يا لولا دقة إيديكي ما انطرق بابي/ طول عمري عاري البدن وإنت جلبابي/ ياللي سهرتي الليالي يونسك صوتي/ متونسة بحس مين يا مصر ف غيابي؟"، و"ياللي سريرك من فضة/ النور في كفك يتوضا/ كل الليالي هتتقضى وترجع على دارك".


الملمح السادس أنه الأب الحقيقي للشعر العامي المعاصر المكتوب باللهجة المصرية، فبناءات قصائده وموضوعاتها وثيماتها تسربت إلى الأجيال التالية بشكل أو بآخر، أقصد إلى أغلبية ما يُكتب الآن، وهذا طبعًا لا ينفي وجود فؤاد حداد عند شعراء كثيرين، الذي يعد امتدادًا وتطويرًا لشعر وروح بيرم التونسي الانتقادية الأقرب إلى روح الزجل، وصلاح جاهين كذلك الأقرب إلى الفلسفة، لكن جماليات القصيدة التفعيلية الملتصقة بالروح المصرية وهمومها اليومية -التي ميزت الأبنودي عن أقرانه وأساتذته- هي الغالبة حتى اللحظة، بالرغم من أن التجربة الثمانينية حاولت أن تخرج إلى فضاءات أخرى مثل الحداثة -التي حاول فيها مجدي نجيب- أو إلى نثر العامية، لكن الأبنودي بقي، لأنه الأقرب إلى الذائقة العامية ذات الطابع الشفاهي الخطابي المسيس.


الملمح الأخير هو مصاحبة قصائده للوطنية المصرية، والعربية عمومًا، فمنذ بداياته في ستينيات القرن الماضي بدأ يكتب عن التجربة الناصرية، التي صبغت هذه الفترة وأيدها كثيرون من الشعراء والمثقفين، فكتب عن اشتراكية عبد الناصر، رغم أنه في رثاء ناصر نفى أن يكون ناصريًّا: "مش ناصرى ولا كنت فى يوم/ بالذات وف زمنه وف حينه/ لكن العفن وفساد القوم/ نسانى حتى زنازينه"، وفي هذه القصيدة التي رثى فيها ناصر يقول أيضًا: "زاى ينسّينا الحاضر../ طعم الأصالة اللى فى صوته؟/ يعيش جمال عبدالناصر/ يعيش جمال حتى ف موتُه/ ما هو مات وعاش عبدالناصر!!"، و"كان الأمل فى خُضرِتُه بِكْر/ مافيش لصوص للقوت والمال/ ومصر أبطال ورجال فكر/ ومثقفين ستات ورجِال/ جيوش جمال عبدالناصر"، "كان الهلال فى قلبه صليب/ ولا شفنا حزازات فى بلادنا/ ولا شُفنا ديب بيطارد ديب/ ولا جرَس خاصم مادنة/ وَحَّدْنا صُوت عبدالناصر". وقد كتب الأبنودي يلوم عبد الناصر -بعد موته- لأنه لم يعالج جذور المشكلات التي واجهت وتواجه مصر: "أشكيك لرب العرش والأكوان‬ ياعبدالناصر/ ‬إنت السبب/ ‬عالجتني في الجلد/ ‬وتركت العصب"، كما ترحم على أيامه في قصيدة بعنوان "الله يجازيك يا عم عبد الناصر": "مُلهم أنا.. وأعمل غبى/ وآدى الألم يا عم عبد الناصر/ زاحف وبيحاصر/ وآدى الجميع خاسر/ وآدى فجر أمتنا الجميل مغلوب/ وآدى انتحار الأمة بالمقلوب/ وأنا.. غريب الدار../ لابسنى توب العار/ ساكن فى وطنى بالإيجار/ قاعد أنا ع الجسر فى القيَّالة/ من قلبي اللهيب مِنشالة/ وقلبى.. ساقية حزن سَيالة/ باغنى..".


مفهوم الوطنية في شعر الأبنودي لم يتوقف طويلًا أمام التغني بالوطن وتمجيد إنجازات القائد، فأتصور أن ذلك ارتبط بأمرين معًا: الأول أن الخمسينيات والستينيات كانت سنوات صاخبة، فقد نجحت حركة يوليو وأزاحت حكم أسرة محمد علي الألبانية، وخرجت القوات البريطانية من مصر بلا رجعة، وتم تأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، والحروب المتتالية ضد إسرائيل.. مع ما صاحب ذلك من صخب (وطني)، وتصنيف للناس بين أنصار وأعداء الوطن.. إلخ. الثاني أن تجربة الأبنودي كانت في بدايتها، وهو نفسه كان شابًّا يغلب عليه الحماس.


بعد انقضاء هذه الفترة وزوال أسبابها أصبح مفهوم الوطنية أكثر عمقًا في شعر عبد الرحمن الأبنودي، فأصبح يرى أن "الوطن" هو مجموع المواطنين بمشكلاتهم وأحلامهم المتحققة أو المجهضة، بالمستقبل الذي بدا غائمًا ضبابيًّا، بالتقدم والنمو الاقتصادي الذي تراجع، والنهضة الثقافية والفكرية التي خفتت تحت زحف الأصولية الإسلامية،فقد انتشرت من الخليج بعد الوفرة المالية التي نتجت عن ظهور النفط بكميات وفيرة. طبعًا هذا لا ينفي أنه تراجع عن هذا المفهوم العميق مرات، أبرزها قصيدته "اللهم لا اعتراض" التي كتبها بعد الاحتلال العراقي للكويت، فيما اعتبره كثيرون من النقاد والشعراء تبريرًا لموقف السلطة المصرية وقتها، يقول فيها: "أشكو إليك يا واهب النعم/ يا أقدم القدم/ إنت اللي أعلم باللي فيا من ألم/ بلدي انظلم/ واللي ظلمني ولاد عمومة ودين ودم/ كانوا مع الشيطان يا ربي على ميعاد/ واللهم لا إعتراض".


بعد هزيمة 1967، كتب الأبنودي قصيدته الشهيرة "عدى النهار" التي غناها عبد الحليم حافظ: "عدّى النهار.. والمغربية جايّة/ تتخفّى ورا ضهر الشجر/ وعشان نتوه في السكة/ شالِت من ليالينا القمر/ وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها/ جانا نهار مقدرش يدفع مهرها/ يا هلترى الليل الحزين/أبو النجوم الدبلانين/ أبو الغناوي المجروحين/ يقدر ينسّيها الصباح/ أبو شمس بترش الحنين؟". وعلى الرغم من أنها لا تزال تتحدث عن "الوطن" بشكل مباشر "بلدنا"، وإن كان استخدم الرمز حيث شبهها ببنت يانعة تغسل شعرها ويسعى الآخرون لخطب ودها، فإنها -القصيدة- كانت بداية لشعر جديد أكثر غوصًا في الحالة الوطنية العميقة كما بينت، والتي ظهرت أوضح ما تكون في أغاني مسلسل عبد الله النديم التي غناها علي الحجار: "يا هلتري عامله إيهفي الليل يا أوطاني/ والفجر لم الجناحمش راح يعود تاني/ لا الصوت دا صوتكولا أغانيكي عجباني/ آهين يا محروسهقد ما إنتي وحشاني/ مش عاوزة اشوفكوخللي ما بينا حيطه وباب".


في أيامه الأخيرة ارتد عبد الرحمن الأبنودي إلى شعر المثلثات والمربعات والبناءات الموزونة المتماثلة التي تشبه الزجل، (وفعل ذلك -بالمناسبة- شعراء آخرون جاءوا بعده مثل ماجد يوسف ومحمد كشيك!)، وكتب في هذا الشكل عدة قصائد عن ثورة يناير 2011، وعن رموزها، مثل قصيدته الشهيرة "ضحكة الزنازين" التي يقول في بعض مثلثاتها: "الحزن طايح فى قلوبنا.. بجدّ/ ما فضلْش غير الشوك فى شجر الورد/ غِلِط الربيع ودخل فى أغبى كمين!!/ ***/ يا للى دَمَعْتى.. رجّعى الدمعه/ الدِّنيا شايفه كلّها وسامعه/ واللى سرق.. حيخبى شيلته فين؟/ ***/ ولدِك ضياء الفجر.. بمقاسُه/ ووطنّا عارف عِزوتُه وناسُه/ أجيَال بترحل.. والجُداد جايين".


يظل الأبنودي واحدًا من أكبر شعراء العامية المصرية المعاصرين، وأكثرهم موهبة وتدفقًا، وتعبيرًا عن روح المرحلة التي عاشها وكتب عنها، من خمسينيات القرن العشرين إلى ما بعد ثورة يناير 2011، ويظل شعره الأقرب لروح مصر، والأكثر شيوعًا بين شعرائها من الأجيال التالية.