انتقل شعر العامية المصرية نقلة نوعية وموضوعاتية كبيرة على يد الشاعر فؤاد حداد؛ حيث تمكن من تحرير العامية المصرية من قولبة الأشكال الفنية ومحدودية الموضوعات الفكرية واستطاع –بتعبير غالي شكري- أن ينتهي بشعر العامية إلى ما يمكن تسميته بالمضمون الفني الذي يعالج التجربة "المصرية" في محورها "الشعبي" مجددا لأنغامها "المحلية" ومحافظا في الوقت نفسه على خصوصيتها.
تحددت تجربة فؤاد حداد في تجديده لأدوات التعبير التقليدية، أما النقلة الكيفية فأحدثها صلاح جاهين – وجاءت من أثر التجريب على النتائج الحدادية-؛ فقد ركز جاهين على الصورة وعلى توظيف معطيات فن التصوير في أشعاره، ربما كان السبب هو موهبته كفنان تشكيلي، أو لأن التجاور بين الفنون البصرية وفنون القول يتبعه -في أغلب الأحيان- تداخل واضح.
فقد أصبح لشعر العامية المصرية قيمة فنية خالصة واكتسب مضمونه الفني أبعادا إنسانية زاخرة بالوعي الاجتماعي للفرد، بعد أن زاوج الشعراء أصحاب المرجعيات الثقافية التي تخدم الإيديولوجية الاشتراكية بين مرحلة "الرؤية الفكرية للواقع والفن" التي اهتمت بدلالات المنحى السياسي والمضمون الاجتماعي، وبين مرحلة "الرؤية الحديثة للشعر" التي تعايش خلالها القصيدة تجربة الشاعر بكل متطلباتها وما تتضمنه من عناصر غير البعد السياسي والمضمون الاجتماعي.
ثم استقبلت العامية المصرية بعد ذلك أصواتا جديدة، اتخذ كل صوت منها مسارا مختلفا، لكنها تعد – بلا استثناء- امتدادا لتجربتي فؤاد حدادوصلاح جاهين مع درجات واضحة من التجريب الشعري مثل: سيد حجاب الذي يعد امتدادا للرؤية الحديثة للشعراء الاشتراكيين،وعبد الرحمن الأبنودي الذي ارتبط بالمرحلة المعاصرة لشعر صلاح جاهين ولم يبتعد كذلك عن الجانب الإيديولوجي في المستويين القومي والاشتراكي، وكذلك مجدي نجيب الذي اتخذ مسارا مغايرا تمثل في قفزات زمنية متجاوزة سياقات تلك الفترة ومبتعدة عن ظرفها.
ارتكز الشاعر عبد الرحمن الأبنودي منذ مجموعته الشعرية الأولى "الأرض والعيال" (1964) على تراكم صور جزئية تفضي في النهاية إلى الصورة الواحدة الشاملة لمختلف الصور الجزئية للنص الشعري، والتي تتضح بفضل المسافة التي يخلقها الأبنودي بين القصيدة والمتلقي، وحرص في ذلك على المعنى والصور المشهدية ذات التجريد الرمزي ليحرر الصور الجزئية من قالبها التقليدي.
وتأكد كذلك اهتمامه بالواقع المرئي المباشر مع عدم الاستغراق فيه كما هو في حالته التسجيلية، ومحاولة صياغته في تراكيب سمعية مستمدة من الواقع نفسه، دون التورط في قيود التطابق الحرفي معه ليجرده من شكله المعتاد والمألوف ويعمم علاقات هذا الواقع في صياغات إيهامية غير معتادة أو مألوفة.
وفي ذلك يرى غالي شكري- - أن "هذا التعميم هو الذي يكسر الإيهام عند القارئ بالواقع الحرفي، والاستغراق في جزئيات الحياة اليومية لا يخلف سوى الشعور بألفيتها، أما وضع الفواصل الفنية والحواجز الشعورية بين العمل الفني ومتلقيه، تدفع القارئ إلى إعادة النظر فيه من جديد ليرى العادي والمألوف بعين غير عادية"؛ وقد حقق الأبنودي ذلك–وفقا لشكري- بوعي كامل عبر خطابه الشعري الذي يحرص على وجود مسافة فاصلة بين القصيدة بوصفها مجموعة من الصور المتراكمة في إطار من التجريد والتعميم وبين المتلقي الذي لا يرى منها إلا وجهها الواحد والنهائي.
وقد تحددت شعرية الأبنودي في اعتمادها على التراث الشعبي بكل مرونته وحيويته، وما يحفل به من قيم موسيقية وأبنية تعبيرية وتراكيب حية في الوجدان وعلى الألسنة؛ فكان استثمار القصص الشعبي وحكاياته عودة فنية لا تقوم على المتابعة أو التقليد المباشر، إنما محاولة لاستدعاء سياقات أحداثه وإسقاطها على الواقع الآني إما لإعادة تفسير تلك الأحداث من جديد في نسق عصري، أو لفهم هذا الواقع كامتداد حتمي للأحداث الماضوية.
واتساقا مع متطلبات الشكل الشعري الحداثي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، لجأ الخطاب الشعري العامي للأبنودي إلى تسريد الواقع؛ مما خلصه من سمة الغنائية الخاصة وقربه من الدرامية التي تعرض الواقع في مواقفه الصراعية، خاصة بعد أن أصبح الصراع ضرورة أساسية من متطلبات النص الشعريارتبطت ضرورته بطبيعة بنية القصيدة المعاصرة الواقعية القائمة على الجدل؛ ليأتي مكتسيا بملامح تعكس تجارب الشعراء في مجتمعاتهم المختلفة.
كما كان للبنى الحوارية دور في تخلي القصيدة العامية لدى الأبنودي عن غنائيها واقترابها من الطابع القصصي الذي يجعل من حكاية الواقع وتسريده مجازا للقول الشعري، فاعتمد الأبنودي على الحوار -بشقيه الخارجي والداخلي- باعتباره أداةتعبيرية مغايرة وتقنيةتشكيلية حداثية تخدم رؤيته الخاصة بعرض الأفكار المتعارضة وتعزز من فكرة المواجهة الصوتية والموضوعية.
وقد خلص الأبنودي العامية –استمرارا لنهج الآباء المؤسسين- من الزخارف اللغوية، لتشحن الكلمة نفسها لديه بتجربتها الخاصة في معاملاتها مع الواقع بعيدا عن التحذلق البلاغي أو التفاصح الزخرفي، وأخذ لغة الشعر إلى نثريتها وعاديتها كما اتضح في مجموعته الشعرية "جوابات حراجي القط" (1969)، المعتمدة على بنية الرسائل المقتربة من نمط اليوميات القائم على آنيةتسجيل التجربة.
ومن هنا تجاوز الأبنودي الشكل الذي كان معروفا لشعر العامية المصرية لاهتمامهبالاشتغال على هندسة القصيدة وهيكلتها بما يتناسب مع متطلبات الأداء الدلالي للقول الشعري؛ متحررا من القوالب الثابتة التي كانت معدة لأغراض محدودة. كما أولى للكلمة أهمية خاصة في النسق التركيبي النهائي للجملة نفسها؛ فإن اختيار كلمات معينة؛ بحيث نلتقي بأصوات لغوية محددة على نحو أكثر تواترا وتكرارا، يجعل هذه الأصوات ذات فاعلية بنائية، فالكلماتلديه لا تلتصق معا متجاورة فحسب بل تترابط في علاقات مختلفةوفق مبادئ تنظيمية خاصة تخدم مقصديته الواضحة في خلق الأثر الصوتي التنغيمي الذي يسهم في إبراز الدلالة وتوسيع نطاقها.
من هذا المنطلق، غيّر الأبنودي من جاهزية السطر الشعري السابق وتوازنه السيميتري، ليطول السطر الشعري أو يقصر وفق الدلالة المطلوبة، ولتأتي الوحدات الموسيقية المكررة في شكل خواتيم دورية –بتعبير شكري- ليؤدي بالقصيدة إلى وحدة المقطوعة بدلا من وحدة البيت.
ويتضح من البداية اهتمام الخطاب الشعري للأبنودي بتيمات محددة وموضوعات ذات بعد محلي خاص ترتبط بفضاءات الريف؛فقد عكس الخطاب الشعري للأبنودي الفضاء المكاني الخاص بالريف المصري، وتأثرتأبنيته اللغوية والتعبيرية بهذا الفضاء الذي تحين داخله وبمكوناته الموحية، فنجد على سبيل المثال أن "الأرض" تعد مكونا رئيسيا في خطابه الشعري لما لها من بعد قومي خاص بالانتماء للمكان/ الوطن وآخر اشتراكي خاص بالعدالة الاجتماعية.كما استدعى الفضاء المكاني لديه تيمة الارتحال التي ميزت الملاحم والأساطير؛ ليشيد قوله الشعري على تجربته الخاصة، وعلى تجربة ارتحاله من الريف إلى المدينة وحنينه للمكان الأول واغترابه عن الثاني وصعوبات اندماجه فيه، وارتبط الفضاء المكاني كذلك بالزمن وما يفرضه من تحولات على المكان والإنسان على حد سواء في محاولة لاستقراء الماضي واستشراف الحاضر.
ورغم اهتمام الأبنودي بتلك السمة المحلية للمكان وللتجربة الإنسانية المصرية والعربية؛ فإنالمناخ الفكري والثقافي حينها كان يدعمه فكرة الانفتاح على التجارب الإنسانية والتقاطع مع المد الفلسفي الوجودي المهتم بالقضايا الإنسانية وبأزمة الإنسان الوجودية، فخلقت التجربة الإنسانية المشتركة لديه وعيا متضامنا مع الإنسان وهمومه وتطلعاته؛ فاتساقا مع رؤيته الفكرية للواقع والفن وتماشيا مع مرجعياته التي تخدم الأيديولوجية الاشتراكية، اقترب الخطاب الشعريللأبنودي من الرؤية الكلية للعالم دون أن يتخلى عن الدور الاجتماعي لقصيدة العامية المصرية.